تقع تونس الخضراء تحت وطأة خنقة اقتصادية أثرت سلبًا بوضعها السياسي والاجتماعي دافعةً سلطتها السياسية للبحث عن أمثلة الحلول الاقتصادية الممكنة.
يبلغ نسق النمو الاقتصادي في تونس منذ الثورة إلى اليوم 1%، وقُدِّر عجز الميزانية العامة لعام 2015 بـ 5.8%، أما معدل البطالة فقد وصل إلى 15.3% في الربع الأخير لعام 2015، وقد وصل التضخم المالي إلى 9.5%، ثُمَّ قُدرت القيمة الإجمالية للديون المتراكمة على البلاد خارجية ومحلية نحو 22 مليار دولار أمريكي.
تعتبر جميع هذه المؤشرات سلبية جدًا، إذ يجب أن يبلغ النمو الاقتصادي السنوي للدول 5%، والعجز في الميزانية إلى جانب البطالة والتضخم ينبغي أن يكونوا أقل من 5%، وكذلك المديونية العامة ينبغي ألا تكون بهذا الحد.
توحي المؤشرات المذكورة بمدى قوة الخنقة الاقتصادية المتعرضة لها تونس التي برهنت على أنها دولة الربيع العربي الوحيدة التي حققت نجاحًا سياسيًا ديمقراطيًا، ولكن على ما يبدو أنَّ هذا النجاح مهدد بالانهيار في ظل استمرار الخنقة الاقتصادية.
عند حدوث أي خنقة اقتصادية يقترح الكثير من الخبراء الاقتصاديين على الفور الذهاب إلى صندوق النقد أو البنك الدولي، كحل مثالي للخنقة، معللين ذلك بخطط الإنقاذ الاستثمارية التي تقدمها المؤسستين وتوفر على الدولة المشوار الطويل في حل الخنقة.
ولكن على صعيد آخر، ينتقد الكثير من الخبراء وعلى رأسهم جوزيف ستجليفتش أو ستجليتز، السياسات المتبعة من قبل صندوق النقد والبنك الدولي، موضحين فشل هذه الاستراتيجية بكونها لم تأخذ بيد العون لأي دولة، وأنَّ اتباع هذه الاستراتيجية لم يزد الوضع الاقتصادي إلا تدهورًا وانتكاسًا، ويجمع المنتقدون المآخذ المحملة على سياسات صندوق النقد والبنك الدولي على النحو التالي:
ـ اقتراح تطبيق السياسة المالية الانكماشية أو التقشفية: ويتم فيها رفع معدل الفائدة لجذب الودائع والحد من حجم القروض المقدمة من قبل المصارف للمستثمرين الصغار والكبار، بغية المحافظة عليها وحماياتها من الانهيار الكامل، ولكن هذه السياسة المتبعة لها تأثيرها في المستثمرين إذ تعجزهم عن الاقتراض نظرًا لنسبة الفائدة العالية والشروط الصارمة للاقتراض، مما يؤدي إلى خلق المزيد من البطالة وانهيار المصانع والورش العاملة، بالإضافة إلى تنفير المستثمر الأجنبي من القدوم للاستثمار، الأمر الذي يصيب بدوره البنوك بهزة اقتصادية قوية ينتج عنها في نهاية المطاف انهيار السوق المصرفية وبالتالي الاقتصاد الجزئي، أي الاقتصاد الشامل للأفراد.
وإلى جانب ذلك، تقتضي سياسة التقشف رفع الضرائب بكافة أنواعها وإيقاف الدولة دعمها لبعض القطاعات الاقتصادية وغيرها من السياسات التي تخدم اقتصاد الدولة العمومي، ولكنها تؤثر بشكل سلبي جدًا باقتصاد الأفراد الذي هو أساس النظام الاقتصادي العمومي.
ـ تسريع انتقال الأزمة إلى الدول الجارة: تقترح برامج صندوق النقد والبنك الدولي تطبيق سياسة التقشف في الواردات وتنفيذ برنامج تقليل قيمة العملة لرفع معدل الصادرات التي سيصبح من خلالها سعرها طفيف بالنسبة للدولة المستوردة، ولكن يتمخض عن ذلك ارتفاع معدل التضخم المالي وانخفاض معدل الصادرات المرتبط ارتباطًا طرديًا بحجم الواردات التي تعد صادرات الدول الجارة المتأثرة سلبًا من هذا البرنامج، تقليل التعاون التجاري بين الدول بلا شك سيؤثر عليهم جميعًا بشكل سلبي.
ـ إغلاق المصارف الضعيفة: تقترح برامج صندوق النقد والبنك الدولي إغلاق البنوك والشركات العاجزة عن دفع ديونها، ولا شك في أن إغلاق الكثير من البنوك والشركات سيؤدي حتمًا إلى ارتفاع معدل البطالة، وسيعمل على زعزعة ثقة المستثمر المحلي والأجنبي بالبنوك، الأمر الذي سيزيد من حدة الأزمة ولا يخففها.
ـ عدم اهتمام صندوق النقد والبنك الدولي بالمتغيرات الاجتماعية: هذه هي المعضلة الكبيرة في برامج صندوق النقد والبنك الدولي، حيث لا تكترث بالأزمات الاجتماعية الناتجة عن سياسات التقشف وربط الحزام.
الخيارات الاقتصادية المطروحة
طرح صندوق النقد والبنك الدولي عدة برامج تُنير طريق النمو الاقتصادي للدول وتجيرها من ويلات الأزمات الاقتصادية العالمية التي طفت على السطح عام 1971 ومن ثم في عام 1973، وقد نصبت البرامج تركيزها على التقشف وتحسين المديونية العامة وميزان المدفوعات عبر رفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة، إضافة إلى تخفيف الواردات التجارية عبر فرض الضرائب الجمركية العالية والكوتا التجارية المحددة، ولكنها فشلت في تحقيق أهدافها، فتدمير الاقتصاد الجزئي المتعلق بالفرد واستثماراته وادخاره وإنفاقه لا يسبب إلا إتلاف الاقتصاد الكلي المتعلق بالمديونية العامة والتضخم والفائدة والاحتياطي النقدي وغيرها.
الاقتصاد الجزئي يتعلق بالفرد الذي يمثل المحرك الأساسي للعمليات الاقتصادية جمعاء، فمحاولات صندوق النقد والبنك الدولي الرامية إلى تحسين المؤشرات الاقتصادية العامة على حساب المؤشرات الاقتصادية الفردية باءت بالفشل وهذا مرتعها الطبيعي.
إن فشل الصندوق النقدي والبنك الدولي في تقديم بدائل اقتصادية فعالة في تحسين اقتصادات دول العالم الثالث وحتى بعض الدول المتقدمة، خلق حالة يأس عارمة بين الدول وامتد ذلك حتى عام 1989م، حيث خرج الاقتصادي الأمريكي جون ويليام سون بباقة من الإصلاحات الاقتصادية تحت اسم “إجماع واشنطن” جمع فيها المبادئ الاقتصادية الأساسية التي تتوافق بها المؤسسات الاقتصادية العالمية الهامة وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدولي والخزينة الأمريكية ودول الثمانية.
بنى ويليام سون باقته على ثلاث ركائز أساسية: تحرير الاقتصاد عبر تحرير التجارة وسوق النقد وسعر الصرف ورفع يد الدولة بأكبر قدر ممكن عن توجيه القطاعات الاقتصادية، والخصخصة، والتقشف في المالية العمومية (رفع الضرائب، تقليل النفقات والخدمات العمومية، رفع الدعم عن بعض القطاعات).
لقد أدى تشديد المؤسسات الاقتصادية الكبرى على مبدأ رفع الدولة يدها عن النظام الاقتصادي إلى ظهور فوضى عارمة في السوق التجارية والنقدية والصرفية، فظهرت بعد فترة وجيزة باقة اقتصادية أخرى أُطلق عليها “ما بعد توافق واشنطن” تختلف عن “توافق واشنطن” في إيلائها أهمية للتوازن بين النمو “النمو الاقتصادي المادي البحت” والتنمية “النمو الاقتصادي مع تطوّر المعدلات الاجتماعية”.
وتهدف باقة “ما بعد توافق واشنطن” إلى تحسين مؤشرات الحياة الاجتماعية وتأسيس تنمية مستدامة عادلة ديمقراطية، وذلك عبر تعديلات نقدية تتعلق بالبورصة وقروض المصارف وغيرها وتعديلات خاصة بسياسة الرقابة الفردية والاستثمار الكثيف في الموارد البشرية ومبدأ الشفافية في إدارة المؤسسات الاقتصادية الخاصة بالدولة ومبدأي المساءلة والمحاسبة واستيراد المواد التكنولوجية والعمل على تطويرها، ولا بد من تنفيذ جميع هذه السياسات في إطار تشاركي يجمع الدولة والمؤسسات الاقتصادية الخاصة.
وفي تلخيص السياسات الاقتصادية الأساسية التي طرحتها مؤسسات الاقتصاد في عالمنا الحديث، يظهر أن الدول التقت في نقطة تقاطع سياسة دعم الاقتصاد الجزئي الذي تلقائيًا ستنعكس معدلاته الإيجابية على الاقتصاد العام للدولة، فدعم المستثمر سواء الصغير أم الكبير عبر قروض مصرفية طفيفة الفائدة أو معدومة الفائدة تمامًا وفتح مؤسسات الدولة للخصخصة في إطار الشفافية العالية لجذب المستثمر الأجنبي وتوفير فرص لأكبر عدد ممكن من الكفاءات والاهتمام بالأبحاث العلمية وبراءات الاختراع ومنح المؤسسات الاقتصادية الخاصة فرصة التعاون في إصدار قرار مشترك مع المؤسسات العمومية وتحرير التجارة مع حماية القطاعات التجارية الوليدة يعالج لتونس خنقتها ويعود عليها بالنمو والتنمية.
الكثير من الدول طبقت السياسات الاقتصادية التي ظهرت قبل “ما بعد توافق واشنطن” وفشلت في تحقيق الأهداف الاقتصادية التي تصبو إليها، ولكن عدة دول، كتركيا وماليزيا قد طبقت المبادئ الإيجابية “لتوافق واشنطن” ومبادئ “ما بعد توافق واشنطن” ونجحت في إحراز النمو والتنمية، ولقد أصبحت هذه الأمثلة بارزة أمام تونس للاستفادة والتطبيق.
إن تحقيق نمو اقتصادي مع تنمية عادلة ومستدامة وديمقراطية ليس بالأمر الصعب إن وُجدت الإرادة السياسية التي توفر الاستقرار السياسي الذي يسنح الفرصة لتطبيق جميع ما ذكر.