من المرتقب أن يشهد المغرب، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، انتخابات برلمانية. وعلى الرغم من أن للمملكة تاريخاً مديداً في مجال السياسة الحزبية، تبقى قدرة الأحزاب والسياسيين المنتخَبين على التأثير في السياسات محدودة. فالنظام الملَكي – ومعه مناصروه، من المستشارين والتكنوقراط – يملك سطوة قصوى على معظم شؤون الحوكمة والسياسات.
غير أن الأمور اختلفت قليلاً في الانتخابات البرلمانية في العام 2011. فقد سعى تعديل دستوري جاء في أوانه إلى معالجة التظلمات الشعبية والحدّ في الوقت نفسه من الاندفاعات الثورية، ماولّد مجالاً محدوداً أمام الأحزاب لتأدية دور أوسع قليلاً في الحوكمة.
على النقيض من الأفرقاء السياسيين الآخرين، تمكّن حزب العدالة والتنمية، وهو الحزب الإسلامي الأساسي في المغرب، من الإفادة من هذه التغييرات والبناء عليها.
تسلّم الحزب مقاليد السلطة في العام 2011، ويتولّى منذ ذلك الوقت قيادة الائتلاف الحاكم في البلاد. غير أنه سعى جاهداً للحفاظ على توازن دقيق بين العمل على تطبيق الأجندة التي طالبت بها قاعدته الناخبة الأساسية وبين تقديم البرهان للنظام الملكي بأنه لايُشكّل تهديداً لمصالحه. وقريباً يُقرّر الناخبون المغاربة ما إذا كان حزب العدالة والتنمية أفلح في مسعاه هذا.
اعتمد الحزب، بغية استمالة ناخبيه، سرديّات مفادها أنه تمكّن من الوفاء بالشطر الأكبر من وعوده الانتخابية، على الرغم من القيود الشديدة التي فرضها عليه البلاط الملكي والمعارضة. وسلّطت هذه السرديات الضوء على إنجازات الحزب في مجال دعم الشرائح المحرومة والهشّة في المجتمع (دعم الأرامل والمطلّقات، وتوسيع التغطية في مجال التأمين). ويتحدّث حزب العدالة والتنمية أيضاً باعتزاز عن إنجازاته الاقتصادية، بما في ذلك إصلاحات الدعم الحكومي من جملة إصلاحات بنيوية أخرى. وهو نشر سلسلة من مقاطع الفيديو التي يوجّه فيها رسائل لتذكير الناخبين أن الحزب هو “حكومة الشعب”.
حين يُواجَه حزب العدالة والتنمية بالأمور التي فشل في تحقيقها، يعوِّل، في حمأة دفاعه عن نفسه، على تفهّمٍ ضمني بأن السقف السياسي المحدود أصلاً، أشدّ تضييقاً على الحزب الذي يُعتبر دخيلاً يحاول إثبات نفسه للنظام الملَكي. وكان زعيم حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء الجريء، عبدالله بنكيران، صريحاً في مستهل ولايته حين قال إنه في صدد التعلّم، وإنه لايزال يبذل مجهوداً لاستيعاب الخطوط الحمر. بيد أن ثمة تناقضاً في هذه الرواية: يحلو لبنكيران أن يؤكّد أنه خادم الملك، لكن قدرته على الاستمالة نابعة أيضاً من الصورة التي يحب أن يروّجها عن نفسه كمشاغب شجاع يتحدّث جهاراً ضد المصالح الشخصية – حتى مصالح المقرّبين من النظام الملَكي – وكذلك ضد الوضع القائم.
يسير بنكيران وحزب العدالة والتنمية وأنصاره على حبل مشدود عبر إظهار رضوخهم للنظام الملكي، فيما هم يضغطون ضد بعض ممثّلي هذا النظام. وقد ألمح بنكيران مؤخراً إلى مفهوم التحكّم، مقدّماً إياه كدليل إضافي عن القيود التي يواجهها حزبه والتي لاتنبع بالضرورة من النظام الملَكي، بل من الأشخاص المحيطين به. يستند هذا المنطق إلى اعتقاد سائد منذ وقت طويل بأن المسؤولية في أي سوء إدارة للشؤون الوطنية يمكن أن تُحمَّل، بعد السياسيين، إلى المقرّبين من البلاط الملكي، إنما ليس إلى البلاط نفسه، فيحصل حزب العدالة والتنمية بذلك على فسحة كافية لتوجيه الانتقادات بحيث يرى ناخبوه أنه يبذل قصارى جهده، إنما لايمكن أن تصل هذه الانتقادات إلى حدٍّ يتسبّب بإزعاج النظام الملكي وإثارة غضبه.
يسعى حزب العدالة والتنمية خلف الأمرَين معاً. فهو يريد أن يُنظَر إليه على أنه مقرّب بما فيه الكفاية من البلاط الملكي ليحتفظ بالشرعية لدى الناس – الذين يدعم غالبيتهم النظام الملكي والاستقرار الذي يؤمّنه – لكنه يريد أن يُصنَّف أيضاً بأنه من خارج المنظومة القائمة، وأن يكتسب لنفسه سمعةً بأنه غير مُستتبَع من قبل النظام. ونظراً إلى الواقع السياسي الراهن في المغرب، من شأن مثل هذه الرسالة أن تستقطب من يريدون تغييراً ملموساً – من دون أن يكون هناك خوفٌ من أن يؤدّي هذا التغيير إلى زعزعة الاستقرار.
الفرصة سانحة أمام حزب العدالة والتنمية كي يقدّم أداء قوياً في الانتخابات في تشرين الأول/أكتوبر الجاري. وإذا كانت النتائج التي حققها في الانتخابات المحلية والمناطقية الأخيرة تحمل أي مؤشر، فهو أن بإمكان الحزب الفوز مرة أخرى بأكثرية نسبية جديدة من المقاعد في الانتخابات البرلمانية. لكن في حال لم يتمكّن الحزب من قيادة الائتلاف الحاكم العتيد، فهذا لايمنع من أن الجهود التي يبذلها لترويج سرديات النجاح، وإقناع الناخبين بها، سوف ترسّخ سمعته كحزب سياسي جدّي يسعى جاهداً لخدمة الشعب قبل أي شيء آخر، وهذا في حلبة سياسية تشمل أفرقاء ضعفاء ومنقسمين ومُستتبَعين وفاسدين.
نُشر هذا المقال لأول مرة في كارنيغي