أعلنت وزارة الداخلية المصرية في بيان رسمي لها، عن تصفيتها للدكتور محمد كمال، عضو مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين، وأحد مؤسسي اللجنة الإدارية العليا التي شُكِّلت لإدارة الجماعة بعد أحداث فض اعتصامَيْ رابعة والنهضة، في أغسطس من 2013م.
ظل اسم الرجل لفترة طويلة مرتبطًا بمحور الممانعة داخل الإخوان المسلمين، وأحد العوامل المهمة لاستمرار صوت الثورة والتغيير الراديكالي المعبرة عن قطاع عريض من شباب الجماعة، طيلة سنوات الأزمة الماضية التي مضت منذ انقلاب يوليو 2013م، وحتى الآن، ردًّا على عنف الدولة المفرِط ضد الجماعة، والذي شمل قتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف، وفرار الكثيرين إلى خارج الوطن، ومصادرة أموالهم.
وبكل تأكيد، فإنه، وبرغم تأكيد البعض الدائم على أن الكيانات المؤسسية الكبرى من عينة الإخوان المسلمين، لا تتأثر برحيل أشخاص، وإنما ترتبط بالفكرة والمنهج، وأن سياقاتها الحركية تتحرك من خلال المؤسسية القائمة، إلا أنه في حالات معينة، ومنها حالة الدكتور محمد كمال، يكون لغياب الشخصيات أثره العميق على الحالة السياسية والحركية، وخصوصًا لو تم تغييبها عن المشهد بنسق مثلما حصل مع الدكتور محمد كمال.
ولا تقتصر أهمية الشخصية على كونها كانت النجم الأكبر اللامع في سماء التعبير عن الحالة الوجدانية لآلاف الشباب الإخواني والمصري بشكل عام، الراغبة في الانتقام من النظام الانقلابي الحالي، من خلال استخدام ممنهج للعنف ضد الدولة، يوظف طاقات الشباب الموجودة، وإنما كانت أهميته الحقيقية من وجهة نظر الكثيرين في طرحه لفكرة التغيير والإصلاح داخل جماعة الإخوان المسلمين نفسها، واعتباره ذلك أولوية ثانية جنبًا إلى جنب مع فكرة الانتقام لضحايا الانقلاب والفض وما تلاهما من أحداث، والدخول في مواجهة انتهائية مع الدولة بعيدًا عن شعارات السلمية التي تبنتها ما يُطلق عليها “القيادات التقليدية” أو “التاريخية” للجماعة.
ظل اسم الرجل لفترة طويلة مرتبطًا بمحور الممانعة داخل الإخوان المسلمين، وأحد العوامل المهمة لاستمرار صوت الثورة والتغيير الراديكالي المعبرة عن قطاع عريض من شباب الجماعة
وكانت مطالبه ورؤاه الخاصة بالتغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين تشمل شقَّيْن أساسيَّيْن: الأول هو تنحي القيادات الحالية للجماعة، بسبب كونها إما رهن الاعتقال، فلا تستطيع القيام بأعباء مهامها في مرحلة دقيقة بالفعل من تاريخ مصر، ومن تاريخ الجماعة التي تعرضت إلى حملة اجتثاث ممنهجة، والثاني هو إجراء انتخابات عامة تشمل جميع المواقع القيادية في الجماعة، باعتبار ذلك الحل الوحيد لإنهاء الانقسامات الراهنة بداخلها.
وكان كمال أحد أهم الأصوات المتحمسة لاستبدال الصفَّيْن الأول والثاني الحاليَيْن في الجماعة، بالشباب والجيل الأصغر سنًّا باعتبار هؤلاء الأكثر احتكاكًا بالشارع، والأكثر دراية به وبمطالبه، والأكثر قدرة – كذلك – لهذه الاعتبارات، على التفاعل مع الجماهير وتحريكهم، وأن الظرف الراهن أثبت فشل القيادات الحالية في إدارة شؤون الجماعة السياسية والتنظيمية، وجعلها تخسر كل المكاسب السياسية والجماهيرية التي حققتها خلال مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير من العام 2011م.
ومصداقًا لذلك، أعلن الدكتور محمد كمال، في مايو 2016م، في تسجيل صوتي، عن استقالته من جميع مناصبه، والاستجابة لمبادرة اللجنة الإدارية العليا لإجراء انتخابات شاملة في الجماعة، وهو ما كان له دورٌ كبير في تدعيم مصداقية خطابه داخل قطاع عريض من الصف الإخواني.
كان الدكتور محمد كمال يعتمد على سياقات عدة في طرحه للرؤى التي يريد تنفيذها على مستوى الجماعة، وعلى مستوى الصراع الحالي مع الدولة، وتشمل قطاع لا بأس به من شباب الإخوان اللذين لا يزالون متواجدين داخل مصر، بالإضافة إلى مجموعة أخرى في خارجها، وكان يعمل على التنسيق بينها في سلسلة مختارة من المهام تنوعت بين ما هو تنظيمي وما هو مادي.
وكان أبرز ما ركز عليه كمال، أهمية الاستمرار في دعم أسر المعتقلين من الإخوان الرافضين لمبدأ المصالحة أو حتى التهدئة مع الدولة، في المقابل تشير تقارير إلى أن ما يُعرف بجناح القيادة التاريخية للجماعة، الذي يقوده الدكتور محمود عزت، قد بدأ في التمييز في صرف المخصصات بناء على موقف المعتقلين من السياسة العامة للجماعة في هذه المرحلة؛ حيث صارت الأولوية – وفق هذه التقارير – لذوي المعتقلين الذي حافظوا على مبدأ “السمع والطاعة”، واستجابوا لاعتبارات الانضباط الحزبي داخل الجماعة.
كان كمال وعدد آخر من قيادات اللجنة الإدارية العليا أسبق من القيادة الحالية للجماعة لتطبيق فكرة الذراع الطويلة، أو الذراع القوية، التي كانت موضوعة ضمن المرحلة الثالثة من مراحل مشروع الجماعة للتصدي للانقلاب، وهي الإرباك ثم الإنهاك ثم الحسم
أما منهجه فيما يتعلق بضرورة تفعيل العمل الثوري المسلح الموجه ضد الدولة، فكان وفق ما تواتر من شهادات نشرها البعض من مقربيه، وتسربت إلى وسائل الإعلام، يعتمد على رؤية ضرورة توجيه هذا العنف إلى المؤسسات الأمنية والعسكرية، والشخصيات التي أيدت الانقلاب، وساعدت الدولة في جرائمها ضد الإخوان مثل قضاة الأحكام وكبار ضباط التعذيب ومن في حكمهم، وضد القوى والشخصيات الثورية التي أيدت الانقلاب وظل في الدعوة إلى استمرار الثورة في الشارع.
كانت “ظاهرة” محمد كمال داخل الإخوان ردّ فعل طبيعي على مجزرة رابعة وما تلاها
وكان يبدو حريصًا على ألا يكون العنف مستهدِفًا المواطنين، بحيث لا يؤثر ذلك على علاقة الإخوان بالشارع، ويصبغ هذا العنف بصبغة المشروعية اللازمة، باعتباره عنفًا مستهدفًا ضد “قتلة ومجرمين”، وأن الشعب المصري خارج هذا الصراع مع الدولة الفاسدة المستبدة.
وكان كمال وعدد آخر من قيادات اللجنة الإدارية العليا أسبق من القيادة الحالية للجماعة لتطبيق فكرة الذراع الطويلة، أو الذراع القوية، التي كانت موضوعة ضمن المرحلة الثالثة من مراحل مشروع الجماعة للتصدي للانقلاب، وهي الإرباك ثم الإنهاك ثم الحسم، ولكنه رأى البدء بها في ظل تصاعد عنف الدولة، وعدم جدوى الانتظار لفترة أطول قد تقود إلى نتائج عكسية، مثل ركود الشارع.
وهو ما حدث بالفعل في العامَيْن الأخيرَيْن، فبخلاف بعض الوقائع النادرة مثل إضراب الأطباء في مستهل العام 2016م، ومظاهرات تيران وصنافير في أبريل 2016م، وأزمة نقابة الصحفيين التي تلتها مع وزارة الداخلية، لم يعرف الشارع المصري مظاهرات احتجاجية واسعة تُذكر، بالرغم من كل المشكلات الاقتصادية والمعيشية، وتصاعد عنف الشرطة وقوات الأمن، وفشل الخطط التي أعلن عنها النظام لاستعادة وتيرة النمو الاقتصادي وفشل ما أعلن عنه من “مشروعات قومية”.
الخلافات مستمرة!
ربما ليس من قبيل التبكير بالحكم، أن نقول إن الخطوة من شأنها تعميق الانقسامات الحالية داخل الإخوان المسلمين، وهو ما بدا في التعليقات التي بدأت تنتشر في وسائل الإعلام، وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، من قيادات ورموز جناحي الأزمة، وشباب الجماعة، عقب الإعلان عن اغتيال الدكتور محمد كمال، ومرافقه ياسر شحاتة، الذي كان يمثل عنصرًا مهمًّا في عملية التأمين والاتصال للدكتور محمد كمال.
فهناك أولاً شكلٌ من أشكال “التخوين” من جانب البعض، لجناح الدكتور عزت، بأنه عمل على تسليم الدكتور كمال للدولة المصرية، لإحكام السيطرة على الجماعة، ولتحسين الموقف التفاوضي بينه وبين الدولة، وفق تقارير عدة منشورة.
التيار الثاني الأوسع، يتهم القيادة التاريخية للجماعة بالتسبب في كل هذه المشاكل، بتبنيها مبدأ السلمية، الذي أتاح – وفق وجهة نظرهم – للدولة الاستمرار في طغيانها وجرائمها، ويتوقعون منها “التفريط” في دماء الدكتور كمال وصحبه، كما “فرطت” في الدماء والأعراض السابقة.
خلافات عزت وكمال على توقيت إطلاق عمليات العنف ضد الدولة قادت إلى انقسامات داخل الجماعة
في المقابل، لم تُبدِ – حتى لحظة كتابة هذه السطور – قيادة الجماعة التاريخية أي رد فعل قوي حتى على المستوى الإعلامي، لاغتيال الدكتور محمد كمال، وإن كان قد صدر بيان إدانة حمل توقيع الدكتور طلعت فهمي، المتحدث باسم الإخوان المسلمين، الجناح المحسوب على الدكتور عزت، عندما صدرت التقارير الأولى عن اعتقال الدكتور محمد كمال.
وزاد من وطأة الأزمة، الموقفَيْن اللذَيْن نقلهما الإعلام المحسوب على الدولة في مصر، عن الدكتور محمد كمال، حيث نشرت “اليوم السابع” ومصادر أخرى، أولاً نبأ اعتقال الدكتور محمد كمال، في منطقة القطامية الواقعة شرق العاصمة المصرية، قبل أن تعلن صحيفة “الوطن”، عن “مقتل إرهابيَّيْن” في المعادي، ثم تعود “اليوم السابع” إلى نشر خبر “مقتل” الدكتور محمد كمال.
هذا التسلسل الزمني الذي تلا تحذير محمد منتصر، المتحدث باسم جناح اللجنة الإدارية العليا في الجماعة، في وقت مبكر من مساء أمس، الإثنين، 3 أكتوبر 2016م، من انقطاع الاتصال مع الدكتور محمد كمال، واحتمال اعتقاله، وأنه يحمل الدولة مسؤولية سلامته؛ ما يشير إلى أن كمال لم “يُقتل”، وإنما تمت تصفيته بعد اعتقاله بفترة زمنية لا تتجاوز ما بين ساعتَيْن إلى ثلاث ساعات.
وهو ما كان يتطلب ردَّ فعلٍ فوريٍّ من جانب الجماعة بقيادة عزت، باعتبار أن الحدث جلل، ولكن تأخُّر هذا الرد حتى صباح الثلاثاء، أثار حفيظة الكثيرين، وجعل هناك تكهنات أو توقعات في حقيقة الأمر، بأن دماء كمال سوف تضيع مع سابقاتها.
لماذا الآن؟!
لعل هذا هو أهم الأسئلة، توقيت العملية بالنسبة للنظام.
على المستوى التقني الأمني القريب، جاءت الواقعة على خلفية دعوات التظاهر في يوم 11 نوفمبر المقبل، فيما أطلق عليه “ثورة الجياع”، والتي تزامنت مع تصعيد لأعمال العنف في داخل القاهرة، وشملت محاولة الاعتداء على مصرف “CIB” في منطقة السبتية، وما قيل إنه محاولة اغتيال للنائب العام المساعد، المستشار زكريا عبد العزيز، الأسبوع الماضي، في منطقة القاهرة الجديدة.
ويُلاحَظ أن العملية جاءت في أعقاب الكشف عمَّا عُرِف بخلية الـ 17 الإخوانية، والتي قالت وزارة الداخلية إنها كانت تستهدف التأثير على الروح المعنوية للمجتمع المصري، وضرب أهداف استراتيجية تشمل شبكة الغاز الطبيعي، وإحداث فوضى عامة، تدعم دعوات 11/11 الاحتجاجية.
إلا أن الأمر أكبر من ذلك، ويتصل بأهداف سياسية وإعلامية أخرى، بعضها يتعلق بالإخوان، وبعضها يتعلق بالدولة.
فهناك من رأى أن الموضوع يهدف إلى تعميق الانقسامات داخل الإخوان، ونشر روح التخوين داخل الجماعة.
كانت مطالبه ورؤاه الخاصة بالتغيير داخل جماعة الإخوان المسلمين تشمل شقَّيْن أساسيَّيْن: الأول هو تنحي القيادات الحالية للجماعة، والثاني هو إجراء انتخابات عامة تشمل جميع المواقع القيادية في الجماعة
ولقد نشر البعض على “فيسبوك” بالفعل، أن الدولة كانت تتوقع هذه الخلافات، فاغتالت كمال بهذه الصورة، لإحداث هذا الأثر، بينما كانت تعرف مكانه ومكان قيادات أخرى لا تزال بعيدة عن قبضة الاعتقال، فقط هي تنسِّق الإطار الزمني لاعتقالها أو مقتلها لتحقيق أثر تنظيمي أو سياسي.
الجانب الآخر، يتعلق بأزمات الدولة الاقتصادية وفشلها في الحفاظ على هيبتها ممثلة في العملة الوطنية التي تراجعت قيمتها بنسبة تزيد على الستين بالمائة في غضون الثلاث سنوات الأخيرة، وعدم نجاحها في ملف الاقتصاد والأمن عمومًا، في ظل مؤشرات عدة، من بينها تراجع عائدات قناة السويس، وفشل مشروع التفريعة الجديدة في تحقيق عائدات، وتراجع قطاع السياحة في 2016م عن 2015م، بنسبة النصف تقريبًا.
فكان اختيار الدولة لهذا التوقيت الزمني، من أجل تحقيق أكثر من هدف، أهمها تحميل الإخوان مسؤولية هذا الفشل و”تعطل قطار التنمية”.
وبكل تأكيد، يبقى الغالب خافيًا في الخلفية، وفي طيات الدفاتر، ولذلك سوف يبقى ملف اغتيال الدكتور محمد كمال، مفتوحًا، مثل ملفات دماء أخرى سالت على أرض الوطن في صراع السلطة والسلطان المستمر في المحروسة منذ عقود طويلة.