منذ عام كتبت هنا عن صديقي أسامة زاهر الذي فرض عليه الاستبداد أن يُغيب في سجونه تاركًا لرفاقه وأسرته آلام الفراق التي لا تُحتمل، واليوم شاء القدر أن أكتب عن رفيقٍ جديد اختطفته آلة القمع الخسيسة لتغيبه ويصبح من ضحايا الإخفاء القسري تاركًا لنا القلق والشوق الذي لم نعتده، فكل شوق لرفيق له ما يميزه.
ناصف شاب مصري حق لشعبه أن يفخر به وأن ينتظر منه ومنا آل جيله مستقبلاً ليس كالحاضر، شارك في الثورة من بدايتها فنضج وعيه الغض على حب بلده والرغبة في التضحية والعمل لرفعتها، أحب دينه فاتبع أوامره التي حرضته على الدفاع عن المظلومين والأخذ على يد الظالم، حلم مثل كل الشباب بالحرية والعدل والحياة الكريمة، ما إن فرض الاستبداد بقوة الأمر الواقع شباكه على وطنه لم يتردد الفتى، فسرعان ما ودع أهله وخطيبته والتحق بركب النضال يستعيد ثورته المفقودة متقدمًا الصفوف بثبات وثقة.
لماذا يا الله؟ لماذا تكتب علينا فراق أحبتنا الواحد تلو الآخر بتلك الطريقة القاسية؟ ليتنا أزعجناهم ففارقونا سالمين فنتشوق لهم لكننا نطمئن لسعادتهم ولو بعيدة عنا!
هم أهل العشرينات لم ينالوا حظهم من الدنيا سوى نضال وضجيج وصراخ وآهات عالية تستغيث بك! نستغيث بعدلك وبوعدك في نصرة المساكين.
أحمد ناصف
يا صديقي، أشكر ذلك التوهان الجميل وتلك الظروف القاسية التي قادتك إلى طريقي تهون عليَ الصعاب وأهون عليك، وليتني أستطيع يا فتى أن أتحمل عنك بطش المجرمين اليوم، هؤلاء الحثالة يقفون أمامك ضعفاء صغار رغم شيبتهم خالين من الحلم والأمل الذي بداخلك، يعذبهم تعذيبك وملاحقة شباب هذا الوطن غير مدركين أن زمانهم قد ولي وأن المستقبل لنا، سنهزمهم يا صديقي في الدنيا وسنراهم منكسرين أذلة يستعطفون الشفقة فلا نشفق عليهم، قبل أن نرسلهم إلى الله لينالوا حظهم من عدله.
تشاركنا الحلم يا صديقي، الحلم بوطن يسع الكل يحارب الفقر والجهل والمرض يحوز استقلال إرادته بحق، وطن يختار فيه الناس حكامهم ويحاسبونهم ويعزلونهم، مجتمع قوي ودولة عادلة، جامعة حرة لا يقتحمها من لم ينل شرف التعلم بها، يجد فيها الطلبة ما يبحثون عنه من تعليم حقيقي يرفع من مستواهم العلمي والخلقي ويبني شخصياتهم، حكومة من الشباب، ولم لا رئيس شاب؟ إذ هم الأمل وعلى أكتافهم يبنى مجد الأمة.
استرح يا صديقي قليلاً وإن لم تعتد الراحة فتهيأ إذن للمستقبل، لا أقول ذلك تخديرًا ولا هروبًا من واقع قاتم أعرفه جيدًا ومن لم يتجرع آلامه؟! لكن هكذا سيرة الأمم وهكذا طريق الثورات ملئ بالدم والتضحيات وهل يكون النضال إلا هكذا؟
يا صديقي ليس الحلم وحده من تشاركنا بل خيبات الأمل أيضًا، خيبة الأمل ممن يخطئ الطريق فيطيل أشواكه وآلامه، من لا يرى غير رأيه، لا يؤمن بالشباب ينظر إليهم من أعلى فلا يبصر قدراتهم، فبينما أنت تنتظر منه أن يدفعك إلى الساحة ويصفق لك، إذ هو يجذبك بقوة ليخرجك منها، لا يفهم أنك أنت بطل تلك اللعبة الذي إن غبت فقدت بريقها، لا يدري أنه بك يؤمن مستقبله ويجدد دمه العجوز، لكنك كنت ترى دومًا أملاً لا أراه، كنت تحمل بين طيات صدرك أكثر من الحلم، ربما قوة إرادة لا تلين لها قناة أو طاقة نفسية عزيزة على الاستسلام ونفس أبية على التخاذل.
تحملت مسؤولية حركة طلابية كبيرة فكان همك أن تقدم رؤية جديدة في ظل ظروف صعبة على المنشغلين بالعمل العام والطلابي منه بشكل خاص بين مطرقة القمع والوحشية وسندان خلافات القوى الوطنية، كنت مؤمنًا تمام الإيمان بأهمية الوحدة وضم الصفوف وتراص الأكتاف، آمنت بحق كل المصريين في وطن لا يعادي سوى من عاداه، حظيت باحترام من تعاملوا معك عن قرب من التيارات الوطنية المختلفة، إذ سهل عليهم إدراك صدقك وصدق مشاعرك،
كنت قائدًا بحق، وعندما خشي أعضاء حركتك أن ينزلوا الميدان يومًا كنت فيه وحدك، تسير أمامهم لا بعيدًا عنهم، هكذا كنت القدوة.
نحزن لفراقك يا فتى، ولكن إن غبت عن أعيننا وأحضاننا فلن تغيب عن قلوبنا وبالنا، كل لحظة قبل أن نعاود اللقاء سيقتلنا الشوق ألف مرة، ويا لحكمة القدر، فإن كانت آخر كلمات بيني وبين أسامة أن هاتفته فقط لأقول له “وحشتنى” فأنت هذه المرة من سبقتني بها وكانت آخر ما بيننا وكأنك تشعر أن الوحشة ستطول!
أتأكد كل يوم من حب الله لي، إذ يرزقني بمثلك وبمثل أسامة رفاقًا، فلنعم الرفاق يا ذوو القلوب الطيبة والنبت الحسن، أعدك يا صديقي أن ننجح في تحقيق حلمنا سويًا ولو بعد حين، سنبني هذا الوطن وسنغير حاله إلى الأفضل ولإن خسرنا الماضي فلن نفرط في المستقبل، وداع مؤقت.