يقول الفيلسوف الألماني فيرديريك نيشته: “احذر وأنت تحارب الوحوش أن تُصبح وحشًا مثلهم”.
والحقيقة المُثبتة تاريخيًا، أن كل من تورط بمحض إرادته أو رغمًا عنه في خوض حرب ما، تحول لوحش، أو بوصف أدق، حرّر الوحش الساكن في داخله وأطلق له العنان، ونادرًا ما تمكّن أحد من السيطرة على هذا الوحش الكاسر.
فيلم Incendies
في فيلم Incendies الكندي المُنتج عام 2010، والذي رُشح لجائزة الأوسكار أفضل فيلم بلغة أجنبية، والمأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم للكاتب الكندي لبناني الأصل وجدي معوض، نتعرض لهذه الإشكالية بوضوح.
قصة فيلم Incendies
فيلم Incendies يحكي قصة صراع الطوائف والأحزاب السياسية في الشرق الأوسط وتحديدًا المنطقة العربية، فيتحدث بإسهاب عن الحرب وما تخلفه من “حرائق” تمتد آثارها إلى أجيال لم تشهد هذه الحرب، لكنها وُسِمت بها، الأمر الذي يدفعها دفعًا، كي تبحث في تاريخها المدفون، وتنبش رفات الموتى للوقوف على حقيقة ما حدث.
تُظهر أحداث فيلم Incendies – الذي لم يُذكر أنه مأخوذ عن قصة حقيقية، لكن كل قصص الحروب حقيقية بشكل ما دون الوقوف على حقيقة الأشخاص -، عمليات القتل والترهيب والانتقام بين المسلمين والمسيحيين في منطقة عربية ما، لا يحددها الكاتب، وكذلك المخرج، ويتركاها لخيال المشاهد وولعه بالتاريخ، كأنهما أرادا أن يصورا الألم والمعاناة والأثر الممتد لهذه النزاعات، بغض النظر عن المكان الذي حدثت فيه، فالمغزى من القصة، توثيق وجع الإنسان ومردود الحروب عليه، بعيدًا عن الأسماء، ومناطق وأطراف الصراع، مع أن الأحداث جميعها توحي بأن القصة حدثت في لبنان إبان الحرب الأهلية وصراع الطوائف.
الماضي لا يموت
تبدأ أحداث فيلم Incendies من كندا، حيث يتلقى أبناء “نوال مروان” التوأمان، وصيتها المزلزلة، والتي تطلب فيها الأم من ابنيها “جان وسيمون”، البحث عن أخيهما وأبيهما وإيصال رسائل لهما، ليكتشف التوأمان فجأة وللمرة الأولي، أن لديهما أبًا وأخًا على قيد الحياة.
تثير الحقيقة المكتشفة، فضول “جان” وتقرر أن تذهب للبحث عن أبيها وأخيها، في حين يرى “سيمون” أن أمه مجنونة، ويرفض التورط في رحلة البحث هذه.
ليأخذنا المخرج إلى الماضي، حيث الأم الشابة نوال مروان (المسيحية)، على علاقة حب بـ “وهاب” شاب فلسطيني (مسلم) من “أبناء المخيمات”، كما قال شقيقها قبل أن يطلق عليه الرصاص ويرديه قتيلاً.
تتعرض نوال للضرب والحبس من قِبل أشقائها، بينما تشعر بحركة جنين “ابن المخيمات” في أحشائها، تساعدها جدتها، حتى موعد الولادة، ثم لا تلبث أن تأخذه منها لتضعه في ملجأ للأيتام، بعدما وشمت ثلاث نقاط أعلى كعب قدمه، حتى تتعرف عليه نوال يوم ما، إن قررت العودة من أجله، تنتقل نوال من القرية التي صارت عير مرحب بها لأنها جلبت العار لأهلها، إلى مدينة أخرى لتمكث في بيت خالها، وتلتحق بالجامعة.
تتصاعد حدة الصراع بين الطوائف وتعم الفوضى، فتقرر نوال العودة إلى قريتها للبحث عن طفلها، لكنها تتفاجأ بأن الملجأ قد أُحرق، وتبدأ رحلة جنونية من البحث عن طفلها “نهاد مايو”، وعما إذا كان حيًا في مكان ما.
تستمر في البحث وسط تصارع الأحداث الدموية العنيفة، وفي الطريق تشاهد حافلة تنقل نازحين مسلمين، فتخفي صليبها وتغطي شعرها، وتذهب معهم، لتوقفهم إحدى الجماعات المسلحة التي تضع صورة المسيح على أسلحتها النارية، فيقتلون السائق، ويطلقون النار على بعض الركاب، ويقررون سكب الوقود على الحافلة لإحراقها بمن فيها، تصرخ نوال باسم المسيح، وتُخرج الصليب وتخبرهم أنها مسيحية، فيطلقون سراحها.
واحد + واحد= واحدًا مفردًا لا اثنين
يعود المخرج بالأحداث للحاضر، حيث تصل الابنة لقرية الأم، وتبدأ في السؤال عنها وعن أبيها، فتُقابل بالنفور ويُطلب منها المغادرة، فالعار الذي جلبته نوال لأسرتها، لم تمحه السنين.
يعود المخرج للماضي، حيث تقوم نوال بتدريس اللغة الفرنسية، لابنة أحد قادة الميليشيات المسيحية الموالية لإسرائيل، في منزله، تترك نوال الطفلة وتنزل للطابق السفلي، تخلع حذاءها وتمشي بهدوء حتى تصل إليه وتشهر مسدسها في وجهه وتقتله، يقتادها حراسه إلى السجن، حيث حُكم عليها بـ 15 سنة في سجن “كفر ريات”، لتبدأ رحلة أخرى من العذاب.
تقاوم نوال كل هذا العذاب بالغناء، حتى عُرفت في السجن بـ”الست اللي بتغني”، حاولوا كسرها بكل الطرق، لكنهم فشلوا، فأحالوها قبل انقضاء محكوميتها بعامين، إلى “أبو طارق”، أحد جلاديهم والمعروف بقسوته المفرطه وعنفه الشديد، فيعذبها ويغتصبها وتُنجب في السجن.
في أثناء رحلتها لتنفيذ وصية أمها، تعرف جان كل هذه التفاصيل، وتظن أن الطفل الذي ولدته أمها بالسجن هو الأخ الذي تبحث عنه، يضطر أخوها للحاق بها ومشاركتها البحث، بعدما عرف بعض هذه التفاصيل البشعة.
يستطيع التوأمان مقابلة “قابلة” السجن التي قامت بتوليد أمهما، لكنها تخبرهم أن نوال مروان أنجبت توأمين ولدًا وبنتًا، ليتضح لنا ولهم، أنهما “جان وسيمون”، وبرغم هول الصدمة إلا أنها يحاولان اجتيازها حتى يستطيعا العثور على أخيهما، اللذان عرفا أنه ابن “ابن المخيمات” الذي قتله شقيق والدتهما.
يلتقيان بشخص يدعى “ولاء شمس الدين”، هذا الشخص هو الذي قام بغارة على قرية كفر خوت، وقام ورفاقه بحرق الدار وأخذ الأطفال من قرية نوال المسيحية ودربهم حتى يقاتلوا معهم.
يخبره سيمون أنه يبحث عن نهاد مايو، فيخبره شمس الدين أنه درّبه منذ أن كان صغيرًا، وأن نهاد بحث طويلاً عن والدته، وعندما لم يجدها قرر أن يصبح شهيدًا حتى تتعرف عليه والدته من خلال “صورة الشهيد”، لكن شمس الدين رفض، فانفصل عنه نهاد بعدما أصبح مجنونًا بالقتل وآلة قتل حقيقية.
وإبان الغزو الصهيوني، قام نهاد بقتل سبعة جنود صهاينة، فأخذوه لسجن “كفر ريات” وأعدوه ليكون جلادهم الخاص، وهناك عُرف بالجلاد المغتصب: “أبو طارق”!!
هذا ما تصنعه الحروب
برغم أن الكاتب لم يذكر أن فيلم Incendies مأخوذ عن قصة حقيقية، إلا أنه يحمل تفاصيل قليلة مستوحاة من حياة الكاتب الشخصية الذي خرج من لبنان هربًا من الحرب الأهلية عندما كان في الثامنة من عمره، تلك التفاصيل الدقيقة التي تم التعرض لها سواء على مستوى الأماكن أو على مستوى تفاصيل الصراع على السلطة وأثرها على الشخصيات من خلال هذه الواقعة الإنسانية الخطيرة، حيث أصبح الضحية جلادًا.
وتكمن المفارقة في فيلم Incendies من خلال الحبكات الصغيرة التي تم صنعها بعناية في إطار صراع نفسي قائم على ثنائية العنف والمنفى، فيلم Incendies مأخوذ من الذاكرة اللبنانية عن الحرب الأهلية، مأخوذ من المأساة التي عاشها اللبنانيون وعاشها معهم العرب، وعاشها العالم المتحضر الذي رفض تشويه صورة الإنسان، في صورة بانورامية تُظهر أن مشعلي “الحرائق” من رجال السياسة، هم المستفيدون الوحيدون من الدخان الصادر عن البنادق والثكنات العسكرية وحواجز الطرق وتصنيف المواطنين على حسب هوياتهم وأديانهم وانتماءاتهم.