في الثامن من حزيران (يونيو) 1992 قٌتِلَ فرج فودة، كان فرج فودة قد أثار صخبًا بكتاباته، وتم اتهامه بالردة والكفر، كان فرج فودة يكتب، وكان هناك من يُفَنِّدُ ويرُد، وكانت المناظرات تُعقد، ويتبارى المتحاورون ويحتدم النقاش، ويتضح الصواب من الخطأ، على مرأى ومسمع من الجميع، كان الحق أبلج، والباطل كعادته لجلج، فماذا حدث حين قُتِل فرج فودة؟ صار ملء السمع والبصر، يذكره القاصي والداني، وبات شهيد الرأي والكلمة، أيًّا ما كان الوصف الأليق بهذا الرأي وبهذه الكلمة، وصار علامة على إجرام مزعوم للإسلاميين جميعًا، وباتت الندوات والمؤتمرات تُعْقَد والمطبوعات والكتب تُدَبَّجُ حوله وحول أفكاره التي سبق وأن تمَّ تفنيدها مرات ومرات!
يطيب لبعض الغيورين على الإسلام أن يعبروا عن فرحهم بمقتل بعض من يسيء إلى الإسلام ويوجه له سهام تشويهه وتجريحه الباطلة، كما حدث من بعض الحركيين وغيرهم مؤخرًا مع نبأ مقتل ناهض حتر، غير أنه يفوت على كثير منهم إدراك عواقب تصيب الحركة الإسلامية والمجتمع المسلم من جرَّاء هذه المباركة والتأييد والفرح، والتنبيه لهذه العواقب لا يعني أولويتها على حق الإسلام في الذَّبِّ عنه والدفاع عن حياضه، ولكنه تنبيه لحق هذا الدين في تبوأِ المكانة اللائقة به وتحقيق مقاصده في حفظه أولا، فما الذي يفيده الإسلام من قتل أشخاص لا يكادون يُعْرَفُون خارج دوائر محدودة وبقاع جغرافية ضيقة إلى آفاق شهرة أوسع؛ ينبني عليها قيام هذه الدوائر بشرعنة أكبر لوجودها وتوغلا أشدَّ وتطرفًا أقسى في بنى ومؤسسات المجتمع السياسية والإعلامية وغيرها، وترميزًا وأيقنةً لمن لا يستحقون هالات تبجيل وتخليد ذكرى لم يكن أصحابها، فضلا عن أتْباعهم، يحلمون بها، في حين كان إثبات تهافت آرائهم وسخف التمسك بها أجدى نفعًا وأعظم أثرًا في انصراف الناس عنها وإدراكهم لحقائق العقيدة والشريعة.
يدرك المتأمل لواقع نظم الاستبداد العربية صلتها بالمكون الديني في المجتمع، فهي صلةُ استخدامٍ واستهلاكٍ لتحقيق المآرب الخاصة باستمرارها وبسط نفوذها واستمرار هيمنتها، وتبقى مظاهر تعاملها المختلفة مع الشأن الديني بكل مكوناته النابعة منه والمحترِمة له والمتطرفة ضده، عبارة عن مكونات علاقة معقدة ومتشابكة تسعى لإدارتها لتحقيق مكاسبها الذاتية دون مشاعر أو عواطف دينية في الغالب الأعم.
تَطْرَبُ أنظمةُ الاستبداد لحالة الصراع بين أهل الدين وعلمائه المعتدلين منهم والمتطرفين وخصومهم، وتُلقي لكل فريق منهم حبلا يربطه بها، ولا يصرفه عنها، تعطي لفريق منهم وزارة، ولآخر مثلها، ولثالث تصريحًا بالعمل وغض الطرف عن حركته، تمنح هذا جريدة، وذاك مجلة، وتجعل قسمة القنوات الفضائية ضيزى، تقرب الخصوم لفترة، حتى إذا ما وصل الاستفزاز حدًّا معينًا نأت بنفسها عنهم، وهرولت نحو علماء (الاعتدال!) تستميلهم، وتُصدر في الطريق من القرارات ما يستميل المتطرفين الذين يدَّعون تفرُّدهم بالتعبير عن الدين والدفاع عنه، حتى إذا ما هدأت الأوضاع أثارتها حينًا بعد آخر، وتصرَّفت على النحو المعهود في معالجة تدهورها، وهي في هذه الأطوار تزداد قوة ونفوذًا، وتتمتع بصرف أنظار المجتمع عن فسادها واستبدادها بالقدر اللازم لعدم توجهه لرقابتها ومحاسبتها ومساءلتها وتغييرها.
وفي هذه الأطوار أيضًا تُشَوَّه الحركة الإسلامية بروافدها المختلفة وتضرب بعنف وقسوة، وإن لم يرتكب من ينتسب إليها فعلا فيها، ويتم ترهيب البسطاء من ردود أفعال مزعومة منهم لمن يختلف معهم، وقد جرَّبنا أثر هذا التشويه في غير قُطْرٍ من أقطار المسلمين، فُعلت بها الأفاعيل التي تحول دون تمكُّن قيم الإسلام ومبادئه وتشريعاته ونموذجه الحضاري من إحداث نهضة بها، وتحول دون إحداث تغيير جوهري لحركة مجتمعاتها وقدراتها.
إن وجهة الحركة الإسلامية بجُلِّ روافدها ينبغي أن تتوجه بتحرُّكٍ مركَّز ورشيد نحو إحداث تغيير حقيقي في بنية مجتمعاتنا لتترسخ فيها قيم العدالة والحرية والكرامة والمساواة، بجمع الكلمة والتأكيد على القضايا الكبرى والاهتمام بمعاش الناس ومصالحهم، وألا تصرف أنظارهم قضايا أو مسائل هامشية عن وجهتهم الأساسية، خاصة أنهم يستطيعون تفويت الفرص على المتربصين بهم في جانب الأنظمة وجماعات التطرف ضد الدين وأهله. إن الناظر فيمن صار رمزًا بقتله، ومن أمسى مجرَّدًا من كل أدوات التعريف ممن يدَّعون التنوير وهم يتمرغون على أعتاب بلاط القهر والاستبداد، يرى كيف يتحول هؤلاء لعبء على الأنظمة بمرور الوقت لأنه يثبت لدى الجميع رعايتها لهم وتمكينها إياهم، وكيف يكونون أطواق نجاة لها عند قتلهم!