ها هي الذكرى الـ 43 لحرب أكتوبر المجيدة تداعب أنوف المشتاقين لاستعادة العرب كرامتهم وهويتهم من جديد، ها هي نسمات الانتصار تلطف أنين المنكسرين، ها هي نفحات العزة والفخر ترفع رؤوس الملايين من العرب إلى السماء لتعانق كواكب الجوزاء فخرًا وعزة وكرامة.
تحل علينا الذكرى السنوية للانتصار الوحيد على الكيان الصهيوني المغتصب، يوم أن كان العرب يد واحدة، على قلب رجل واحد، كلمتهم واحدة، هدفهم واحد، يوم أن كانوا رجالاً على عدوهم، ملائكة على شعوبهم وبني جلدتهم، حينها فقط استحقوا النصر والتمكين من الله سبحانه، أما الآن فالأمر قد تبدل وتغير.
في هذه الجولة السريعة نسعى لأن نتذكر سويًا لحظات النصر والكرامة، لعلها تحيي في نفوسنا الأمل في غد أفضل، لكن في الوقت ذاته لا بد وأن نعرج سريعًا على ما أصاب الجسد العربي من أمراض فتّاكة، أوشكت أن ترديه ميتًا، أفسدته بعد صلاح، وشتته بعد وحدة، وأضعفته بعد قوة.
علامة العرب المضيئة
تعد حرب السادس من أكتوبر هي العلامة المضيئة الوحيدة في تاريخ العرب الحديث، حيث نجحوا بعد سنوات من الانكسار والهزيمة في إذلال الكيان الصهيوني وتمريغ أنفه في تراب العرب في مشهد أعاد لهم هيبتهم وكرامتهم بعدما دنستها أقدام النكسة في 67.
وسواء اتفقنا أو اختلفنا ستظل حرب العاشر من رمضان منارة الفخر العربية في مواجهة الكيان الصهيوني، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقودنا المواقف والخلافات مع نظام أو سياسة ما إلى إنكار الدور الذي قدمه الجيش المصري بدعم من نظيره السوري في رفع العلم العربي خفاقًا في سماء المجتمع الدولي.
نجح المصريون ما بعد نكسة 67 والتي تسببت فيها رعونة بعض قيادات الجيش المصري، في لملمة أوراقهم سريعًا، بدعم من معظم الدول العربية، سواء كان دعمًا عسكريًا كما هو الحال في سوريا والجزائر أو دعمًا سياسيًا لوجستيا كما هو الحال في الموقف السعودي والليبي، والوقوف على الأقدام بثبات غير متوقع، نجحوا من خلاله في دك حصون العدو، وتقديم أروع دروس فنون القتال العسكري للعالم أجمع.
نجح المصريون ما بعد نكسة 67 والتي تسببت فيها رعونة بعض قيادات الجيش المصري، في لملمة أوراقهم سريعًا، بدعم من معظم الدول العربية
وبالرغم مما ترتب على هذه الحرب من اتفاقيات سياسية مبرمة مع الكيان الصهيوني، إلا أن هذا لا يمنع أن الحرب ذاتها كانت نموذجًا مشرفًا للعرب جميعهم، استطاعوا من خلالها أن يثأروا للعزة العربية، وأن ينتصروا لكرامتهم وهويتهم.
الأبطال المنسيون
خلال السنوات التالية لحرب أكتوبر نجح الإعلام في تسليط الضوء على أسماء بعينها لتصديرها للرأي العام كونها صاحبة الفضل الأول والأخير في تحقيق الانتصار، وهو ما تمحور خلال العقود الثلاثة الماضية في شخص المخلوع محمد حسني مبارك، قائد القوات الجوية إبان حرب العاشر من رمضان، في تجاهل تام للأبطال الحقيقيين لهذه الحرب ممن ضحوا بأرواحهم وحياتهم من أجل رفعة شأن بلادهم دون أن يحصلوا حتى على تكريم إعلامي بعد وفاتهم.
وعزف الإعلام طيلة هذه السنوات على دور صاحب الضربة الجوية والبطولات التي خاضها لتدمير مواقع العدو في أبرز النقاط التي تمركز بها مما سهل الأمر على بقية فرق الجيش للعبور وتحقيق النصر، دون الإشارة حتى إلى دور سلاح الدفاع الجوي الذي لولاه ما نجحت الطائرات المصرية في تنفيذ مهمتها، ومن الملاحظ خلال الفترة الماضية أن المواقف الشخصية كانت اللاعب الأساسي في تحديد من يستحق أن يصدر للرأي العام والإعلام كونه بطلاً من أبطال الحرب ومن لا يستحق، وهو ما تجسد في العديد من الأسماء التي اختلف معها الرئيس الراحل أنور السادات ومن بعده مبارك ومن ثم غابت تمامًا عن منصات التتويج والتكريم إلى أن وافتهم المنية.
المواقف الشخصية كانت اللاعب الأساسي في تحديد من يستحق أن يصدر للرأي العام والإعلام كونه بطلاً من أبطال الحرب ومن لا يستحق
ويعد الفريق سعد الدين الشاذلي، أحد أهم هذه النماذج، وواحد من أبرز جنرالات مصر في حرب أكتوبر، فهو صاحب خطة اقتحام خط بارليف، وعلى الرغم من العقلية العسكرية الفذة التي كان يتمتع بها، إلا أنه اختلف مع الرئيس محمد أنور السادات حول إدارة العمليات العسكرية، فعزله من الخدمة العسكرية، وخرج من مصر لاجئًا إلى الجزائر، وتعرض بعد ذلك للظلم من مبارك حتى انتهى مشواره إلى السجن.
وصفوه بـ “العقل المدبر” لحرب أكتوبر، فهو صاحب خطة “المآذن العالية” التي أتاحت للجيش المصري العبور وتحقيق النصر، ورغم عبقريته العسكرية وأياديه البيضاء، إلا أنه القائد العسكري الوحيد في حرب أكتوبر الذي لم تكرمه الدولة في حياته، بل سجنوه وشوهت صورته بالخيانة.
ثم يأتي المشير محمد عبد الغني الجمسي، آخر وزراء الحربية في مصر التي تم استبدالها بوزارة الدفاع، كما يعتبر هو القائد العسكري المصري الذي شغل منصب وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة، وشغل قبلها منصب رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، ومن قبلها منصب رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة.
سُجل اسم محمد عبد الغنى الجمسى كأحد أبرز 50 شخصية عسكرية في التاريخ المعاصر، وأطلق عليه مهندس حرب أكتوبر، هذا وقد تم تصنيفه ضمن أبرع 50 قائدًا عسكريًا في التاريخ كما ذكرت أشهر الموسوعات العسكرية العالمية، ومع ذلك لم ينل نصيبه من التتويج في حرب أكتوبر
الأمر لم يتوقف عند القادة فحسب، فهناك مئات من الأبطال خلف الكواليس ممن غابت عنهم أضواء الإعلام، على رأسهم عمرو طلبة، عميل مصري في إسرائيل، وضعته القوات العسكرية المصرية باعتباره مصري يهودي، تحت اسم موشي زكي رافي، استطاع أن يصبح واحدًا من جنود الخطوط الأمامية في الجيش الإسرائيلي، ووصل إلى المواقع الدقيقة، والخطط الاستراتيجية الخاصة بخط بارليف، ولولا هذا البطل، لما استطاع جنود الجيش المصري أن يكونوا على علم بالمخططات الإسرائيلية، فقد خاطر بحياته من أجل بلده ووضع نفسه مع العدو، حتى إنه توفي مرتديًا ملابس الجندي الإسرائيلي، وجد الجنود المصريون جسده وأعادوه ليدفن ويكرم في بلاده.
ثم يأتي محمد علي فهمي، المعروف بـ “أب الدفاع الجوي المصري”، معروف بالتخطيط وإدارة وقيادة الدفاع الجوي المصري، أثناء حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، حيث بنى جدار الصواريخ المصري، وأنشأ دفاع الطيران ليصبح فرعًا مستقلاً عن القوات المسلحة، كما أنشأ خمس كتائب دفاع جوي جديدة، وشعبتين جديدتين في الدفاع الجوي، بالإضافة إلى أكاديمية الدفاع الجوي في عام 1970، لتدريب الضباط الشباب والمجندين.
كذلك الجندي محمد عبد العاطي عطية، والذي لقب بصائد الدبابات، لكمية الدبابات التي تمكن من تدميرها، ففي 8 أكتوبر 1973، أطلق أول صاروخ ضرب دبابة إسرائيلية ودمرها، ثم استهدف 13 دبابة أخرى، أحاط العدو نفسه بأكثر من 190 لواء مدرع من الخدمات الإسرائيلية، لكن هذا لم يمنعه، بالتعاون مع زملائه، وتعديل صواريخهم لأقصى ارتفاع، ليتمكن من تدمير 27 دبابة وجميع اللواءات المدرعة.
كما يعد المقدم جمال محمود علي، أحد أبرز من ساهموا في نجاح الحرب، إذ نجح في تدمير خط بارليف، أحد أهم المشاكل الرئيسية خلال حرب أكتوبر، فقد استخدموا المروحيات وفرق الإعدام، لكن هذه الحلول لم تكن عملية، حتى جاءت الفكرة العبقرية لجمال محمود، حيث استخدام خراطيم المياه عالية الضغط، لتدمير الساتر، وتمكن الجنود المصريين من العبور، بجانب زميله المهندس أحمد حمدي، والذي كان مسؤولاً عن إعداد الجنود، لتثبيت الجسر الذي سيضمن نقل آمن للجنود الجيش الثالث للجانب الآخر من قناة السويس، كان معروفًا باسم “اليد النقية” لأنه تمكن من فك آلاف القنابل على الأرض قبل أن تنفجر، استشهد أثناء تثبيت الجسر، وكان يفضل العمل مع الجنود بدلاً من إعطاء الأوامر.
بالإضافة إلى العقيد محمد زرد، قائد الفرقة 18 مشاة في حرب أكتوبر 1973، والذي لٌقب بـ “مدمر الدبابات” حيث نجح وفرقته المكونة من 8 أفراد فقط في تدمير 37 دبابة إسرائيلية بمنطقة القنطرة بالسويس، كذلك الجندي سيد زكريا الذي قتل 22 إسرائيليًا بمفرده خلال الحرب خلال مواجهات مع قوات العدو بالقرب من جبل الجلالة بمنطقة رأس ملعب بسيناء.
كما أن المدنيين من الشعب كان لهم الدور البارز في تحقيق هذا النصر العظيم، إذ احتلوا ما يقرب من 80% من عدد القوات المشاركة في الحرب، ما بين جنود ومهندسين وضباط احتياط، إلا أن أحدًا لم يعر لدورهم أي اهتمام واقتصر الاحتفاء على العسكريين من القادة ممن تصدروا المشهد فيما بعد.
الجيوش العربية من محاربة العدو إلى قتل شعوبها
قبيل حرب العاشر من رمضان وفي أثنائها وبعدها بقليل، كانت الجيوش العربية جميعها على قلب رجل واحد، وباتت الوحدة فيما بينها سمة تناقلتها الأجيال اللاحقة حول تجسيد معاني الوحدة العربية، فنجد التحام الجيش المصري والسوري وبعض الجنود المشاركين من الجيوش العربية الأخرى، يدًا بيد مع شعوبهم في مواجهة العدو، في صورة أبهرت العالم أجمع حينها، إلا أنه وبعد مرور ما يقرب من 43 عامًا على هذه الحرب نجد أن هذه الجيوش نفسها التي توحدت في مواجهة عدو واحد تحول عداءها إلى شعوبها، وبدلاً من أن توجه الرصاص صوب المحتل الغاشم باتت صدور مواطنيها مرمى نيرانها وهدف طلقاتها.
تحول الجيش الوطني العربي السوري إلى أداة قمع وإرهاب ضد بني جلدته، وباتت أرواح أطفال الشعب ونسائه ورجاله هدفًا لهم في حلهم وترحالهم
ففي مصر حدث ولا حرج، حيث تحول الجيش الذي ما أطلق رصاصة واحدة صوب العدو الأول له وللعرب والذي لا يبعد عن حدوده سوى بضعة كيلومترات بالرغم من الانتهاكات التي يمارسها ما بين الحين والآخر ضد جنوده على الشريط الحدودي، طيلة 43 عامًا مضت، نجده قد حول دفته صوب شعبه، حين أقحم نفسه في العمل السياسي، لا سيما بعد أحداث الربيع العربي، حيث تواترت الأنباء بشأن أعداد من قتل على يد الجيش ما بين 3000 – 8000، فضلاً عن ممارسات التنكيل والتعذيب التي يمارسها بحق شعبه.
وفي سوريا الأمر لا يختلف كثيرًا عن مصر، فقد تحول الجيش الوطني العربي السوري إلى أداة قمع وإرهاب ضد بني جلدته، وباتت أرواح أطفال الشعب ونسائه ورجاله هدفًا لهم في حلهم وترحالهم، حيث سقط على أيديهم الآلاف، فضلاً عن تشريد الملايين خارج بلادهم، وهو الذي لم يطلق رصاصة واحدة تجاه محتل أرضه والذي لا يبعد كيلومترات عن قلب عاصمة بلاده.
أضف إلى ذلك ما يمارسه الجيش الجزائري ضد شعبه، كذلك ما يمارس فوق أرض اليمن وليبيا من استهداف الجيوش للمواطنين العزل نصرة ودعمًا لنظام سياسي بعينه حتى ولو على حساب أشلاء وأرواح الشعب بأكمله.
عدو الأمس صديق اليوم
من المفارقات العجيبة في الاحتفاء بذكرى أكتوبر المجيدة أن الكيان الصهيوني الغاصب تحول من عدو أحتل الأرض وقتل الآلاف من أبناء العرب، فضلاً عما يمارسه اليوم ضد الأشقاء الفلسطينيين، إلى صديق مقرب، فقبيل ساعات قليلة من ذكرى حرب العاشر من رمضان كان وزير الخارجية المصرية في قلب القدس يعزي في وفاة أحد أبرز مجرمي الحرب في إسرائيل شيمون بيريز، وعلامات الحزن والتأثر تكسو ملامحه برفقه المطبع الأول عباس أبو مازن ورجاله.
التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي بدأته مصر وتبعتها الأردن ثم بقية الدول وفي مقدمتها تونس والمغرب والسعودية وسوريا، نجح في أن يحول هذا الكيان من عدو كان من المفترض أن يتوحد العرب جميعهم لمواجهته وطرده من الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى صديق عزيز وشريك محوري في العديد من ملفات المنطقة، بل وبات الحديث عن ضرورة إعادة النظر في العداء بين إسرائيل والعرب وجبة دائمة على كافة موائد النقاش السياسي العربي في الداخل والخارج.
الصراع العربي العربي
تحول العرب ما بين غمضة عين وانتباهتها من قوة واحدة في مواجهة أعدائها سواء كان الكيان الصهيوني من خلال الوحدة العسكرية والدعم الاقتصادي المطلق خلال حرب أكتوبر، أو التوحد في مواجهة المخططات التآمرية الغربية والشرقية على حد سواء ضد دول المنطقة، إلى كتل متفرقة متصارعة حول عدد من الملفات الإقليمية المتداخلة فيما بينها، حيث سيطرت المصالح الشخصية للحكام والنظم الحاكمة على توجهات الدول وسياساتها الخارجية بصورة عكست حجم الخلاف العربي العربي، ما دفع البعض إلى الإحباط واليأس من التوافق العربي مرة أخرى، وهو ما انعكس في أقوال العديد من الشخصيات العامة ومنها، أن العرب اتفقوا على ألا يتفقوا.
سيطرت المصالح الشخصية للحكام والنظم الحاكمة على توجهات الدول وسياساتها الخارجية بصورة عكست حجم الخلاف العربي العربي
فنجد الملف السوري وكيف أن الدول العربية قد انقسمت فيما بينها حياله، ما بين دعم نظام الأسد ودعم المعارضة، كذلك الملف اليمني ما بين دعم الحوثيين أو الثورة، إضافة إلى الانقسام حول ملف قضية الصحراء في المغرب، والموقف من الثورة التونسية والليبية، وهكذا يلاحظ أن هناك انقسام عربي واضح في الكثير من الملفات العربية البينية، وهو ما يعكس حالة التفتت والشتات فيما بينهم.
وفي المجمل سواء اتفق البعض مع ما ترتب على حرب أكتوبر من كوارث أو اختلف معها، وسواء اتفقوا على الموقف من النظام والجيش المصري أو اختلفوا بشأنه، ستظل حرب السادس من أكتوبر هي العلامة المضيئة الوحيدة في تاريخ مصر والعرب الحديث، ويكفي للمصريين والعرب شرفًا أنهم نجحوا في تمريغ أنف الكيان الصهيوني في التراب، في الوقت الذي كانت تتباهى فيه تل أبيب بأنها حصن لا يمكن اختراقه، لتقع أسيرة أقوى درس في فنون العسكرية على أيدي المصريين.