يدل مصطلح “المخزن” في أذهان الشعب المغربي على تلك النخبة الحاكمة التي تتمحور حول البلاط الملكي، وهو مصطلح يراه البعض سيء السمعة حاليًا، وإن كان ذا مدلول تاريخي عميق متعلق بالنظام الملكي المغربي ومفاصله القوية من التجار والأعيان وزعماء القبائل، وينضم إليهم من النخبة الحديثة قادة الجيش والأجهزة الأمنية.
يعود هذا المصطلح إلى عهد الاستعمار في المغرب، بعدما أصبح مرادفًا للحكومة والحاشية المحيطة بالسلطان، والتي تستفيد من مواقعها على حساب الشعب، ويُرجح أن يكون المعنى متصلًا بمعنى انتقادي لعملية جمع الضرائب لحساب أعضاء المخزن، بحيث اعتبرهم المغاربة “مخازن” لتلك الأموال والمصالح، وقد عدت البلاد الخاضعة إلى حكم السلطان باسم “بلاد المخزن” وشاع استخدام مصطلح “المخازنية” على العاملين في الدوائر القريبة من السلطان في الأمن والضرائب وغيره.
ثمة رأي آخر يرى المخزن أسطورة شعبية حاليًا، حيث إن توصيفه لم يعد دقيقًا بشكل كافٍ
تحمل المخيلة الشعبية المغربية لهذه النخبة انطباعًا سلبيًا، حيث تعزى إليهم حالات الفساد وتدهور البلاد والتحكم في أقوات المغاربة، ويُعتقد أن المخازنية لهم شبكات علاقات واسعة ممتدة في جميع مؤسسات الدولة.
وحديثًا أصبح المصطلح متدوال كبديل أو كمرادف لمصطلح “الدولة العميقة” في المغرب، والذي يشير إلى شبكات معقدة من المصالح متوغلة في الدولة إلى حد لا يمكن معرفته أو تخيله، ولكن يبقى هناك ارتباط ذهني مع المقربين من مؤسسات الحكم لا سيما المؤسسة الملكية، حتى إن البعض يذهب إلى أن المخزن يُعد أقوى من أي حكومة منتخبة أتت في المغرب أو قد تأتي.
لكن ثمة رأي آخر يرى المخزن أسطورة شعبية حاليًا، حيث إن توصيفه لم يعد دقيقًا بشكل كافٍ، أو يعتمد على نوع من العشوائية التي تكيل أزمات المغرب إليه كنوع من الاتكالية، أو الهروب من مكافحة الفساد واستحقاقاته سواء على المستوى الشعبي أو الحكومي.
ولكن في النهاية لا يمكن النفي في المطلق فيما يتعلق بعلاقات الثروة والسلطة في أي بلد، خاصة إذا كان هناك تاريخًا ممتدًا لهذه العلاقة تحت اسم “المخزن”، وهو أمر ضارب بجذوره في السياسة المغربية، ويعتبر البعض أن المراحل الحالية هي مراحل اصطدام الديمقراطية وحكم الشعب في المغرب بشبكات المصالح، وهو ما دفع قطاع معارض باتهام حكومة بنكيران الحالية بالتراخي في مواجهة “المخزن” بل امتدت الاتهامات لوصف الحكومة بالخضوع لتحكمات شبكات مصالح المخزن.
ما حدود نفوذ ما يُسمى بالمخزن في السياسة المغربية؟
الإجابة على هذا السؤال ضرورة للمهتمين بالشأن المغربي، خاصة قبيل انطلاق الانتخابات النيابية في المغرب بأيام معدودة.
دور المخزن في المغرب يمكن أن نستبدله بدور جماعات المصالح المتشابكة مع قطاعات الحكم بداية من الملك حتى البلديات المحلية، ولكن مفهوم وظيفة هذه الشبكات أكثر تعقيدًا فيما يبدو من مجرد الوصف، فهي تظهر وبقوة أثناء محاولات الإصلاح من الداخل، وهي المرحلة التي دخلها المغرب عقب النجاة من الربيع العربي.
تتجلي مظاهر هذه الشبكات في الجيش والإدارة، كما تعتبر الشؤون الاقتصادية والأمنية أحد أهم أولوياتهم
فهذه الشبكة اهتزت بنخبها لكنها لم تتحرك ولم تتغير، وقد ظهر ذلك على أداء الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” الذي استلم الحكم أثناء موجات الربيع الربيع، فثمة تصورات تصف الحزب الحاكم أو الائتلاف الحاكم بـ “الجبن السياسي”، كونه في البداية رفع من سقف برنامجه الانتخابي بدرجة غير مسبوقة أمام الشعب المغربي، لكنه اصطدم بوعورة تنفيذ هذا البرنامج على الأرض، ربما بعد اصطدامه بواقع تعقيدات تركيبة الحكم في المغرب.
نتحدث عن تجلي مظاهر هذه الشبكات في الجيش والإدارة، كما تعتبر الشؤون الاقتصادية والأمنية أحد أهم أولوياتهم، وهو ما يضمن تدخل الجيش والإدارة الموالية لهذه الدولة العميقة في أدق تفاصيل الحكم بحكم الاختراق والتوغل.
مواجهات العدالة والتنمية أمام الدولة العميقة
عقب الخطاب الملكي في الـ 9 من مارس 2011، والذي مهد لإصلاح دستوري، فسح الطريق أمام حزب العدالة والتنمية، كأول حزب من مرجعية إسلامية يتسلم مقاليد السلطة في المغرب، أكد البعض حينها أن قواعد اللعبة السياسية قد تغيرت في المغرب، بالرغم من أن النخب التقليدية مازالت تمسك وتحافظ على زمام السلطة.
فالمغرب اعتبر في نظر العديد حينها على أنه تجربة فريدة من نوعها، ومثالًا يحتذى بالنسبة للأنظمة الملكية في الشرق الأوسط، ولكنه في نفس الوقت لم يسلم هو الآخر من الحركات الاحتجاجية، فهو لا يشكل إلا نموذجًا للعديد من البلدان الأخرى التي عرفت فشل الإصلاحات الأساسية.
أظهرت مجلة “جون أفريك” هذا الفشل في مقال تحليلي، أكد أن ما يحدث في المغرب يسير على الطريقة المصرية التي أسقط فيها الجيش حكم الإسلاميين الذين وصلوا إلى سدة الحكم من خلال صناديق الاقتراع.
وذلك بعد تسليط الضوء في التجربة المغربية، على استمرار ما يسمى بـ “الدولة العميقة ” في البلدان العربية، في المغرب على المستوى الظاهري، فالحكومة المنتخبة، التي يقودها حزب العدالة والتنمية الإسلامي، تقتسم السلطة مع الملك محمد السادس، سليل الأسرة الملكية التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، حيث لا يزال الملك والقصر وقوات الأمن يحتفظون بتأثير كبير على القضايا الاقتصادية والسياسية الأساسية في البلاد، إلا أنه بالرغم من ذلك، فالإسلاميون في المغرب يلعبون المباراة على عدة جولات.
فبحسب ما ترى المجلة الفرنسية، يُوصف عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة وزعيم حزب العدالة والتنمية، بالرجل الذكي، المحكوم بأهدافه الخاصة، وهو الشيء الذي جعل المخزن إلى حد اللحظة ملتزم بخطوة ثنائية غريبة، وشراكة ” قسرية” مع حزبه.
فيما يرى البعض أن هذا من منطلق تميز المسار السياسي للمغرب منذ وصول الملك محمد السادس للحكم في العام 1999، عن مسار باقي الملكيات في دول المنطقة العربية، حيث وضع السادس بمجرد اعتلائه العرش، حدًا للاستبداد السياسي الذي مارسه والده الحسن الثاني، الذي عرف عهده انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
على غرار باقي الدول العربية الأخرى، يخشى رجال ظل الدولة العميقة، والمؤسسات الأمنية، من أن تتضرر امتيازاتهم ومصالحهم الخاصة
فتح الملك محمد السادس، المجال السياسي في المغرب إلى حد ما، كما قام بإطلاق الحريات الصحفية جزئيًا، وعلى المستوى الحقوقي، شكل لجنة للتحقيق أطلق عليها اسم “هيئة الإنصاف والمصالحة” في سنة 2005، وذلك لمعالجة الجرائم التي ارتكبت في عهد والده الحسن الثاني، كما أن مستشاريه أطلقوا عليه لقب “ملك الفقراء”، وعرف في جميع أنحاء المغرب بـ “برغماتيته الشديدة”.
إذن هي برغماتية تواجه برغماتية، وهو ما أدى في النهاية إلى أن الإصلاحات السياسية في المغرب، لا تزال بطيئة إلى حد كبير رغم تدهور معدلات الفقر، وعلى غرار باقي الدول العربية الأخرى، يخشى رجال ظل الدولة العميقة، والمؤسسات الأمنية، من أن تتضرر امتيازاتهم ومصالحهم الخاصة، فالحماس الذي أبداه الملك العدالة والتنمية لقيادة إصلاح حقيقي في البلاد، هدد قوى المخزن بشكل مباشر، وظهرت بوادر الصراع شيئًا فشيء.
ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى رئاسة الحكومة وبداية هذا الصراع عوض الملك محمد السادس ذلك بتشكيل فريق من المستشارين بالديوان الملكي، فيما يسميه البعض في المغرب بـ “حكومة الظل”.
فالمخزن في المغرب وقتها، وجد نفسه في مواجهة رئيس حكومة يتمتع بشعبية بعدما صعد بصندوق انتخابات، وينحدر من حزب سياسي، حاول أن يكون راديكاليًا في البداية قبل أن يغير توجهه، وفي نفس الوقت لا تزال لديه مسحة من خطابات الإسلاميين في المغرب، من معجم شعبي، وهذا ما جعلها تستهوي الطبقات الشعبية في البداية.
أما رؤية حزب العدالة والتنمية، فهي أنه يواجه مناورات عديدة، تستهدف إضعافه، لذلك يحمل البعض حزب العدالة والتنمية مسؤولية الإصلاحات غير الشعبية، كإعلان الزيادة في المواد الأكثر استهلاكية عند المغاربة، وهو ما اعتبره مناصرو الحزب يعد حيلة ضد الحزب، الذي يؤكد مناصروه أن هناك مناورات لإضعاف الحكومة وإسقاطها، حتى يعتقد الشعب أن الحكومة فشلت، وأن يخسر الحزب الانتخابات التشريعية المقبلة.
رأي آخر
يرى اتجاه في المغرب أنه ثمة تضخيم من قوة الدولة العميقة وشبكات المخزن وذلك عبر استخدام مفهوم الدولة العميقة للتراشق مع الخصوم، حيث يروم أن الحزب وقياداته ترفض تسمية البعض بهذا المصطلح، وفي نفس التوقيت يتم إسقاط مفهوم الدولة العميقة على خصوم آخرين.
ولا ينفي اتجاه آخر أن المغرب دولة تتغلغل بها شبكات مصالح في شكل أدوات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن لا يمكن فهم هذه الأمور بعقل المؤامرة دائمًا، ويجب فهمها بمنطق الغالب والشمول الذي معناه نزوع كل شيء إلى مركز القوة في البلد الذي هي المؤسسة الملكية ومحيطها.
المخزن في المغرب وقتها، وجد نفسه في مواجهة رئيس حكومة يتمتع بشعبية بعدما صعد بصندوق انتخابات
وفي النهاية المخزن كمصطلح مغربي خالص لا زال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتمحيص لتحديد الثابت والمتحول في أصله وطبيعته، وأدواره في ماضي وحاضر المغاربة خصوصًا مع التجربة الجديدة التي تخوضها المغرب، والتي ستحدد الانتخابات القادمة ملامح استمرارها من عدمه.