ما زال الحاج ثجيل يعشق زورقه القديم، الذي عاش معه سنوات المحنة وأيام المسرات، ينقل طلاب الكليات من منطقة الكاظمية إلى منطقة الكريعات، فيحصل على ما يساعده في تلبية حاجات بيته، أما الركاب فيسعون للخلاص من الاختناقات المرورية للوصول بسرعة لمقاعد الدراسة، فكان زورق ثجيل طوق النجاة للكثيرين، الحاج ثجيل دومًا يرمق نهر دجلة ويتحسر على ثروة كبيرة تفرط بها الدولة، فالنهر يمكن أن يتحول لبوابة للأعمال المثمرة من نقل وسياحة، وينقذ الأبناء من البطالة، لكنها أحلام ذهبت مع سنوات عمر الحاج ثجيل.
النقل النهري في العراق بداية القرن الماضي
النقل والسياحة النهرية رافدان مهمان لكل بلد، فالنقل يحقق مصالح البلد عبر توفير أيراد كبير، وللناس عبر إيصالهم بوسائل مختلفة ويحقق غاياتهم الترفيهية ويكون بوابة لتوفير الأعمال، ويربط المدن والقرى معًا، ويجعل الوصول للأسواق والأعمال سهلاً يسيرًا، وهذا الأمر خاص ببعض البلدان التي تمتلك أنهارًا، فالعالم المتطور يفكر بكل جزئيات الحياة ليستفيد منها بأقصى قدر ممكن، فالثروات في العالم الغربي يستغلها بأوسع قدر ممكن، لكن هنا المحنة، كل شيء متوفر، لكن الإهمال يعصف بحياتنا، مما أضاع علينا فرص التقدم، وجعل فئة واسعة تعيش الفقر والحرمان، على الرغم من أن الإمكانيات كبيرة للبلد للنهوض، فالنهر مساحة للاستثمار في أكثر من نقطة مثل سياحة ونقل وتجارة، فقط الأمر بيد السلطتين التشريعية والتنفيذية يمكنها أن تغير الصورة القاتمة اليوم.
وهذا يغيب عن النخبة التي تحكم العراق منذ أكثر من خمسين عامًا، فاللامبالاة كان الجامع بينها جميعًا ولإلى الآن.
ضياع لإيرادات ممكنة التحقق
حدثني ذات مرة صديقي حسن أستاذ الاقتصاد، وقال والحسرات تخنقه: إن النقل النهري والسياحة النهرية قضية اقتصادية، لذا الحكومات تفرط بها، فلا يرغبون بالانتعاش الاقتصادي ويفضلون البقاء على إيرادات النفط، إنها تمثل ضياعًا يوميًا لإيرادات ممكنة التحقق، وهذا بعرف علم الاقتصاد خسارة تحاسب عليها السلطات الثلاثة، لأنها فرطت بأموال ممكنة التحقق للبلد، ويمكن من خلال خطة اقتصادية متكاملة أن ينتج نهري دجلة والفرات إيرادات غير متوقعة، عبر فتح باب الاستثمار، وتأهيل النهرين، والتفكير بفرص تطوير، والاهتمام بفكرة النقل النهري، ضرورة أن يكون في مقدمة الخيارات التي تطرح في مجال النهوض الاقتصادي للبلد، وممكن أن تنجح فكرة مجمعات فندقية، ومدن ملاهي وبحيرات سمكية ومتنزهات وخطوط نقل نهري، مجموعة أفكار ممكنة التحقق، وتمثل أساسًا لنقلة جديدة لحياة كل البغداديين، كل شيء متوفر لتنفيذ هكذا أفكار، لكن العلة في الإرادة السياسية غير المتوفرة إلى يومنا هذا.
أفكار ممكنة وتحقق الكثير لواقعنا المتخلف، لكن المصيبة تنطلق ممن بيده القرار والسلطة فالحاكمون لا يهتمون لذا يستمر الضياع.
الإهمال سبب تعطل حياتنا
أبشع ما نعاني منه هو الإهمال، حيث قدر لنا أن تكون حكوماتنا من أكثر الحكومات إهمالاً على مر التاريخ، فتسببت بإضاعة فرص تاريخية للنهوض، ومن أهمها فرص اقتصادية تمكن البلد من الارتكاز على موارد بديلة عن النفط، لكن الساسة عن جهل أو قصد أهملوا كل ما هو متاح أمامهم وارتضوا بالنفط كمصدر وحيد للإيرادات العراقية.
في أحد الأيام الخوالي كنت في حفل خطوبة قريب لي وكان من بين الحضور رجل وقور كبير السن، وهو الحاج جاسم البهادلي وتحدثنا عن نفس الموضوع فقال لي: “الإهمال سبب تعطل حياتنا، فلو يفكر الساسة ببعض الحكمة، لأمكن بناء دولة عصرية حديثة وبأقل جهد وتكلفة، لكن الإصرار على الضياع هو الأمر المحير، ومنها عملية استثمار النهرين، فأعتقد يجب أن تكون أولوية للدولة، لأنها تمثل طريقًا وموردًا جديدًا للبلد، بدل الاعتماد الكلي على النفط، فالتفكير بنهري دجلة والفرات يعطينا مساحة واسعة لطرق الاستثمار، من فرص عمل وسياحة واستثمار، فتكون لو تمت خطوة في الاتجاه الحقيقي لزال غبار الإهمال عن ثروات البلد”، ثم تحسر وبان اليأس في ملامح وجه وأضاف “لكن لن يتحقق شيئًا مع هذه النخبة الحاكمة التي لا تفكر إلا بأرصدتها ومكاسبها الخاصة”.
النفايات في نهري دجلة والفرات
الأنهار تحولت إلى مكب للنفايات
نهرا دجلة والفرات هما المصدر الرئيسي لماء الشرب للعراقيين، لكن البعض يعتبر نهر دجلة المكان الأنسب لرمي المخلفات، مثل قيام بعض المستشفيات المطلة على نهر دجلة برمي نفاياتها في النهر! أو رمي بعض المعامل مخلفاتها الثقيلة في النهر من دون أي قلق من أي جهة رقابية، وهذا يدلل على أمرين، الأول غياب الوعي وموت الضمير وتغلب المصلحة الخاصة على العامة، والأمر الآخر هشاشة الدولة وموت الجهات الرقابية وضعف القانون، وإلا لما تجرأ شخص على هكذا أفعال لو كان قانون العقوبات مفعل.
الآن من المهم أن يتم تنظيف الأنهار وتفعيل قانون العقوبات بمن يرمي نفاياته في النهر حتى لو كان صاحب مستشفى أو معمل أو ذو حصانة، قضية رمي النفايات في الأنهار يجب أن تنتهي تمامًا.
ثمرة الرحلة
قضيتان تم طرحهما، الأولى النقل النهري، والثانية السياحة النهرية، إحداهما تكمل الأخرى، النقل النهري يمثل حلاً مناسبًا للاختناقات التي تعاني منها بغداد، بالإضافة إلى أنه نافذة لتوفير فرص عمل وما أحوجنا لها، بالإضافة إلى أنه شكل حضاري وقيمة ثقافية مهمة أن تتواجد في حياتنا، والسياحة النهرية من الممكن أن تحدث ثورة اقتصادية وطفرة حضارية غير مسبوقة.
فقط نحتاج للإرادة السياسية التي تعلن البدء بهكذا مشروع كبير.