في خطوة مفاجئة، وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من إعلان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في يوليو الماضي، عن اتخاذه قرار إرسال حاملة الطائرات شارل ديغول إلى الشرق الأوسط، بالإضافة لوضع المدفعية الفرنسية تحت تصرف القوات العراقية، ضمن سلسلة إجراءات أعلن عنها هولاند لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، بعد سلسلة من الاعتداءات الإرهابية تعرضت لها فرنسا تبنتها “داعش” كان أبرزها مقتل 85 شخصًا دهسًا بشاحنة حينما كانوا يحتشدون ضمن آلاف بمدينة نيس، للاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي، أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية أنها شنت أولى العمليات الجوية ضد داعش بالموصل العراقية من حاملة الطائرات “شارل ديغول”.
ضغط اليمين
العملية التي استهدفت مواقع لداعش في مدينة الموصل شمالي العراق، تثير تساؤلات كثيرة بشأن توقيتها وأهدافها، خاصة وأن فرنسا طرف فاعل في التحالف الدولي منذ يناير 2015، إلا أن مشاركتها الميدانية في مسرح العمليات ظلت محدودة ومقتصرة على الدعم اللوجستي.
بعض المحللين يرون أن السبب الرئيس يرتبط بالداخل الفرنسي والانتخابات المقبلة، التي يخشى اليسار فيها من فقدان موقع الصدارة لصالح اليمين المتطرف، الذي استغل الهجمات المتكررة لداعش على الداخل الفرنسي في الحشد لها، مستغلاً ضعف ووهن الحكومة الحالية في تأمين الفرنسيين، واتخاذ إجراءات فاعلة ضد المهاجرين والعرب بفرنسا – بحسب تصريحات زعيمة اليمين الفرنسي مارين لوبن المتكررة -، وكان آخرها قتل الكاهن الكاثوليكي جاك هامل ذبحًا، في عملية احتجاز رهائن نفذها رجلان في كنيسة في سانت إتيان دو روفريه في شمال غرب فرنسا، وتبناها تنظيم داعش، ما دفع بالمعارضة من اليمين إلى مهاجمة الحكومة الاشتراكية، متهمة إياها بالتراخي وعدم الكفاءة في عملية مكافحة الإرهاب، وقال الرئيس السابق نيكولا ساركوزي: “علينا أن نغير حجم تعاملنا واستراتيجيتنا مع الإرهاب”، منددًا بما وصفه بالـ “عملية الناقصة في مواجهة الإرهاب”، وتابع: “يجب أن نكون بلا رحمة، الخفايا القانونية، والحذر في التدابير المتخذة، والحجج لعدم القيام بعملية كاملة، أمور غير مقبولة”.
وطلب من الحكومة “تطبيق كل اقتراحات اليمين و”من دون تأخير”، وبينها مثلاً إنشاء مراكز احتجاز للمشتبه بأنهم يشجعون على التطرف، فيما نددت زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن على حسابها على “تويتر” بـ “كل الذين يحكموننا من 30 عامًا”.
موطئ قدم
وجهة نظر أخرى ترى أن السبب الأهم في صحوة فرنسا المتأخرة، وتحويل وجهتها من الحرب على داعش من الرقة السورية إلى الموصل العراقية، يعود لنقطتين الأولى هي تاريخ فرنسا وعلاقتها بالعراق منذ عهد سايكس بيكو، وبحثها من جديد عن موطئ قدم جديد لها بالعراق، فيما تتعلق النقطة الثانية بانحياز أو تبعية فرنسا بالكامل للمطالب الأمريكية فيما يخص منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا الحرب على داعش.
تمهيد للمعركة البرية
عسكريًا يرى خبراء الحرب أن ضربات طائرات الحاملة شارل ديجول الست المشاركة في الحرب على داعش بالعراق، مؤثرة وبشدة، خصوصًا وأن الحاملة شارل ديجول تشارك للمرة الثالثة عسكريًا بالخليج العربي، وكان انتشارها الأول بالخليج لمدة شهرين بداية العام 2015 بعد عملية شارل إيبدو، وقامت بسبعمائة غارة، فيما كان انتشارها الثاني في مطلع 2016 وتحديدًا في شهر فبراير، ولمدة شهرين أيضًا قامت خلالها بمائتين وإحدى وسبعين غارة، بينها 250 ضربة تسمى “جراحية” محددة الأهداف، وبالتالي مشاركتها الحالية لا يمكن اعتبارها رمزية أو معنوية، فباستطاعتها حمل 30 طائرة رافال، وهذه قوة ضاربة لا يستهان بها، وهذه الطائرات شبيهة بنظيرتها الأمريكية، وهذه هي الحاملة النووية الوحيدة بالعالم خارج الحاملات العشر الأمريكية التي يمكنها استقبال الطائرات الأمريكية F18 ، لكن السبب الأهم هو التكامل الفرنسي الأمريكي بخصوص منطقة الشرق الأوسط ومحاربة داعش.
فحينما انتشرت أمريكا في العراق وسوريا في 2014 للحرب على داعش، في نفس الوقت نشرت فرنسا قواها في خمس دول إفريقية للتكامل مع هذه العملية، وهناك 13 ألف عسكري فرنسي منتشر بإفريقيا لمحاربة الإرهاب، بالتنسيق والتكامل مع الولايات المتحدة، والآن تمهد فرنسا بضرباتها الجوية لإمكان المشاركة البرية ضمن معركة الموصل.
التي بدأت بالفعل منذ أشهر، ومتوقفة الآن ببلدة القيارة على بعد 60 كيلومترًا جنوب المدينة العراقية، وبالتالي فإن المعركة البرية باتت قريبة، ويتم التمهيد لها لتتم بمشاركة القوات العراقية والحشد الشعبي والقوات الكردية، وطائرات التحالف كدعم جوي لها، وهو ما أكدته مشاهدات زعيم التنظيم الإرهابي أبو بكر البغدادي بالمدينة خلال الأسبوعين الأخيرين، ما يعني أن التنظيم يستعد للمعركة على قدم وساق باعتبار المدينة هي العاصمة الاقتصادية له.
الانتخابات في الصورة
التماهي الفرنسي – الأمريكي خلال الحرب على داعش بالمنطقة والعراق خصوصًا، يتعلق بنقطتين هامتين أولمها رغبة الرئيسين الأمريكي والفرنسي في إنهاء أزمة الموصل، ومن ثم الرقة، ليتقدم كل منهما بما يدعم حزبه في الانتخابات المتزامنة تقريبًا بالبلدين، أما النقطة الثانية فتتعلق بالحرب الاقتصادية على مستقبل العراق كبلد غني، صاحب موقع استراتيجي بقلب أوراسيا، وهو ما يسهم في تدعيم وجودها بالعراق، الذي بدأ منذ عهد صدام حسين وتسعى لتثبيته الآن، ضمن رغبتها في الوجود ضمن العالم متعدد الأقطاب بساحته الشرق أوسطية الجديدة، مع الصين وروسيا والولايات المتحدة.
داعش.. الدولة والتنظيم
السؤال الأهم الآن والمطروح بقوة: من سيملأ الفراغ بعد تحرير المدينة من داعش، وكيف سيكون الدور الفرنسي؟
الإجابة معلومة مسبقًا، فالغرب الذي يحارب داعش “الدولة” بما تسيطر عليه من مناطق، ليس هدفه الرئيس تحرير تلك المناطق فقط، لكنه بات مقتنعًا أن تلك الحرب، وتدمير العاصمتين الخاصتين بالتنظيم السياسية بالرقة والاقتصادية بالموصل، ستخفف من هجمات التنظيم الإرهابية بداخل الدول الغربية ذاتها، وموجات التطوع بصفوف التنظيم بتلك الدول، وإن كان البعض يرى أن القضاء على داعش الدولة لا يعني بالتبعية القضاء على داعش التنظيم.
تقسيم فيدرالي
أما بالنسبة لفرنسا فهي بعيدة سياسيًا عن العراق، وظهر ذلك في الخلاف الأخير بين بغداد والأكراد حول معركة الموصل، حينما تحركت بريطانيا وأمريكا بزيارات للجانبين لتقريب وجهات النظر، فيما لم تظهر فرنسا، وهو ما تسعى إليه الآن لتدعيم وجودها السياسي، كما هو موجود عسكريًا، خصوصًا مع تقاربها مع الأكراد، بعدما قامت الحكومة الفرنسية بتسليح الكرد بأسلحة متطورة، لتكون لاعبة رئيسية بمعركة الموصل وتداعياتها سياسيًا بمستقبل العراق ككل، خصوصًا مع تسريبات مخطط لتقسيم البلاد فيدراليًا لثلاثة أقسام، وهي بذلك تستغل قربها من الشعب العراقي، حيث كانت من الرافضين للحرب على العراق في 2003 ولم تشارك في احتلال البلاد، وتسعى حاليًا لاستعادة مكانتها المحفوظة بين العراقيين كلاعب مستقبلي فاعل، منظور له باعتباره لاعب موضوعي، لا يميل لأية كفة بين المتصارعين في حال وجود مشكلات وقت التقسيم الفيدرالي المتوقع، وبالتالي فإن الدور الفرنسي مستقبلاً مرشح للتزايد بالعراق كقوة رائدة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا بالاتحاد الأوروبي، في مقابل خفوت للدور الأمريكي.