الذكرى الخامسة لمذبحة “ماسبيرو”.. القاتل معروف والقصاص لازال غائبا

mdhbh

في ليلة دافئة كبقية الليالي الثورية التي عاشها المصريون منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، حيث الأنفس التواقة للحرية والعدالة، المشتاقة لتنسم عبير العزة والكرامة، خرج عشرات الآلاف من الأقباط برفقتهم مئات من المسلمين في تظاهرة انطلقت من منطقة شبرا (شمال القاهرة) صوب مبنى الإذاعة والتلفزيون وسط القاهرة (ماسبيرو) مطالبين بإقالة محافظ أسوان (جنوب مصر) صاحب التصريحات التي اعتبرها أقباط مصر حينها مسيئة لهم جرّاء تعليقه على هدم إحدى الكنائس، ما تسبب في صدامات بين المسلمين والأقباط هناك.

التظاهرة التي خرجت سلمية عشية الثامن من أكتوبر 2011، استقرت بعد مناوشات مع رجال الأمن أمام مبنى التلفزيون المصري على كورنيش النيل، وما هي إلا ساعات قليلة من الهتاف وترديد الشعارات المنددة بتصريحات المحافظ، إلا وأُحيط المتظاهرون بطوق من المدرعات والدبابات وعربيات الجيش والشرطة، وفجأة وفي غضون أقل من ساعتين سقط من المتظاهرين ما بين 25 – 35 قتيلا،ً معظمهم من الأقباط.

شهادة المشاركين في التظاهرات أكدت مسؤولية قوات الجيش حينها عن هذه المجزرة، حيث قامت المدرعات بدهس المواطنين بصورة وحشية، فضلاً عن تعرض العشرات من المتظاهرين لإصابات خطيرة على أيدي البلطجية ممن تحركوا يمينًا ويسارًا تحت سمع وبصر الجنود المرابطة على الطوق الأمني المحيط بالتظاهرات، بل وفي حمايتهم كما قال البعض.

شهادة المشاركين في التظاهرات أكدت مسؤولية قوات الجيش حينها عن هذه المجزرة

حالة من الغليان أصابت الشارع المصري عقب هذه الجريمة التي أطلق عليها إعلاميًا “مجزرة ماسبيرو” وبالرغم من معرفة القاتل الحقيقي من خلال شهادات المشاركين في التظاهرات من الأقباط والمسلمين على حد سواء، فضلاً عن المواد الفيلمية المصورة لبعض الجرائم التي ارتكبها الجنود ضد المتظاهرين، إلا أن أحدًا لم يحرك ساكنًا، ولم يستطع القضاء أن يتوصل للقاتل الحقيقي حتى الآن، بل وصل الأمر إلى محاولة التحايل على هذه المجزرة بوقائعها المشينة إلى توريط الإسلاميين فيها ومحاولة بث روح الفتنة فيما بينهم من جديد، استنادًا إلى عقيدة “فرق تسد” التي تنتهجها الأنظمة الديكتاتورية في كل زمان ومكان.

مشاهد من المذبحة

خمس سنوات والقصاص غائب

خمس سنوات مضت على هذه المجزرة دون أن ينتفض ضمير قاض أو تؤرق مضاجعه مشاهد الدهس وأنات المصابين وعويل أهالي الضحايا، خمس سنوات من القهر الدفين في صدر الظلم المخيم على أنفاس الباحثين عن القصاص، الحالمين بالثأر، الساعين لتضميد الجراح بالعدل.

وكبقية الجرائم السابقة واللاحقة، سرت وقائع التعامل القضائي مع هذه المجزرة بطريقة “الهجوم خير وسيلة للدفاع” والعزف على وتر جهل بعض المصريين ممن وقعوا فريسة لحملات الإعلام المضلل التي أوهمت البعض أن الجنود حينها هم الضحية، وأن المتظاهرين كانوا رسل الشيطان جاءوا ليقتصوا من الملاك البرئ، وهو ما تجسد في تغطية التلفزيون المصري لوقائع المجزرة ما تسبب في حملة غضب جماهيرية ضد القائمين عليه دفعت في النهاية إلى استقالة وزير الإعلام في حكومة المجلس العسكري حينها أسامة هيكل الذي أصبح الآن رئيسًا للجنة الإعلام بالبرلمان المصري.

العجيب أنه وعقب نهاية هذه المجزرة، تم القبض على عدد كبير من الأقباط بشكل عشوائي بتهمة إتلاف منشآت عامة وسرقة سلاح رشاش من الجيش وتمت المحاكمة أمام النيابة العسكرية، وبدلاً من أن يسعى أهالي الضحايا إلى تقديم القاتل للمحاكمة بات السعي للإفراج عن أبنائهم المحبوسين ظلمًا هو الهدف الحقيقي، والذين أكدوا وفقًا لشهادات محاميهم أنهم تعرضوا للتعذيب والإهانة من قبل عساكر الجيش، وطالبوا أيضًا المحامي العام بمحاكمتهم أمام القاضي الطبيعي (المدني).

كبقية الجرائم السابقة واللاحقة، سرت وقائع التعامل القضائي مع هذه المجزرة بطريقة “الهجوم خير وسيلة للدفاع” والعزف على وتر جهل بعض المصريين ممن وقعوا فريسة لحملات الإعلام المضلل

وبعد الاستماع للشهود في قضية القبض على 28 قبطيًا صدر قرار بحفظ القضية رقم 1199جنايات بولاق أبو العلا بتاريخ 24 أبريل 2012، وجاء قرار النيابة باستئناف قرار الحفظ في محاولة لإلصاق التهم الموجهة للأقباط لكن كان القرار بتأييد قرار الحفظ السابق.

من جانبها، نظرت المحكمة العسكرية دعوى قتل 14 قبطيًا دهسًا بالمدرعات و9 رميًا بالرصاص وقدمت ثلاثة جنود للمحاكمة بتهمة القتل بطريق الخطأ، وقضت المحكمة على أحدهم بالسجن ثلاث سنوات، والسجن لمدة عامين للاثنين الآخرين، وقدموا طعنًا على الحكم حتى قضت المحكمة بوقف التنفيذ لحين الفصل في موضوع الطعن.

وبانتداب المستشار ثروت حماد، من قبل وزارة العدل للتحقيق في قضية ماسبيرو، أصبحت القضية أمام القضاء العادي الذي جاء قراره بحفظ القضية لعدم كفاية الأدلة، موضحًا “أن الرصاص المستخرج من الجثث غير مطابق لرصاص أسلحة الجيش”، وبهذا أُغلِقت قضية “ماسبيرو” حتى قام عدد من المحامين بتقديم 22 بلاغًا ضد قيادات المجلس العسكري الحاكم في وقت المجزرة لاتهامهم بقتل 23 قبطيًا من خلال إصدار أوامر عليا بالدهس بالمدرعات والقتل بالرصاص الحي، لكن الغريب في الأمر أن النائب العام أحال البلاغات المقدمة لنفس قاضي التحقيق الذي سبق وأصدر قرار حفظ القضية، وظلت البلاغات أمامه دون أي تحرك رغم تقديم فيديوهات جديدة تثبت تورط قيادات المجلس العسكري في قتل ضحايا “ماسبيرو” والاستماع للشهود وأسر الضحايا وتوقفت عند هذا الحد دون أي قرار في البلاغات التي ظلت لأكثر من عام حبيسة الأدراج، إلى أن انتهت بالحفظ مرة أخرى.

فعاليات تطالب بالقصاص

العسكر خط أحمر

بالرغم من معرفة القاتل الحقيقي والمتورط الأول في مذبحة ماسبيرو إلا أن أحدًا لم يجرؤ على أن يقترب منه، لما لا وهو من بيده خيوط اللعبة من البداية، هو من استطاع وبنجاح أن يتغلغل داخل النسيج الثوري ليقدم نفسه على أنه المنقذ حامي الحمى، إلى أن كشف عن وجهه الحقيقي في 30 يونيو2013.

لم تكن مذبحة ماسبيرو هي الأولى المتورط فيها المجلس العسكري بقيادة المشير حسين طنطاوي، فهناك عشرات الجرائم التي قام بها العسكر مستغلين سذاجة بعض القوى الثورية في الخروج من كل جريمة بلا أدنى مسؤولية، كما يقول المصريون “مثل الشعرة من العجينة”، والمثير للدهشة أنه ومع كل جريمة يزيد المجلس العسكري رصيده لدى الشارع في مفارقة غريبة تكشفت خيوطها فيما بعد.

قتل الثوار في ميدان التحرير، ميادين السويس، ميادين المحلة، محمد محمود، ماسبيرو، استاد بورسعيد، استاد الدفاع الجوي، حادثة المنصة، حادثة الحرس الجمهوري، مجزرة رابعة العدوية، مجزرة مسجد الفتح برمسيس، وغيرها من عشرات الجرائم التي نفذها العسكر في مصر دون أن يقدم أي منهم للمحاكمة، وهو ما يجسد الضوء الأخضر الذي أعطي لهم لتنفيذ ما يحلو لهم دفاعًا عن إمبراطوريتهم التي عقدوا العزم ألا يتركوها للشعب ولو على حساب أشلاء الوطن ودماء أبنائه، ولعلنا نذكر تعليمات عبدالفتاح السيسي حين كان وزيرًا للدفاع حين قال إنه ما عاد من المنطقي أن يحاسب ضابط بسبب قتله أحد المواطنين دفاعًا عن الوطن.

مذبحة رابعة العدوية.. أحد أبشع الجرائم ضد الإنسانية في التاريخ المعاصر

السفارات الأجنبية تحذر

في خطوة غير متوقعة، وبدون أي مقدمات، أصدرت بعض السفارات الأجنبية في القاهرة بيانات تحذيرية لرعاياها في مصر بتوخي الحذر خلال الأيام القادمة بدءًا من اليوم الأحد، خشية وقوع أحداث عنف أو أعمال إرهابية، حيث حذرت سفارات أمريكا وكندا وبريطانيا في القاهرة رعاياها في مصر، وطالبتهم بتوخي الحيطة والابتعاد عن التجمعات والأماكن العامة في محيط القاهرة يوم الأحد 9 أكتوبر نتيجة “تهديدات أمنية محتملة”.

السفارة الأمريكية في رسالة إلى رعاياها قالت: “ينبغي أن يكون المواطنون الأمريكيون على علم بمحيطهم، وأن يتخذوا احتياطات أمنية جيدة في جميع الأوقات”، وفي السياق نفسه قالت السفارة الكندية في القاهرة في موقعها على الإنترنت، إنه يتعين الأخذ بشكل جدي تحذير السفارة الأمريكية لرعاياها بعدم التواجد في الأماكن العامة يوم 9 أكتوبر في محيط القاهرة، مضيفة أن الموقف في مصر لا يمكن التنبؤ به، وأوردت بعضًا من التواريخ حذرت فيها مواطنيها من التواجد خلالها في الأماكن العامة، ومن ضمنها الاحتفال بعيد ثورة 25 يناير.

هذه التحذيرات التي جاءت مفاجئة وغير متوقعة، أربكت الخارجية المصرية بصورة واضحة، وهو ما دفع المتحدث باسم الخارجية أحمد أبو زيد إلى الاتصال بالسفارة الأمريكية في القاهرة لاستيضاح الأمر، ملفتًا أن السفارة الأمريكية أكدت أنه لا توجد تهديدات أمنية محددة متوقعة في التاسع من أكتوبر الجاري، وأن تلك التحذيرات جاءت في سياق روتيني احترازي تقوم به السفارة خلال فترات العطلات الممتدة التي تزداد فيها تجمعات المواطنين في الأماكن العامة، الأمر الذي يقتضى إصدار مثل تلك التوجيهات الاحترازية.

العديد من الخبراء والمحللين أرجعوا موقف سفارات بعض الدول المفاجئ إلى معلومات ما قد تكون وصلت إليهم بشأن بعض الأحداث التي قد تقع خلال هذه الأيام

الخارجية المصرية أشارت إلى أن قرار السفارة الأمريكية جاء منفردًا دون التنسيق مع الجانب المصري، ما يعد علامة استفهام كبيرة أن يصدر البيان بهذا الأسلوب.

العديد من الخبراء والمحللين أرجعوا موقف سفارات بعض الدول المفاجئ إلى معلومات ما قد تكون وصلت إليهم بشأن بعض الأحداث التي قد تقع خلال هذه الأيام، سواء كانت تفجيرات أو اغتيالات أو تصفيات، أو تنفيذ أحكام الإعدام في بعض القيادات المحبوسة، أو تظاهرات واسعة، أو إجراءات حكومية جديدة تستفز المواطنين بصورة لا يمكن التنبؤ بها، وما إلى غير ذلك من المعلومات التي دفعتهم إلى تحذير رعاياهم في مصر.

وفي سياق آخر، جاءت هذه التحذيرات بمثابة الصدمة والضربة القاضية لما تبقى من السياحة الأجنبية في مصر، فما إن بدأ قطار السياحة يتحرك رويدًا رويدًا حتى أتت هذه الخطوة لتشل حركته تمامًا، في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر منذ خمس سنوات دفعتها إلى الاستدانة من الداخل والخارج، حتى باتت أضلاع الاقتصاد المصري الثلاثة هي (القروض – المنح – التبرعات).

ومع مرور خمس سنوات على مذبحة ماسبيرو، هل آفة حارتنا النسيان؟ ففي ظل منظومة القضاء الشامخة الحالية، القاتل معروف لكنه خارج دائرة الشبهات، والضحايا دفعوا ثمن حرية لم ينعم بها من ضحوا لأجلهم، والأهالي لم يملكوا سوى التباكي على من رحل، والتحسر على ما أتى، والدعاء على من ظلم، فإلى متى ستظل مصر قلعة القهر والظلم والطغيان؟