يعدّ الصحفي الألماني (يورغن تودنهوفر) من أكثر الصحفيين الغربيين إشكاليةً، فهو من القليلين الذين تمكّنوا من زيارة أراضي داعش، والتجوّل داخلها بحريّة مطلقة، وهو الذي في أجرى حواراً مع بشار الأسد من داخل دمشق في عام 2012، ليكمل مسيرته الغريبة داخل سورية بإجراء حوار مع أحد قياديي جبهة النصرة أو ما بات يعرف بحبهة (فتح الشام). والجميع داخل وخارج سورية يعرف صعوبة إجراء مثل هذه الحوارات مع أشخاص من النماذج المذكورة سالفاً.
ألّف تودنهوفر كتاباً حول زيارته إلى أراضي الدولة الإسلامية المزعومة، ثمّ نشر الفيلم الوثائقي الذي أعدّه عن تلك الزيارة، وحظيت شخصياً بفرصة حضور عرض الفيلم في إحدى دور السينما في مدينة (إيسن) الألمانية، وذكرت في مقامٍ آخر ردّه على سؤالي حول مجازر الأسد بقوله: “لا أحد يهتم بها يا صديقي”.
بغضّ النظر عن معنى الصداقة المقصود من كلامه، إلا أنّه طيلة السنوات الخمس التي شكّلت عمر الثورة السورية، كان يسعى جاهداً إلى إظهار نفسه كصديق للسوريين خاصة، وللعرب المسلمين على وجه العموم. كما أطلق مواقف عدّة تندد بما يُعرف في ألمانيا بـ (النازيين الجدد)، واشتهر بمناهضته اليمين المتطرف ودفاعه عن اللاجئين. كل هذا قد يبدو جيداً في مواقف الرجل؛ لولا أنّه يقف على النقيض من مواقفه الإنسانية تلك، فهو لم يفوت أي فرصة يمكنها من خلالها تلميع صورة الأسد، ودعمه إعلامياً.
ولعل حواره الأخير مع أحد قياديي جبهة النصرة “سابقاً”، والتي تغيّر اسمها لاحقاً ليصيح (جبهة فتح الشام)، يدلل على التناقض الواضح في مواقف هذا الرجل. حيث برزت هفوات كثيرة لم يتنبّه إليها. وأوّلى تلك الهفوات هي التعريف بالقائد (أبي العز) بوصفه أحد قادة جبهة النصرة، دون التعريج على التغيرات التي طرأت على الجبهة من قبيل تغيير الاسم مثلاً! ومن ثمّ يظهر الشاب الذي يمشي أمام سيارة الصحفي لإرشادهم إلى الطريق، وقد أرتدى بدلةً عسكرية يلبسها عادةً أفراد الجيش السوري النظامي، وهو زيٌّ لا يرتديه أعضاء جبهة النصرة أو الجماعات الجهادية عموماً. كما أنّه لم يتنبّه، ربما إلى الخاتم الذي يلبسه أبو العز في إصبع يده اليسرى، وهو ما شكّل هفوة أخرى لم يتداركها الصحفي المخضرم، فالذهب محرّم على الرجال في عرف هؤلاء القادة، ومنهجهم السلفي. وهذا أمرٌ يعرفه كثير من السوريين. أضف إلى ذلك أنّ معظم مقاتلي النصرة يمتازون ببنيتهم الرشيقة والقوية، وهو ما لم ينطبق إطلاقاً على صورة أبي العز بطل الفيلم؛ بل إنّ كثيراً ممن شاهدوا الفيلم قابلوه بالسخرية والاستهجان، وأطلقوا على أبي العز صفة “مساعد” في مرتبات الأمن الجنائي السوري، وربما الحال هنا تنطبق أكثر على أبي العز هذا.
وبعيداً عن سرواله ناصع البياض، بدت حركات هذا القيادي الكاريكاتيري مرسومة بدقّة وعناية لتحقيق أهداف معيّنة سعى إليها محاوره. ومن جملة السقطات الأخرى التي وقع بها تودنهوفر، أنّه اعتمد على كومبارس فاشل لا يتقن اللغة الخطابية التي يمتاز بها أعضاء الجماعات الجهادية. حيث دأب أبو العز على استخدام كلمات مفرطة في عاميّتها، واستخدام مفرداتٍ من قبيل (استبداد، دكتاتورية، استراتيجية…) وهي كلمات لا ترد عادةً في قاموس أعضاء الجماعات الجهادية؛ كما لا يغيب عن الجميع أنّ أمير جبهة النصرة سابقاً، (فتح الشام) لاحقاً المعروف بأبي محمد الجولاني كان قد ظهر بوجهه الصريح في وقتٍ سابق، معلناً فكّ ارتباط الجبهة مع القاعدة، وتغيير الاسم ليكون (جبهة فتح الشام)، فإذا كان القائد العام قد كشف عن شخصيته الحقيقية، فمن هو أبو العز هذا ليبقى ملثماً؟!
يظهر من خلال الفيلم أن الصحفي يجهد من أجل ترسيخ فكرة محاربة الأسد للجماعات التكفيرية، وأنّ من يقاتل الأسد على الأرض السورية هم مجرد مرتزقة يتبعون بشكلٍ أو بآخر إلى جبهة النصرة، التي تعدّ فرعاً لتنظيم القاعدة في سورية؛ وبالتالي فإنّ على المجتمع الدولي أن يخشى هؤلاء الإرهابيين الذين يتوعّدون ويهدّدون أوربا وأميركا وإسرائيل، على الرغم من دعم هؤلاء لهم، حسب ما ذكره ذلك القيادي المزعوم!
روبرت فيسك
لعلّ هذا التناقض في مواقف تودنهوفر يُذكّرنا بمواقف مشابهة لزميله الصحفي البريطاني الشهير (روبرت فيسك)، الذي كتب مقالاً يوم الأربعاء الفائت في جريدة “الإندبندت” البريطانية حول وفاة رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز مندداً بوصفه “صانع السلام”، ومؤكداً مسؤولية بيريز عن كثير من المجازر بحقّ الفلسطينيين واللبنانيين، وهو بالطبع موقفٌ لا غبار عليه؛ بل فاق موقف كثير من العرب الذين أرسلوا برقيات التعزية بوفاة بيريز. لكنّ فيسك هذا نفسه لم يجد حرجاً في تحميل الشعب السوري المسؤولية عمّا يجري في سورية؛ وهو نفسه من حاول تبرئة النظام السوري من المذبحة الكيماوية الشهيرة في الغوطة؛ ناهيك عن كثير من المقالات التي لا تنظر إلى سورية إلا من المنظور الطائفي والتوزع الجغرافي لهذه الطوائف.
إذاً، والحال كذلك، كيف يمكن لأمثال هؤلاء من الصحفيين كروبرت فيسك ويورغن تودنهوفر وغيرهم أن يكونوا صوتاً للحق؟! وهل يجب علينا أن نصدّق ادعاءاتهم حول مساندة المظلومين في بلداننا؟ كيف يمكن لمن يؤيد الأسد، ويجري حوارات صحفية داخل المعتقلات الأسدية، أو برفقة دباباته التي تدكّ المدن السورية أن يكون صوتاً محايداً يبحث عن الحقيقة؟!
ألا يُعدّ هذا العمل الذي اضطلع به تودنهوفر ورفاقه تزييفاً للحقائق على أرض الواقع؟! وتأييداً للقاتل في حربه ضدّ شعبه؟! ألا يرى هذا الصحفي وأمثاله أنّ ما يقومون به من تدليسٍ وتزييف للحقائق سيخلق آلافاً من المظلومين الذين سيتحولون إلى فرانكشتاين حقيقي سينتقم لمظلوميته، ولن يقوى أحدٌ على الوقوف بوجهه؟!