لا نكشف سرًا عندما نتحدث عن قوة اللوبي الصهيوني في ألمانيا والعالم، ولكن المشكلة تكمن أحيانًا في تصوراتنا المغلوطة عن هذه القوة فنتخيلها قوةَ خارقة، فهل هي كذلك؟ ليس دائمًا، ففي الآونة الأخيرة قامت جامعة ألمانية بإلغاء حلقة دراسية عن فلسطين بضغط من “اللوبي الصهيوني”.
ضجت المواقع العربية حينها ليوم أو يومين ثم نسي الخبر تمامًا، أما في ألمانيا فقد استمرت حملة إعلامية ضد الجامعة حتى بعد الإلغاء وطالبوا مؤخرًا بتنحي رئيسة الجامعة عن منصبها بتهمة معادة السامية، لم تتنح رئيسة الجامعة ولكن عميدة الكلية تنحت فعلًا بفضل هذا الضغط المتواصل و”العمل الدؤوب”!
في التقرير التالي سنرى كيف تطورت الأمور خلال الشهرين الماضيين حتى نجح “اللوبي” في تنحية عميدة الكلية!
البداية
منذ أكثر من 10 أعوام وضمن برنامج تدريسي حول موضوع “العمل الاجتماعي ونزاع الشرق الأوسط” بجامعة العلوم التطبيقية والفنون في مدينة هيلدسهايم الألمانية (HAWK)، تقدم الأستاذة ابتسام كولر حلقة دراسية صغيرة بعنوان: “الوضع الاجتماعي للشباب في فلسطين”، وذلك إلى جانب حلقة دراسية أخرى تقدم للطلاب بعنوان “التدريب في المؤسسات الاجتماعية في إسرائيل” تقدمها أستاذة إسرائيلية، وكان تلك خطة تهدف إلى منح الطلاب تصورًا شموليًا عن الوضع الاجتماعي في “إسرائيل” وفلسطين.
استمر هذا الوضع حتى قدمت إلى الجامعة أستاذة الدراسات الدينية اليهودية ريبيكا زيدلر قبل عام وذلك لتقديم محاضرات حول “العمل الاجتماعي اليهودي في ألمانيا”، ولكنها فوجئت – كما تقول – بحلقة دراسية حول فلسطين وما إن اطلعت على محتوى المقرر حتى تأكدت بأنه ليس إلا دعاية تحريضية ضد إسرائيل، وبالتالي قامت بتوجيه النقد للجامعة بينما الجامعة رفضت انتقاداتها، فقامت بمراسلة المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا، كما راسلت إحدى المؤسسات العاملة في مجال مكافحة معاداة السامية في ألمانيا وهي “Amadeu-Antonio-Stiftung“، والتي وكلت باحثًا من جهتها لدراسة محتويات المقرر، والذي خلص في دراسته إلى أن هذه الحلقة الدراسية بها محتويات معادية للسامية!
من جيروزاليم بوست.. إلى صحيفة “بيلد”!
هنا، بدأ خبر الجامعة الألمانية “المعادية للسامية” بالانتشار حتى وصل مكتب وزير الخارجية الإسرائيلي الذي اتهم الجامعة باعتبارها مصنع للكراهية Hass-Fabrik”“، وذلك لأن الحلقة الدراسية كان فيها معلومات حول تعذيب الفلسطينيين وقيام قوات الاحتلال الإسرائيلية بسرقة أعضاء الشهداء الفلسطينيين – كما حصل في الانتفاضة الاولى 1987 – أو حتى قيام “إسرائيل” بعمليات إبادة جماعية للفلسطينيين وهو ما ترفض “إسرائيل” الاعتراف به حتى اليوم وتعتبره “معاداة للسامية”.
كان ذلك في أواخر يوليو 2016، حتى بدأت حملة تحريضية شرسة في الجامعة، وكالعادة كانت هناك ثلاث صحف ألمانية في المقدمة: الصحيفة اليهودية Jüdische Allgemeine وصحيفة Bild وكذلك صحيفة Die Welt.
مقاربة للصحافة الألمانية بين النازية والصهيونية
فالصحيفة اليهودية فقد نشرت تقريرًا يدين تدريس المواد اللاسامية في جامعة هيلدسهايم الألمانية، كما نشرت صحيفة Bild تقريرًا بعنون “مقرف وشنيع: إسرائيل ساخطة من سيمنار الكراهية الألماني”، أما صحيفة Die Welt فقد نشرت على موقعها تقريرًا مفصلًا تؤكد فيه ما جاء في العنوان: “عندما تصبح كراهية إسرائيل هدفًا تعليميًا في جامعة ألمانية”، ولم تهدأ العاصفة بالطبع، واستمر التحريض ضد الجامعة، بل إن الأمر وصل بأحد الخبراء إلى وصف الجامعة بأنها لا تختلف عن جامعات ألمانيا النازية!
إلغاء الحلقة التدريسية
في يوم الجمعة، الـ 5 من أغسطس، رضخت الجامعة وأعلنت في بيان صحفي عن إلغاء الحلقة التدريسية وهو ما نشرته معظم المواقع الإخبارية العربية منقولًا عن وكالة الأنباء الألمانية بعنوان: “جامعة ألمانية تلغي محاضرة عن فلسطين لاتهامات بمعاداة السامية” ولم يتجاوز عدد كلمات الخبر الـ 100 كلمة ولم يذكر الخبر في تلك المواقع مرة أخرى، وإن كان لا بد من المقارنة بين ما نشر في المواقع الألمانية بما نشر في المواقع العربية أو حتى الفلسطينية، فإنه لا يمكن القول إلا بأن التغطية كانت سطحية جدًا ولا يمكن أن ترقى لمستوى الجهود الصهيونية، بل إن معظم المواقع التي حاولت أن تفصل أكثر مما نشر في غيرها، فقد نقلت معظم ما نشرته عن موقع “القناة السابعة الإسرائيلية”.
قبل إلغاء الحلقة التدريسية، كان المجلس الأعلى لليهود في ألمانيا قد توجه بشكوى إلى وزارة العلوم في ولاية سكسونيا السفلى للتدخل لإلغاء الحلقة التدريسية، وفوق ذلك عقد اجتماعًا مصغرًا لنقاش الإشكالية، وتم التأكيد على أنه لا يمكن أن يعتبر كل نقد لإسرائيل بمثابة معاداة للسامية وبالتالي دعت الوزيرة إلى إجراء تحقيق مفصلٍ حول المواد التي تم تدريسها في الجامعة، وذلك من قبل معهد دراسات معاداة السامية في برلين!
المطالبة بتنحي رئيسة الجامعة عن منصبها
بعد أكثر من شهر من هذه “العاصفة”، تمت دعوة رئيسة الجامعة كريستينا دينيل Christiane Dienel إلى حلقة نقاشية حول السامية في مدينة هانوفر ولأنها كانت تدرك بأن اتهامها بمعاداة السامية من أخطر من قد يتهم به المرء في ألمانيا، فلم ترفض الدعوة مع أنها كانت من قِبل أول من حرض ضدها وضد جامعتها وهي أستاذة الدراسات الدينية ريبيكيا زيدلير.
كان يفترض أن تتم مناقشة موضوع “الحدود بين نقد إسرائيل ومعاداة السامية” إلا أن الأمور سارت بعيدًا جدًا عما خطط لها، وبدلًا من النقاش في الإشكال، صارت رئيسة الجامعة هي المشكلة نفسها وأُجلست أمام الحضور بين نقادها وكأنها في محاكمة عامة، تنتقد بشكل لاذع وساخر وتوصف بأنها ملطخة باللاسامية إن لم تكن لاسامية، كما دعيت – بكل وقاحة – من قِبَل المجلس الأعلى لليهود بالتراجع عن منصبها كرئيسة للجامعة!
لم تتراجع رئيسة الجامعة حتى الآن عن منصبها، ولكن عميدة كلية “العمل الاجتماعي” هي التي اضطرت يوم الخميس 29 سبتمبر، أي بعد شهرين من بدء الحملة التحريضية، أن تتنحى عن منصبها بسبب تلك المواد التي درست حول تعذيب الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وأوضاعهم تحت الاحتلال!
أين نحن من كل هذا؟
العجيب أن تجد بعد ذلك كله أن المواقع العربية وبالأخص الفلسطينية منها تخلو من أي ذكرٍ لهكذا “معارك” ما كانت لتكون لولا محاولة إبراز شيء من معاناة الفلسطينيين، والأعجب أن أبرز من يكتب ضد هذه الغطرسة الصهيونية في ألمانيا هم من اليهود المعاديين للصهيونية مثل آبي مليتسر وإيفيلين غالينسكي، حيث كتب آبي مقالةً يؤكد فيها بأن الهدف من كل هذه الجهود هو تبرئة إسرائيل من كل جرائمها تجاه الشعب الفلسطيني، فيما كتبت إيفلين مقالة عن غطرسة اللوبي الصهيوني في ألمانيا وتتساءل فيها إذا ما كانت حرية الرأي في ألمانيا لا تزال مضمونة لمن يجرؤ على نقد إسرائيل؟!
الأكيد أن كل هذا يعني أننا إن لم نستيقظ، فبإمكان اللوبي أن يقرر للألمان ما يجب وما لا يجب أن يدروسه في جامعاتهم حول فلسطين في المستقبل!