كانت شعارات التنمية والعدالة الاجتماعية، بما تتضمنه من إعادة توزيع ثروات الأوطان، على رأس مطالب ثورات الربيع العربي، وكانت المكوِّن الرئيسي في برامج الأحزاب الإسلامية التي تصدرت المشهد السياسي والمجتمعي في مرحلة ما بعد النجاحات المرحلية التي تحققت في بعض بلدان الربيع العربي.
وكان من بين أهم الأمور التي ارتكز عليها أصحاب الثورات المضادة من قوى الدولة العميقة والأنظمة القديمة، ومَن نحا نحوهم من أصحاب المال والنفوذ، هو عدم امتلاك الأحزاب والحركات الإسلامية لمرتكز حقيقي للتنمية والعدالة الاجتماعية التي نادت بها الجماهير، وأن الإسلام لا يملك نموذجًا مستقلاً في هذا المجال، وبالتالي؛ فإنها لن تستطيع تحقيق تطلعات الجماهير ومطالبها.
وعندما تم الاستناد إلى تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا، باعتباره حزبًا ذا خلفية إسلامية، ومنبثق من رحم تجربة الإخوان المسلمين والإسلام السياسي الصحوي في تركيا؛ كان هناك أكثر من تحفظ عليه، ومن أهمها اعتماد النظام الاقتصادي التركي على منظومة مالية تقوم على أساس البنوك التجارية الربوية، وانحراطه الكامل في النظام الرأسمالي العالمي، الذي ينهض على مجموعة من الأسس التي تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وعندما تم طرح القواعد والأسس التي حددتها الشريعة الإسلامية كأساس للعمل الاقتصادي، وكقواعد عامة للتنمية والعدالة الاجتماعية، تم الاحتجاج بأن هذه القواعد والأسس ذات طابع مثالي، وغير قابلة للتطبيق، وأن اعتبارات الواقع تمنع أي نظام اقتصادي من الانغلاق على نفسه؛ بل لابد أن يصبح جزءًا من الاقتصاد العالمي، واستدلوا على ذلك بأنه حتى الصين، التي ظلت لعقود طويلة منغلقة على نفسها؛ بدأت تدرك أنه من المستحيل الاستمرار في هذا الوضع، فيما النظام الاقتصادي العالمي تمنع قواعده تطبيق هذه القواعد التي يدعو إليها الإسلام.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن الرد على هذه الأمور وتوضيحها من أهم الأمور، ضمن سياقات أخرى يجب توضيحها لجموع تم فصلها بشكل كامل عن هويتها الإسلامية لقرون طويلة قضاها الاستعمار والأنظمة المستبدة، وذلك من أجل إقناعها بجدوى التغيير، وحقيقة الشعارات المطروحة للحصول على تأييدهم.
وهذا ربما أهم ما يجب أن يحرص عليه أصحاب المشروع الحضاري الإسلامي الصحوي في ظل غمار المعركة التي يخوضونها في الوقت الراهن على قلوب وعقول الجماهير، بحيث يتكون لدى هذه الجماهير إدراك بأن النموذج الإسلامي غير منفصل عن العصر، وأن به حلولاً لمختلف المشكلات التي تواجه المجتمعات الإنسانية في وقتنا الراهن.
نموذج الخلافة الراشدة في التنمية الإسلامية
عبر تاريخها الطويل، عرفت الدولة الإسلامية في محطات بعينها من هذا التاريخ، نماذج تنموية شديدة الأهمية، حققت العدالة الاجتماعية في أجلى صورها، وفق مبدأ العدالة في توزيع الثروة على عموم مواطني الدولة، بما في ذلك غير مسلميها المقيمين بين ظهرانيها، ممن أقروا بسلطة دولة الإسلام عليهم.
واعتمدت هذه النماذج أكثر ما اعتمدت على الآليات التي اعتمدتها الشريعة الإسلامية في مجال التمويل بلغة الاقتصاد هذه الأيام.
وتستند هذه الآليات إلى الزكاة بأنواعها، منها زكاة المال، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة المنقول، وهي فريضة على المسلمين، والجزية على غير المسلمين، وخِراج الأراضي النامية التي فتحها المسلمون صلحًا أو عنوة.
وهناك من يُطلق مصطلح الخِراج على الأموال التي تتولى الدولة الإسلامية جبايتها بشكل عام، وصرفها في مصارفها الشرعية، بما في ذلك الزكاة والجزية، وهناك من يخص المعنى على الضرائب التي يفرضها إمام المسلمين على الأراضي النامية المفتوحة.
وتميز الشريعة الإسلامية في هذا الصدد بين الأراضي المفتوحة صلحًا؛ حيث هي ملك لأربابها، وخراجها في حكم الجزية، ومتى أسلم أهلها؛ سقط الخراج عنهم، ولهم بيعها ورهنها وهبتها لأنها ملك لهم، وبين الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة، ولم يتم تقسيمها كغنائم، وهذه لا يسقط خراجها بإسلام أهلها أو انتقلت إذا إلى مسلم، وإنما يجتمع مع خراجها، ما يحب عليها من زكاة.
وفي عهد عمر بن الخطاب “رضي اللهُ عنه”، ومع زيادة مساحة الأراضي التي فتحتها الجيوش الإسلامية، وبالتالي زيادة حجم أموال الغنائم والخراج والزكاوات؛ تم تأسيس بيت مال المسلمين، لحفظ هذه الأموال، سواء السائلة منها أو في صورة ذهب ومعادن نفيسة.
وكان بيت مال المسلمين، هو الإطار المؤسسي والمسار التنفيذي الأهم الذي من خلاله التصرف في هذه الأموال، سواء لجهة إنفاقها في مصارفها الشرعية الموضحة في سُورة “التَّوْبة”، في قوله تعالى: “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)”، أو إنفاقها في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المختلفة.
وكان فتح العراق، مع ما فيها من أراضٍ مزروعة هو الحدث الأهم الذي دفع عمر بن الخطاب إلى بدء التفكير في كيفية توظيف هذه المنح الربانية التي منَّها اللهُ تعالى على جماعة المسلمين، وخصوصًا التمر بألوانه المختلفة، والحنطة، وغير ذلك من أنواع الحبوب التي تشتهر العراق بزراعتها، والتي لها مكانة خاصة عند المجتمع العربي، وتُعتبر الوسيلة الأساسية لأداء حق الله تعالى في الكثير من الأمور، مثل زكاة الفطر، والتي تُخرَج بالأساس إما تمرًا أو حبوبًا.
واستقر الوضع بعد فتح بلاد الشام ومصر، والتي كانت بدورها معروفة بكثرة خِرَاجها، بالإضافة إلى عائدات الجزية من غير المسلمين، وزكاة المال من مسلمي هذه البلاد الذين دخلوا في الإسلام تترى بعدما رأوا عدالة الفاتحين العرب والمسلمين.
وكان بيت المال ضمن إطار مؤسسي أكبر وضعه عمر بن الخطاب، واستفاد فيه من تجربة بلاد فارس ومصر بالأساس، فأخذ من الأولى نظام الوزارات الذي نعرفه نحن الآن، في وقتنا الراهن، وكان يُطلق عليها في ذلك الحين، مصطلح الدواوين، وأخذ من المصريين، أفكارًا تتعلق بكيفية الحفاظ على الغلال في صوامعها، وتخزينها وصيانتها في أوقات الرخاء، لأوقات الشدة والبأس، في ظل خبرة المصريين التاريخية مع تذبذب فيضان النيل.
ولم تختلف تجربة عمر بن عبد العزيز، الذي يعتبره الكثيرون خامس الخلفاء الراشدين، (ثامن خلفاء بني أمية وحكم فترة عامَيْن فقط بين، عام 717م و720م)، عن تجربة عمر بن الخطاب، في الجانبَيْن، التنموي والمؤسسي، وإن كانت أكثر اتساعًا بحكم مساحة الدولة الإسلامية، وانتظام العمل فيما إرث الدولة التي أسسها عمر بن الخطاب.
ومن خلال قراءة سريعة فيما جاء في كتب التاريخ عن تجربة العمرَيْن في هذَيْن المجالَيْن:
– عدالة توزيع الجهد التنموي والمؤسسي على المستويَيْن الأفقي والرأسي، أي مختلف أرجاء الدولة الإسلامية، وكل شرائح أبنائها، وفق ما أتت به الشريعة الإسلامية.
– توظيف المال النقدي والعيني، المنقول وغير المنقول، وكل ما يتصل بالزكاة والفيئ والخراج وعوائد الأراضي المفتوحة، وغيرها من مصادر إيرادات الدولة الإسلامية، في مختلف الاتجاهات، سواء الإنفاق في المجال الاجتماعي، مثلما نعرف في وقتنا هذا بإعانات البطالة، وإعانات الفقراء، أو قروض الزواج، والمواليد الجدد، أو الإنفاق على البنية التحتية، والتي شملت الطرق والمرافق العامة، ولاسيما تحسين شبكات الري، وكذلك المؤسسات التعليمية، والمراكز العلمية مثل المكتبات الكبرى ودور العلم، والمراكز الصحية، وغير ذلك.
معالم أساسية
وهنا نقف أمام أهم معالم هاتَيْن التجربتَيْن؛ حيث صلب ما نتحدث عنه.
المَعْلَم الأول هو أن حالة النهضة العمرانية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية التي بلغت في عهد عمر بن عبد العزيز مستوى أن اختفى فيه الفقراء من مجتمع الدولة الإسلامية بالكامل، وحتى لدرجة أن قال قولته المشهورة : ” أنثروا القمحَ على رؤوسِ الجبال لكي لا يقال جاعَ طيرٌ في بلاد المسلمين”؛ نقول إن هذه الحالة من الرخاء التي لم يصل إليها أي اقتصاد رأسمالي في عصرنا الحالي، تحققت فقط بفضل العوائد الشرعية للمال بصوره المختلفة، وعلى رأسها الزكاة، من دون أية مكوس أو ضرائب إضافية.
المَعْلَم الثاني، هو نظافة يد وزهد العمرَيْن؛ حيث كان لذلك دورٌ أساسي في حسن توظيف مال المسلمين لصالح المسلمين، وكامل رعية الدولة، بمن فيهم غير المسلمين.
فعمر بن الخطاب لم يكن يأخذ من بيت المال شيئًا لنفسه ولا لأهله، حرصًا وتحوطًا من الشبهات، ومهما ضافت بهم ضائقة الفقر والحاجة المادية، أما عمر بن عبد العزيز؛ فبرغم ما عُرِف عنه من ثراء في حياته قبل توليه الخلافة – بنو أمية في الغالب كانوا أهل تجارة وزروع ومال – فقد كان حريصًا على الزهد والتقشف أمام الرعية، وأمام مسؤولي أركان إدارته؛ لإظهار القدوة الحسنة.
والأمثلة والحكايات التي تُروى في هذا الصدد من حياة كلا العُمرَيْن، وتبرز ذلك، كثيرة، وأهم ما فيها إظهار أهمية عنصر الشفافية والمحاسبة الذاتية من جانب الحاكم، في صيانة المال العام، وبالتالي، تحسين قدرة الدولة على توظيفه في مجال التنمية.
المَعْلَم الثالث، كان يتعلق بقضية العدالة الاجتماعية وعدالة توزيع الثروة على الرعية، وفق جداول وخطط دقيقة، تعمل على مكافحة مختلف الأمراض الاجتماعية، مثل الفقر والبطالة والعنوسة، مما يُعتبر وفق أحدث الدراسات في مجال العلوم الاجتماعية الاقتصادية، الضمانة والركيزة الأساسية للاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي، وخصوصًا إذا ما أدرك المواطنون نزاهة يد الحاكم، وضربه بشدة على يد المفسدين وسُرَّاق المال العام.
كل ذلك تأسس على الشريعة الإسلامية، سواء فيما يتعلق بالآتي:
– تنظيمها لمصادر المال السيادية الواردة إلى الدولة الإسلامية، سواء في الإيرادات، أو في مجال الإنفاق.
– قضية الشفافية والمحاسبة.
– المؤسسية وحسن الإدارة والتنظيم، وبالتالي، العدالة في التوزيع.
مشكلات واقعنا وأسبابها
تُعتبر قضية الزكاة في الإسلام، من بين أهم القضايا التي يجب إعادة بحثها في وقتنا الراهن.
فمع خروج الدول العربية والإسلامية في إطارها المؤسسي والتنظيمي عن القواعد المرعية في الشريعة الإسلامية، والتزامها بالنموذج الغربي في مؤسسات الدولة وعملها، وكذلك في ماليتها العامة، بحيث صارت الزكاة ممارسة شخصية، وليست إطارًا عامًّا للمالية العامة للدولة؛ عانت الدول العربية والإسلامية من الكثير من المشكلات.
وهذه المشكلات يجب ردَّها إلى إطارها الشرعي والعقيدي الأصلي، مع احترامنا لقوانين الأسباب التي تفرضها علوم الاقتصاد والمعايير المادية.
فالمال الذي تحكم فيه حُكَّام العرب والمسلمين، ولاسيما في الدول الريعية الغنية بمواردها الطبيعية، مثل دول الخليج النفطية، هو في النهاية مال الله عز وجل، والزكاة في أبسط مفاهيمها، هي حق الله في مال الله.
ولما تجاوزنا هذه الحقيقة العقيدية؛ فإن الله تعالى، وهو خالق القوانين العمرانية في الأصل، سلط علينا قوانين أخرى، قادت إلى حالة الفقر والحاجة الراهنة، والتي وصلت إلى مستوى أن قامت دولة تملك أكبر احتياطيات العالم النفطية، وهي المملكة العربية السعودية، بإجراءات تقشف، شملت حتى الأخذ بالتاريخ الميلادي بدلاً من التاريخ الهجري، من أجل توفير بضعة قليلة من مليارات الدولارات، كانت لا تساوي أي شيء في موازناتها العامة فيما مضى.
وهو أمر موجود وواضح في القرآن الكريم؛ فتجاوز تعاليم الله عز وجل، والكفران بأنعمه، كان من بين صور عقابه، أن حرمها الله تعالى من أنعمه، وابتلاها بالفقر.
ومن بين ذلك، قوله تعالى في سُورة “النحل”: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112)”، وفي سُورة “القصص”، يقول عز وجل: “وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)”.
فقوانين الوفرة، وقوانين الرفاهية، مثلها مثل قوانين الفقر (من صوره “الجوع” كما جاء في اللفظ القرآني)؛ كلها من خلق الله تعالى، وكلها بيده يصرفها كيف يشاء.
الأمر الثاني “السياسي” في هذا الاتجاه، فهو يتعلق بتقاعس المسلمين وحكامهم عن الإنفاق على فقراء المسلمين من عوائد الزكاة بعد ظهور الدولة القومية، بينما أن الأصل – كما تقدم – أن المال هو مال الله تعالى، واستخلفنا فيه، فهو مال المسلمين، ويجب أن يكون للمسلمين، فيما الحدود الجيوسياسية الحالية للدول، ما أنزل الله تعالى بها من سلطان، ومن صُنع الاستعمار أصلاً.
فقراء المسلمين في مخيمات يأكلون القمامة ومليارات مهدرة في سلاح بل طائل
وبينما يتقوت ملايين من فقراء المسلمين على القمامة، ويموت عشرات الآلاف منهم في عرض البحر، فرارًا من مقلاة الفقر والعوز في بلدانهم؛ فإن حكومات دول الخليج تنفق المليارات من أموال النفط، ومن ثروات الأمة، على تسليح لا طائل ولا داعي له، وأبسط مثال على ذلك، أن هذا السلاح المكدس، لم يمكنه التصدي للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، حينما قرر غزو الكويت، وهدد وحده عروش مشيخات الخليج بالكامل؛ فلجأ أمراء وشيوخ وملوك المنطقة إلى الولايات المتحدة لإنقاذهم!
هذه الرؤية الموسَّعة لفريضة الزكاة، تقول بأن الإسلام أكبر وأعظم أثرًا مما يظهره بعض المنتسبين له، ويحاولون لمصالح خاصة، أن يظهروه مجرد دين عقيدة وعبادة فردية، وهو أبدا ما كان فرديًّا في عباداته؛ فالصلاة الجامعة تفوق في أجرها صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، والصوم عبادة يتمها المسلمون جميعًا في ذات الوقت، والحج؛ هو ركن الجماعة أصلاً، وكذلك الزكاة؛ فهي تخرج من جيوب المسلمين، لكي تكون للمسلمين، وهي من أعظم العبادات أثرًا في الجانبَيْن السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
نسأل الله تعالى أن يهيئ لهذه الأمة من أمرها، فهمًا لصحيح دينها!