ترجمة وتحرير نون بوست
أجبر سماسرة الهجرة غير الشرعية 100 مهاجر على النزول من على متن موكب مكتظ يستقلونه عند حدود المياه الإقليمية المصرية. لقد كانوا على بعد 12 كيلومترا من السواحل المصرية على متن قارب صيد معطوب ومكتظ بالمهاجرين. وقد هدد المهربون رُبّان المركب بالقتل بعدما رفض أن يبحر على مقربة من السواحل الإيطالية خشية غرق المركب الذي كان يقل 450 مهاجر غير شرعي. وكان من بينهم شاب يدعى محمد يبلغ من العمر 17 سنة حيث روى تفاصيل هذه الحادثة الأليمة التي راح ضحيتها العديد من الشبان. وينتمي محمد لعائلة معدمة تعيش فقرا مدقعا ويكسب قوت يومه من خلال عمله كسائق تك-تك.
لقد كان محمد وأصدقاؤه ينتظرون وصول المراكب المزدحمة بالركاب إلى بر الأمان عندما احتدم الشجار. لقد كانت الساعة تشير إلى حوالي الرابعة صباحا ولم يكن الظلام دامسا، لكن الوفد الجديد من المهاجرين على المركب أثار في نفوسهم الفزع. بدأت زوايا المركب تتداعى وتتكسر مما تسبب في ميلان المركب نتيجة للوزن الزائد ثم انقلابه بمن فيه في عرض البحر. ولقد كان هناك مجموعة من المهاجرين في المركب حاولوا الخروج لكن دون جدوى.
قفز محمد وصديقه عثمان البالغ من العمر 15 سنة في البحر الهائج بعد فشلهما في انتشال صديقهما كريم من حطام السفينة المقلوبة رأسا على عقب في عرض البحر. قال محمد بعد عدة أيام من الحادثة أنه “عندما كنت في الماء رأيت شيئا ما يطفو على السطح ثم شاهدت المركب عندما انقلب المركب فجأة ثم اختفى وسط الأمواج”. وأضاف أنه “رأى بأم عينيه كيف كان الركاب يتشبثون ببعضهم البعض بحثا عن الهواء مما أدى إلى غرق البعض بينما حاول الآخرون النجاة بأرواحهم. لقد كان مشهدا مروعا خاصة عندما رأينا كيف يطفوا الناجون على جثث الموتى الذين لم يكن معظمهم يحسن السباحة في تلك المياه العميقة”. ثم واصل قائلا؛ “لقد حاول عثمان رصد كريم الذي كان يحاول أن يطفو بواسطة زجاجة لكنه توارى عن الأنظار. وعلى الرغم من محاولاتنا الحثيثة في البحث عنه لم نجد له أثرا”.
لقد سبح الصبيان لمدة سبع ساعات بحثا عن بر الأمان ولقد كانا من بين 163 شخصا تم إنقاذهم من قبل مجموعة من الصيادين الذين هبوا لنجدتهم عندما غابت شرطة السواحل في تلك الحادثة الأليمة. وقد لقي 300 مهاجرا من جنسيات متعددة (من مصر والسودان وسوريا والصومال) مصرعهم صبيحة 21 تشرين الأول/ أكتوبر، لكن لم تستطع السلطات انتشال سوى 202 جثة بينما بقي الآخرون في عداد المفقودين. وبعد أسبوع من الفاجعة تم العثور على 33 جثة مجهولة الهوية على الشاطئ وتم انتشال رفات السفينة.
يحاول العشرات من الشبان مثل محمد، الذين يكونون في معظم الأحيان تحت السن القانونية، الهجرة عن طريق قوارب الموت دون اكتراث بعواقب هذه المجازفة. ولقد تضاعف عدد المهاجرين القُصّر في الآونة الأخيرة وذلك لعلم هذه الشريحة بالقانون الإيطالي الذي لا يعمد إلى ترحيل المهاجرين القصر وبالتالي سيستطيعون إعالة أسرهم المعوزة. وبناء على هذا الأمل، يلقي العديد بأنفسهم إلى التهلكة حيث يحاول ما يفوق 16863 طفل، كل سنة، الهجرة من شمال إفريقيا إلى السواحل الإيطالية. وقد تم هذه السنة تسجيل حوالي 8354 مهاجر، وهو يعتبر ضعف العدد المسجل في السنة الفارطة وذلك وفقا لما ورد في إحدى الرسائل الإلكترونية التي كانت تحت عنوان “أنقذ أرواح الأطفال”. ويقدر عدد القصر المصريين بحوالي 2666 طفلا الذين تضاعف عددهم حوالي ثلاث مرات مقارنة بالسنة المنقضية.
لقد دفع اليأس والفقر والخصاصة العشرات من العائلات على تشجيع أبنائهم على الهجرة غير الشرعية في رحلة مميتة تستغرق عشرة أيام. ونظرا للأوضاع المزرية في مصر بسبب هشاشة الاقتصاد خلال خمس سنوات من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فقد قلّت فرص العمل وبالتالي بالنسبة لهذه المناطق المهمشة، فإن الهجرة تُعدّ الحل الأمثل لمشاكلهم. وتقدر نسبة البطالة في صفوف الشبان بحوالي 30 بالمائة خاصة في المناطق الريفية والمهمشة كالجزيرة الخضراء التي تقدر فيها نسب البطالة بحوالي الضعف. وتعود هذه النسب المرتفعة إلى الأزمة التي يشهدها القطاع السياحي والصناعي الذي تسبب في بقاء الآلاف دون مواطن شغل.
ويضطر العديد من الأطفال والشبان، بسبب رداءة الأوضاع الاجتماعية، إلى الإمضاء على إيصالات أمانة للمهربين وسماسرة الموت مقابل الهجرة على أحد القوارب التي تقدر تكلفتها بحوالي 5000 دولار. ويدفع المهاجرون، إن تمكنوا من الوصول إلى بر الأمان، الأموال لسماسرة الموت من الأجور الزهيدة التي يتقاضونها في الدول الأوروبية.
وعلى سبيل المثال، حاول 1000 صبي هذه السنة الخروج من قرية الجزيرة الخضراء واجتياز المياه الإقليمية خلسة وقد وقع معظمهم على هذه العقود. والجدير بالذكر أن 40 صبيا الذين غرقوا في هذه الحادثة هم من أبناء هذه المنطقة. ينتمي محمد إلى عائلة فقيرة حالها كحال 24 مليون مصري آخرين يعيشون تحت عتبة الفقر. محمد هو الابن الأصغر في ستة أبناء من فاقدي السند العائلي الذين بالكاد يكسبون قوت يومهم. ولقد توفي والدا محمد بسبب مرض مزمن حيث لم يستطيعا تغطية كلفة العلاج منه بسبب الفقر والخصاصة. ويعيش هذا الصبي مع إخوته الخمسة في غرفة واحدة وبسبب هذه الظروف المزرية التي أثقلت كاهله أحس أنه من واجبه أن يحسن أوضاع عائلته.
قال محمد أنه على الرغم من صغر سني، إلا أنني أحس بمسؤولية كبيرة تجاه إخوتي نظرا لأن عملي كسائق “تك-تك” لا يوفر لي المال الكافي لأعيل أسرتي وبسبب موارد قريتي المحدودة، لم أجد حلا سوى الهجرة غير الشرعية”. وأضاف “إنني أبلغ فقط 17 سنة، لذلك لن يستطيع الإيطاليون ترحيلي عندما أصل إلى التراب الإيطالي. فأنا أمثل أمل عائلتي الأخير”.
إن الأوضاع متردية في هذه القرية المهمشة التي يعيش سكانها في ظروف قاسية؛ فالأطفال يلعبون حفاة في مكبات القمامة التي تقع على ضفاف النيل، والفتيات الصغيرات يغسلن الأواني المعدنية في المياه الملوثة التي تفوح منها رائحة النفايات الكريهة. وقد تراكمت الأوساخ في شوارع هذه القرية النائية التي تعاني أزمة بيئية حادة زادت من معاناة سكانها فضلا عن أزمة إنسانية واقتصادية. كما تجمع محمد والبعض من أصدقائه الناجين في إحدى الحظائر وأعربوا عن نية الهجرة مرة أخرى على الرغم من الويلات التي عاشوها في تلك الليلة وموت العديد من أحبائهم.
ولقد اخبرونا أن اثنين من سماسرة الموت اللذين ينتمون للطبقة المتوسطة وربان المركب قد قادوا المهاجرين إلى حتفهم. كما أن عثمان يعرفهم حق المعرفة ومدنا بأسمائهم. وقد تمكن عثمان من نيل تخفيض على سعر سفرته بقيمة 2000 دولار بفضل علاقاته وسيدفع هذا المبلغ بالتقسيط عندما يصل إلى التراب الإيطالي. في المقابل، كان محمد مجبرا على دفع 1000 دولار في أول الرحلة والتي جمعها بصعوبة من أقربائه.
عثمان هو الفتى الوحيد في عائلته ورغم صغر سنه، فهو مطالب بدفع تكاليف علاج والده الذي يعاني من مرض عضال خضع بسببه لجراحة قلب مفتوح ومازالت حالته الصحية تحتاج إلى المزيد من الرعاية والعلاج المكلف. وقد رأى الصبية بوادر الأمل في إيطاليا ونسجوا أحلاما كثيرة على منوال أولئك الذين سافروا من قبلهم ونجحوا في الوصول إلى بر الأمان وتحقيق أحلامهم. معظم هؤلاء الفتية قد حاولوا الهجرة عدة مرات ويعتبر الصياد هيثم محمد من الشبان الذين دفعهم الحلم إلى محاولة الهجرة 50 مرة دون أن تكلل أي منها بالنجاح. ولقد كان هذا الشاب في عداد المفقودين الذين لم يسمع عنهم منذ تلك الحادثة الأليمة. كما أن جميع اللذين سألناهم عن سبب الهجرة كانت أجوبتهم متشابهة، فكلهم ذهبوا بحثا عن حياة أفضل لأنه النسبة لهم لا ضير في محاولة المجازفة بحياتهم ماداموا ميتين في كل الأحوال.
يعد تهريب المهاجرين تجارة مربحة في مصر تدر على أصحابها أموالا طائلة خاصة وأنه يتم إعطاء رشوة لبعض أعوان خفر السواحل وقوات الأمن. ووفقا لإحدى الإحصاءات المحلية، فإن مركبين يتجهان تقريبا كل يوم نحو المياه الإقليمية الإيطالية. كما أن هذه القوارب التي تبيع الوهم لمئات الشبان والأطفال واعدة إياهم بحياة أفضل في إحدى البلدان الأوروبية.
يستعمل سماسرة الموت مواقع التواصل الاجتماعي لإقناع هذه الشريحة من المجتمع بالهجرة غير المشروعة التي ستساعدهم على تحسين أوضاعهم وتخليص ذويهم من شبح الفقر الذي يطاردهم. لكن هؤلاء الحالمين الذين ولئن تمكنوا من الوصول إلى بر الأمان، فهم عرضة للاستغلال والانحراف في البلدان الأوروبية. وفي كلتا الحالتين، فهم سيواجهون مستقبلا مجهولا سواء ظلوا في بلدانهم أو هاجروا إلى أوروبا.
وعلاوة على الظروف العصيبة التي يعيشونها في إيطاليا حيث يعملون كعمال في محطات الوقود أو في المطاعم ويتقاضون أقل من دولارين في الساعة، فإن حياة عائلاتهم في خطر إن لم يدفعوا للمهربين أموالهم. هؤلاء الأطفال الذين تحتضنهم دور الرعاية الإيطالية بسبب صغر سنهم يهربون من هذه المؤسسات بحثا عن عمل بسبب الخوف من التهديدات والضغوطات التي ستتعرض لها أسرهم إن لم يدفعوا ما عليهم للمهربين وسرعان ما يتحول الحلم إلى كابوس. ويبقى الأهالي كل يوم متجمعين في ميناء الجزيرة الخضراء مترقبين وصول قوارب الإنقاذ أو سماع خبر عن ذويهم المفقودين في عرض البحر على أمل نجاتهم أو الوصول إلى أرض الأحلام متناسين بذلك إمكانية موتهم.
وقد أعرب بعض المواطنين المحليين، الذين رفضوا الكشف عن هوياتهم خوفا من رد الفعل العنيف للسلطات عن لومهم للحكومة المصرية بعدم سعيها لخلق فرص عمل ولتوفير حوافز كافية للناس للبقاء في مصر. وقد صرحوا أنه كان يجب على الحكومة بدلا من الإعراب عن فشل خفر السواحل في قيادة عملية البحث والإنقاذ، هو الإعراب عن فشلها في تحسين الوضعية المتدهورة للعديد من الصيادين التي أدت بهم في نهاية المطاف إلى مواجهة هذا المصير القاتم.
كما أفاد أحد المواطنين في نفس هذا السياق، أن كل الأدلة تدل وتشير إلى أن هذا الوضع كان نتاج إهمال الدولة لهم وتخليها عنهم، مشيرا بكل مرارة، إلى قارب الصيد المليء بالجثث.
ويمكن القول إن الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذين استولى على السلطة سنة 2013 بعد الإطاحة العسكرية بسلفه الإسلامي، محمد مرسي، يتمتع حاليا بشعبية لم يسبق لها مثيل، على الرغم من أن بعض الشخصيات المحيطة به تتهرب من المسؤولية كل ما احتدت الأزمات في مصر. والجدير بالذكر أنه توجه يوم الاثنين بخطاب للشعب المصري توسل فيه الشباب المصري بالبقاء في مصر والتحلي بالأمل والتفاؤل.
وفي هذا الصدد، تساءل رئيس أركان الجيش السابق من الإسكندرية عن السبب الذي يدفع بالشباب إلى ترك بلادهم نافيا بذلك عدم وجود فرص عمل للعمل في البلاد، كما تعهد بالعثور على المهربين وتقديمهم للعدالة. وتجدر الإشارة إلى أنه تم القبض على أربعة رجال على الأقل من أفراد طاقم المركب المشتبهين بارتكاب جرائم تتعلق بالقتل غير العمد والاتجار في البشر، كما تمّ إصدار مذكرات توقيف في حق أكثر من خمسة أشخاص آخرين.
كما قال مواطن مصري آخر، يدعى عثمان، إن السلطات المصرية لم تعرنا اهتماما عندما كنا نطلب المساعدة ونغرق، مضيفا أن قوات الأمن كانت في كثير من الأحيان تتلقي الرشاوى من أجل التغطية وحماية المتورطين في عمليات التهريب. فلماذا بجب أن نثق أنهم سوف يساعدوننا الآن؟
المصدر: دايلي بيست