تساءل الكثيرون عن اعتزام مصر تعويم عملتها في الأسابيع القادمة والاتفاقية المتبادلة مع صندوق النقد الدولي كخطوة يتم تطبيقها عند منح القرض البالغ مجموعه حوالي 12 مليار دولار بغرض تحسين المستوى المعيشي للمواطن المصري وذلك عن طريق تطوير مختلف قطاعات الخدمات من صحة وإسكان ومواصلات وتمويل مشاريع تنموية وتحسين قطاع الزراعة والصناعة، على أن يتم تعويم الجنيه المصري في سوق الصرف النقدي.
كلمة التعويم أو عائم ترجمة حرفية للكلمة باللغة الإنجليزية وتعني “float”، أي أن العملة تتغير قيمتها مما يجعلها تتحرك بكل حرية في سوق الصرف دون تدخل، فهو حدث كبير في تاريخ مصر النقدي أن يتجه البنك المركزي إلى تغيير نظام صرف العملة من ثابت يدار من قبل الحكومة أو البنك المركزي بقيمة لا تتغير إلى نظام بقيمة متغيرة في سوق العملات تحدد قيمته السوقية كمية العرض والطلب.
قد تكون خطة هدفها تقليل الاعتماد على المخزون من الاحتياط النقدي وما يترتب عليه من ضغط على الحكومة لرفع الاحتياطي النقدي لمصر، لأنه عندما تكون قيمة العملة ثابتة يتدخل البنك المركزي بشكل دوري عن طريق خفض كمية الجنيه أو زيادته في السوق وذلك ببيع أو شراء من الاحتياطي النقدي من الجنيه والعملات الأجنبية للحفاظ على قيمة عملتها الرسمية، أما التعويم فلا يحتاج تدخل البنك المركزي لتغيير سعر الجنيه وما يترتب عليه بالاحتفاظ باحتياطي نقدي كبير.
هناك خطوات كثيرة تسبق هذه الخطوة لكي تكون فعالة ويستفيد اقتصاد مصر من تطبيقها، وليس فقط لضمان حصولها على القرض المشروط مع صندوق النقد الدولي، فهذا وحده ليس سببًا كافيًا لتغيير سياسة الصرف النقدي دون أخذ باقي الأمور في عين الاعتبار.
لكن السؤال المطروح ما الأولويات على الأجندة الاقتصادية لمصر؟ وهل التوقيت مناسب لتعويم الجنيه المصري؟ وهل ستكون السلطات المصرية مستعدة لنزول سعر الجنيه كما سيكون متوقعًا عند التعويم وما سيخلفه من نسب مرتفعة جدًا من التضخم التي وصلت إلى 16.4% والذي سيضر المواطن المصري إلى أن يستقر سعر الجنيه ويصل سوق الصرف في الاقتصاد بالتوازن حتى تحدث العملية التصحيحية عند تساوي كمية العرض مع الطلب ويستقر سعر الصرف؟ وإلى أي مدى ستكون الجهات المصرية مستعدة لما بعد التعويم وآثاره التي ستأخذ وقتًا؟
التعويم سيعرض الجنيه المصري إلى انخفاض حاد مقابل العملات
ربما تكون سياسة تعويم الجنيه إجراءً تصحيحيًا، ولكن ذلك لا يضمن الحصول على تبعات إيجابية تنعكس على اقتصاد مصر، عادة تؤخذ هذه الخطوة في ظروف اقتصادية قوية ومؤشرات مستقرة، لأن سياسة تعويم العملة تخدم الدول التي يكون اقتصادها قويًا وصادراتها أكثر من وارداتها، وذلك لتشجيع شراء البضائع المصنعة في الدول الأخرى وبأسعار مغرية، كما هو الحال في اليابان التي تحاول أن تبقي عملتها منخفضة للترويج لصادراتها، وفي ظروف لا يكون فيه المناخ الاقتصادي خانقًا أو يتعرض لضغط كما يتعرض له الاقتصاد المصري من زيادة في التضخم، وانخفاض وضغط مستمر على قيمة الجنيه، والزيادة المرتفعة في الديون المتراكمة على مصر، وشح في الاستثمار الخارجي، وقطاع سياحي غير نشط، وقطاع زراعي يعاني من عدم كفاءة، هذا بالإضافة إلى الدعم الذي يثقل ميزانية الدولة لتوفير الأساسيات لكثافة سكانية ضخمة، كل هذه الأمور التي تواجهها مصر حاليًا تمثل عائقًا في سبيل تحقيق استقرار اقتصادي أو نقدي.
تعاني مصر حاليًا من اقتصاد ضعيف ونسبة ديون تزيد عن 90% من الناتج المحلي، وحجم صادرات متواضع 19 مليار دولار إذا ما قورن بحجم ضخم من الواردات 67 مليار دولار معظمه من السلع الأساسية كالغذاء والتي لا تستطيع مصر أن تستغنى مصر استيرادها.
السيناريو الأولي لما قد يحدث عند تعويم الجنيه نزول سعره نزولاً حادًا أمام الدولار والعملات الأخرى مسببًا خسائر كبيرة والأسوأ تأثير فقد العملة قيمتها بنسبة كبيرة عند التعويم وهو أمر متوقع الحدوث له تبعات عكسية على المواطن المصري من تضخم لن تستطيع الجهات المصرية السيطرة عليه.
في حال تطبيق نظام التعويم ستكون كمية عرض الجنيه أكثر بكثير من كمية الطلب وذلك لضعف الصادرات بالإضافة إلى العوامل الاقتصادية والسياسية الأخرى والتي لا تجعل من الجنيه مقصد المتعاملين في أسواق النقد أو عملة جاذبة للتداول، وهذا ما سيؤدي إلى الاستمرار في انخفاض الجنية مقابل الدولار والعملات الأخرى في سوق النقد (حاليا حوالي 8.8 جنيهات للدولار الواحد بينما في السوق السوداء يصل الدولار إلى 13 جنيهًا)، أي أن كل المنتوجات الواردة إلى الدولة وأغلبها تصنف أنها من السلع الضرورية كالغذاء ستكون أسعارها مرتفعة جدًا مقارنة بالأسعار قبل تطبيق سياسة التعويم مسببة مستويات تضخم عالية، أي أسعار المواد والسلع الواردة وحتى المصنعة داخليًا سترتفع ارتفاعًا كبيرًا لضعف قدرة الجنيه المصري الشرائية، وهي تبعية حتمية سيتحملها المواطن المصري بدخله الثابت وهذا له تأثير عكسي مباشر على الوضع المعيشي للمواطن المصري.
وقد يكون التعويم أيضًا بهدف جذب الاستثمار الخارجي إلى البلاد وتشجيع بيع السندات المصرية للمستثمر الخارجي كما صرح بعض المسؤولين قبل أشهر من بدء العملية، علمًا بأن التصنيف الائتماني الحالي لمصر يقف عندCCC+ من وكالة S&P وB من وكالة Fitch لا يعد من التصنيفات الائتمانية المشجعة لسوق السندات العالمية، أي أنها ليست بالدرجة الاستثمارية الآمنة لجذب استثمار خارجي من مستثمري السندات وإدارات الأصول والأموال والمحافظ المالية.
خاصة وأن شركات التصنيف الائتمانية تقوم بدراسة عوامل عديدة يتم على أساسها تصنيف الدولة كدرجة استثمارية منها تقييم المؤشرات الاقتصادية للنمو والتبادل التجاري والدين العام ومدى فعالية جهات ومؤسسات الدولة وشفافيتها، وأيضًا تقييم الوضع السياسي وعلى أساس التصنيف يتم تحديد مستوى المخاطرة عند الاستثمار في الدول المصنفة ائتمانيًا، والتي حاليًا لا تخدم مصر في جذب الأموال لما فيها من نسبة مخاطرة عالية وذلك عكس على تصنيفها الائتماني الضعيف، حتى وإن كانت خطوة نحو شفافية في النظام النقدي للجنيه، هذا لن يشجع المستثمر الخارجي ليستثمر أمواله في مصر خوفًا من فقد قيمة الجنيه لتذبذب قيمته في السوق مما يعني نسبة مخاطرة أعلى أيضًا لن يكون المستثمر مستعدًا لأخذها.
لا شك أن اقتصاد مصر يحتاج إصلاحًا شاملاً في جميع القطاعات لتقويتها وتعزيز دورها حتى تتمكن من المساهمة بنسب أكبر في ناتج الدولة المحلي في معظم القطاعات كالصناعة والزراعة والسياحة، هذا بالإضافة إلى عدم تواجد استقرار سياسي، والاستقرار الاقتصادي والسياسي من أهم ركائز جذب الاستثمار.
قد تنجح سياسة التعويم عندما تكون جزءًا من سياسة اقتصادية متكاملة وخطة واضحة الرؤية، ولكن التوقيت لهذا الإجراء غير مناسب في الفترة الحالية ونتيجة غياب رؤية واضحة وسياسات أهم بكثير تحتاج إليها مصر لضمان استقرار الاقتصاد والوضع السياسي وهذه يجب أن تكون من أولويات الأجندة الاقتصادية في الأيام القادمة قبل إجراء نظام التعويم ورفع الدولة يدها عن الجنيه حتى لا تكون عملتها الوطنية تحت رحمة سوق العرض والطلب وخاصة في المرحلة الحالية.