حيث إنني مكثت أطول مدة برحلتي في تلك المدينة لعدة أسباب، فضلت أن أبدأ بها سلسلة مقالاتي المفصلة عن المدن التي زُرتها خلال رحلتي بالبحر الأسود، طرابزون مدينة تقع بالشمال الشرقي لتركيا في واحدة من أعلى نقاطها شمالاً على ساحل البحر الأسود، وتقع على طريق الحرير التاريخي حيث كانت بوابة تجارية لدول الشرق مثل إيران والقوقاز، فهي محور المنطقة الشرقية للبحر الأسود بتاريخها الطويل، حيث لا يزال يذكر الأتراك إلى يومنا أن السلطان العظيم سليمان القانوني عاش بها الى أن بلغ عامه الخامس عشر، ويقال أيضًا إن أتاتورك كتب جزءًا من وصيته الأخيرة بطرابزون وهذا شيء لفت نظري، وُلد وعاش بها سلطان وصلت بفترته الإمبراطورية العثمانية إلى أقوى فتراتها، وكتب بها من أنهى تلك الإمبراطورية وصيته!
ولو تحدثنا عن جمال طبيعتها سنجد أن طبيعتها الساحرة قد جذبت الأعين وأصبحت وجهة سياحية مميزة يختارها الكثير من السائحين، جاء الاسم المُتّرك (طرابزون) من الاسم الأول للمدينة وهو (طرابيزوس) والتي تعنى (طاولة)! – من هنا نلاحظ التشابه مع الكلمة المصرية العامية ترابيزة -.
تُعرف طرابزون بتراثها الاجتماعي والثقافي مما جعلها واحدة من أشهر المدن التركية، واشتهرت المدينة مؤخرًا كوجهة للسياح العرب، فهيمنت نسبة السياح العرب على المدينة حيث أصبحت الأغلبية المطلقة من السياح من العرب خاصة القادمين من منطقة دول الخليج، وفي حديث لي مع أحد ممثلي شركات السياحة التركية قال لي مُعلقًا على تلك الإحصائية إنه من الطبيعي جدًا أن تجد أن معظم السائحين قادمين من تلك المنطقة، حيث تملأهم الرغبة والشغف في رؤية الخضرة والأشجار والطبيعة نظرًا لقدومهم من منطقة صحراوية لا تمتلك ما قد يجدونه هنا في طرابزون على حد قوله.
يحد طرابزون شمالاً البحر الأسود المحمي بجبال تصل ارتفاعاتها إلى ثلاثة آلاف متر، يشتهر طقس طرابزون بكثرة أمطاره ونجد آثار تلك الأمطار واضحة فى تلك الحياة النباتية الغنية بالمدينة التي تزدهر بها حوالي أربعمائة وأربعون نوعًا مختلفًا من النباتات، لهذا السبب يعتمد اقتصاد طرابزون بوجه كبير على الزراعة والمنتجات الرئيسية هي التبغ والبندق والشاي.
بدأت رحلتي إلى طرابزون وعند اقتراب وصولي للمدينة اصطدمت عيناي بالمباني القبيحة على طرفي الطريق، فقلت لنفسي قد تكون تلك هي المقاطعات التابعة لطرابزون وليست طرابزون نفسها، مؤملاً نفسي لاختفاء تلك المباني عند الاقتراب من مركز المدينة ذاتها، ولكن دامت تلك المباني على امتداد الطريق إلى أن أخبرنا بوصولنا إلى مدينة طرابزون ووصولنا إلى محطة الباصات (الترمينال) هو واحد من أسوأ ما رأيت بتركيا خلال رحلاتي، مُلئت بالصدمة لوهلة، أتلك هي طرابزون التي ظننتها من جنات تركيا؟ أين تلك البيوت التراثية الخشبية التي أخبروني بأنني سوف أراها؟ لم أر سوى كُتل قبيحة من الخرسانة بُنيت دون وضع أي اعتبار للقيم الجمالية، أُصبت بخيبة الأمل والصدمة ولكن بعد قطع كل تلك المسافة لم أجد سوى الذهاب لمحل إقامتي هناك للاستراحة من الطريق الطويل ولبداية البحث في المعالم السياحية التي يجب زيارتها قبل رحيلي من هنا.
هذا ما قصدته بتذكر ما مضى، ففي الواقع لقد تذكرت الأحياء العشوائية بمصر، كل شيء كان يشبه الفوضى، تلك الشوارع المزدحمة، الطرق المتكسرة، المواصلات السيئة وغير المنتظمة، عربات الميكروباص القديمة التي تذكرني بالتي كنت أراها بمصر والتي لم أرها في تركيا في أي مدينة على مدار الثلاث سنوات، وحين سؤالي لصديقي عن سر ذلك، قال لي إن مستوى المدينة الآن تحسن عما كانت عليه من قبل، فبفضل الأموال القادمة من السياح العرب بدأت بعض التطويرات والتحسينات، قلت له وهل كان هنالك أسوأ مما أراه؟
لذا ما أود أن أنصح به المسافرين إلى منطقة البحر الأسود ألا يمكثوا أكثر من يوم بمركز مدينة طرابزون، أما باقي أيام رحلتهم فعليهم أن يقضوها في المدن التابعة لمحافظة طرابزون والتي تمتاز بطبيعتها الخيالية مثل أوزونجول أو “اليايلار” أي المرتفعات أو المراعي! ولنبدأ الآن في شرح بسيط لأهم معالم طرابزون السياحية والتي يجب زيارتها عند مرورك بهذه المدينة:
أوزونجول
تعتبر أوزونجول أو “البحيرة الطويلة” من المناطق البيئية المحمية، تقع أوزونجول على بعد 99 كيلومترًا من طرابزون وعلى بعد 19 كيلومترًا من قرية “تشايكارا”، تكونت البحيرة نتيجة لانهيار أرضي بعد أحد الفيضانات التي أغرقت القرية، وكأن الأرض أرادت أن تضحي بجزء منها لتكشف عن جمال كان مستورًا بداخلها، تلك البقعة المميزة من الأرض المحاطة بتلك الجبال الخضراء المُتأنقة وسط مناظر طبيعية غنية من أشجار وسُحب، ويمتد حول البحيرة طريقًا للمشاة ليستمتعوا برفقة البحيرة في سلام داخلي بعيدًا عن ضوضاء العالم الخارجي، فتلك الجبال المحيطة بالبحيرة تفصلك عما بالخارج.
يأخذ الطريق من طرابزون إلى أوزونجول ما يقرب من الساعتين بالباص، حيث يمكنك استقلال الباص من مركز طرابزون بمبلغ زهيد وعند وصولك أمامك خيارين، إما أن تقضي ليلتك هنالك في أوزونجول في أحد الفنادق أو الأكواخ التي يمكن تأجيرها وهو اختيار باهظ، لارتفاع أسعار تلك الأكواخ والفنادق، أو أن تستقل باص العودة بعد عدة ساعات بعد انتهاء جولتك في أوزونجول.
أفضل أن أكتب مقالاً مفصلاً لاحقًا عن أوزونجول لأنها برأيي أفضل ما بطرابزون، بل يمكنني الادعاء بأنها من أجمل المناطق بتركيا على الإطلاق.
دير سوميلا
بُني دير السيدة العذراء المسمى بدير سوميلا على ارتفاع ألف ومائتين متر من مستوى البحر على جبل ميلا، ويقع الدير بمقاطعة ماتشكا في طرابزون على بعد خمسة وأربعين دقيقة من المركز، أُسس الدير في القرن الرابع الميلادي وهو عبارة عن مجمع كنسي داخل كهف بُني بداخله كنيسة، ونافورة مقدسة، وحجرات للدارسين، وغرفة للضيوف، وتمت إليه بعض الإضافات والملحقات في القرن التاسع عشر، وتعتبر الوحدة الرئيسية للمجمع هي كنيسة الصخرة المطلي على جدرانها الخارجية لوحات جصية تمثل مشاهد حياتية للمسيح وللسيدة العذراء.
مسجد أياصوفيا
يعد مسجد أيا صوفيا واحدًا من أهم المنشات البيزنطية بمنطقة البحر الأسود، كان المسجد كنيسة ثم تحول إلى متحف وتحول إلى مسجد منذ حوالي ثلاث سنوات فقط، يُرجع البعض تاريخ أيا صوفيا إلى عهد الإمبراطور مانويل الأول ما بين عامي 1238 و1263، ثم تم ترميمه بين 1958 و1962 ليتم استخدامه كمتحف إلى أن تم تحويله لمسجد الآن وقد غُطي سقف المسجد لإخفاء الرسومات الكنسية في منطقة الصلاة.
القلعة والمدينة التاريخية
ربما تكون أيضًا جولة بـ “وسط البلد” لزيارة المدينة التاريخية والأسواق والقلعة فكرة جيدة إذا كنت من محبي الحركة والحيوية، أما إذا كنت تكره الزحام وجئت إلى طرابزون فقط للاستمتاع بالهدوء والسكينة فزيارة كتلك قد تحذفها من برنامج رحلتك!
المرتفعات والمراعي
توجد العديد من المرتفعات التي يتوافد إليها السياح للاستمتاع بالمناظر الطبيعية والصعود فوق السحاب في شعور قلما تجد مثيله في تركيا ومن أشهر المرتفعات (ماتشكا مافورا – طونيا كاديرالاك – تشاكر جُل – كاديرجا – دُز كُي – السلطان مراد) وغيرها، وتحتاج لزيارة تلك المرتفعات أن يكون لديك سيارة خاصة أو تستأجر سيارة وسائقًا وحاول أن تقوم بالفصال حتى لا يتم خداعك من قبل الشركات السياحية.
قررت إذًا الذهاب إلى طرابزون؟
كيف ستذهب إليها؟
يوجد أمامك عدة خيارات أسهلها على الإطلاق هو الطيران، حيث يتمتع الطيران الداخلي بتركيا برخص أسعاره نسبيًا، واقتراب قيمته من قيمة تذكرة الباص العادية، لذلك يعتبر السفر جوًا إلى طرابزون أسهل وأكثر الوسائل راحة بالنسبة إليك، حيث ستقطع المسافة جوًا فقط فيما يقرب من ساعة بينما يستغرق الباص ما يقرب من ثمانية عشر ساعة، وتوجد رحلات منتظمة جوية إلى طرابزون من العديد من المدن التركية كإسطنبول وأنقرة وبورصة وإزمير، وتوجد رحلات منتظمة بالباص من جميع المدن التركية تقريبًا، ويمكنك أيضًا الوصول إلى طرابزون عن طريق رحلة بحرية في البحر الأسود تنظمها بعض الشركات السياحية ولكنها مكلفة بعض الشيء.
أين سأمكث خلال رحلتي هناك؟
إذا كنت مثلي لا يهمك كثيرًا جودة المكان الذي ستسكن فيه لأنك ستقضي طيلة يومك في الخارج وستذهب فقط للنوم، فقد أنصحك باستخدام موقع مثل إير بي إن بي الذي يساعدك على استئجار غرفة في شقة بسعر ليس بالباهظ، لأنه للأسف لا يوجد على حد علمي هوستل بمدينة طرابزون لأن تطور السياحة بها مازال في بدايته، ولأن معظم السائحين كما ذكرت من العائلات العربية التي لن تمكث بالطبع في هوستل، لذا فالبدائل كلها عبارة عن فنادق لن تكون مناسبة للمسافر الذي يحدد ميزانية محدودة لسفره، إذا كنت ستذهب لقضاء شهر العسل وخلافه هناك، فأنصحك بالمكوث بأوزونجول وتكمن النقطة في إيجاد سعر مناسب أو مكان قريب من أوزونجول لأن أسعار الوحدات هناك غالية إلى حد ما، حيث إن الاقامة بمركز محافظة طرابزون لن تكون ممتعة في رأيي أو رومانسية على الإطلاق! فالبديل إما أوزونجول أو إحدى الوحدات التي قد تستأجرها في أحد المرتفعات والمراعي.
وأخيرا قبل أن ترحل من طرابزون عليك أن تتأكد أنك:
– زرت مرتفعات طرابزون الخضراء “المراعي” واحدة منها على الأقل أو أكثر، لتستمتع بالنظر إلى السحاب من أسفلك، والمساحات الخضراء الواسعة التي ستجعلك تشعر بلا نهائيتها من حولك، تتمدد على الزرع وتتفكر في خلق الله متنفسًا الهواء المُنعش الذي يداعب أنفك.
– زرت دير سوميلا الذي أُسس في القرن الرابع الذي يعتبر واحدًا من أشهر معالم طرابزون.
– قضيت يومًا على الأقل في أوزونجول متمشيًا حول البحيرة متسلقًا لإحدى الهضاب المجاورة لالتقاط صورة تذكارية لواحدة من أجمل المناظر التي ستراها بطرابزون بل وبتركيا كلها.
– زيارة مسجد أياصوفيا الذي كان متحفًا وتحول إلى مسجد منذ عدة سنوات فقط والذي يعود تاريخ إنشائه إلى القرن الثالث عشر.
– زيارة بيوت طرابزون التاريخية في منطقة أورطاحصار.
– الاستمتاع بمنظر مطل على مدينة طرابزون أثناء الغروب من تل بوزتبة مستمتعًا بشرب الشاي الطرابزوني الشهير في القهوة المتواجدة هناك.