“كم أشتاق لعشقي وحبي، كم أشتاق وكنت أتمنى لو كنت آخر ما أراه وأقبله وأسجد على ثراه، أقبل ترابك وأصلي فيك، لكن هو الظلم وهم الظالمون، لن أشتاق لأحد كاشتياقي إليكِ، ولن أحب أحدا كحبي إياكِ، رغم سجونهم وحقدهم وطغيانهم، حبي لكِ يزداد، قالوا 4 أشهر سجنًا لحبي إياكِ، قلت والله قليل فعمري وحياتي وكل مالي فداكِ، إن لم أستطع الوصول إليكِ بجسدي فروحي وقلبي وعيوني ما فارقتك وما تركتك وما نسيتك، الحب الأكبر والعشق الأبدي حتى الممات، الأقصى أمانة في أعناقكم فلا تتركوه وحيدًا” .
هذه كانت آخر الكلمات التي كتبها الشهيد الفلسطيني مصباح أبو صبيح والملقب بـ “أسد الأقصى”، عبر حسابه على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، مودعًا الأقصى الذي غاب عنه 4 أشهر، فكانت بالنسبة له دهرًا بأكمله، قبل تنفيذ عمليته البطولية التي هزت إسرائيل بأكملها بعد حُسن اختياره للمكان والزمان المناسبين.
لم ينتظر الزيت حتى يصل من خارج الأقصى ليسرج به، بل رواه بدمه دون أن تتعثر خطواته، فقد أدرك المقدسي مصباح أبو صبيح أن أقصر الطرق نحو التحرير هو الرصاص، اقترب من الأربعين سنًا ومن الحلم أملًا بأن يبصر الأقصى حرة، فتوجه للميدان ليسلم روحه لله بدلًا من تسليم جسده لقيد المحتل الذي كان ينوي اعتقاله لمدة أربعة أشهر لرباطه بالأقصى.
في البداية، كان نبأ استشهاد أبو صبيح 40 عامًا، صباح أمس بعد تنفيذه في عملية الشيخ جراح البطولية وقتله اثنين من الإسرائيليين وإصابة 6 آخرين، غريبًا ومفاجئًا لكثيرين، فقد كان الاعتقاد سائدًا بأن مصباح “أسد الأقصى” كان في طريقه، لتسليم نفسه للشرطة الإسرائيلية لقضاء فترة سجن لأربعة أشهر في سجن الرملة، بعد اتهامه بضرب شرطي إسرائيلي في منطقة باب حطة بالقدس القديمة قبل عامين، فإذا بالأنباء تتواتر عن استشهاده خلال تنفيذه لعملية في حي الشيخ جراح.
وداعه الأخير
وتقول والدة الشهيد “أسد الأقصى”، عن آخر لقاء جمعها بابنها قبل ساعات من تنفيذ العملية البطولية: “قبل يدي وطلب مني الدعاء له، وغادر المنزل مسرعًا نحو مصيره”، وتضيف، “قال لي السجن سيبعدك عني، فقلت له دعني أشتم رائحتك وأقبلك جيدًا فغدًا لن أستطيع تقبيلك إلا من خلف السياج، السجن للأبطال وأنت منهم يا نور عيني”.
وتتابع حديثها وهي تشعر بالفخر لاستشهاد ابنها البكر: “ابني منع أكثر من مرة من الدخول للقدس، وأول أمس ذهب إلى العيزرية وأوقفته قوات الاحتلال أكثر من ساعة وقبلها بيوم كذلك تم إيقافه، كان يحب القدس كثيرًا ويفخر بأنه منها وهو أحد أبطالها وفداءً لها”.
تقول والدته عن خبر استشهاده: “أخبروني بأن هناك عملية في القدس ومنفذها من مدينة سلوان وعمره 40 عامًا، شعرت بأنه مصباح وبعدها جاءني اتصال هاتفي ليؤكد لي الخبر، صحيح أنني شعرت بالحزن لكنني شعرت بالفخر أكبر وإن شاء الله أراه في الجنة”.
“ودعتهُ إلى السجن وليس للشهادة”، كلمة أخيرة قالتها أم مصباح أبو صبيح، التي كانت تحلم بأن ترى ابنها بعد قضاء محكوميته بالسجن 4 أشهر لتقر عينها به مرة أخرى، ولكنها هذه المرة ودعته إلى مثواه الأخير دفاعًا عن المسجد الأقصى.
وقبل العملية بساعات قليلة فقط، أرسل مصباح رسالة إلكترونية إلى كل المجموعات التي كان منضمًا إليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قال فيها “استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه أحبتي في الله وإخواني الأحبة، سامحوني إن أخطأت بحقكم أو قصرت مع أحد منكم اليوم بإذن الله سأسلم نفسي وسأخرج من كل المجموعات”.
عملية هزت إسرائيل وأشعلت الانتفاضة
عملية “أسد الأقصى” البطولية التي نشرت الفرح في صفوف الفلسطينيين وأعادت بريق “انتفاضة القدس” مجددًا وجعلتهم يوزعون الحلوى في الطرقات مباركةً للعملية حملت مفاجئتين، أولهما جاءت بأنها أول عملية “فدائية ونوعية” منذ أشهر طويلة تتجاوز كل الإجراءات الأمنية الإسرائيلية المكثفة في القدس المحتلة وتسفر عن مقتل إسرائيليين أحدهما جندي، وجرح 6 آخرين”.
والمفاجأة الثانية أن حركة “حماس” ولأول مرة منذ انطلاق انتفاضة القدس في الأول من أكتوبر/ تشرين الأول، تعلن أن الشهيد مصباح أبو صبيح (40 عاما) من بلدة سلوان جنوب المسجد الأقصى، هو أحد عناصرها، ولكنها لم تصل إلى حد تبني العملية.
وأقدم الاستشهادي “أبو صبيح” من سكان البلدة القديمة في القدس وأحد مرابطي المسجد الأقصى على تنفيذ عملية إطلاق نار بطولية من سلاح آلي بحي الشيخ جراح بالقدس المحتلة صباح الأحد والتي أسفرت عن مقتل مستوطنين وإصابة ستة آخرين.
ومن الملاحظ هنا، أن الشهيد مصباح اختار الزمان والمكان المناسبين لتنفيذ العملية البطولية، حيث إن الزمان جاء مفاجئًا للجميع وبعد هدوء العمليات الاستشهادية، وأما المكان فهو مدينة القدس بداية شرارة الانتفاضة، وهذا ما صرح به الناطق باسم شرطة الاحتلال، حيث قال إن: “هذه العملية جاءت مفاجئة وخطرة والفلسطينيون لا يتوقفون عن تنفيذ العمليات الفردية”.
ورغم انتقاد السلطة الفلسطينية “الفاضح” لعملية القدس، إلا أن كافة الفصائل الفلسطينية الأخرى باركتها، وأكدت على الحق المشروع في المقاومة، ابتداءً من حركة الجهاد، ومرورًا بحماس، وانتهاءً بالجبهة الشعبية، وهذا يؤشر على أن الخيار العسكري بات يحظى بالأولوية المطلقة، سواء لدى الشارع الفلسطيني، أو حركات المقاومة.
عملية “أسد الأقصى” كانت تحمل رسالة واضحة إلى دولة الاحتلال تقول مفرداتها: “إن الكيل قد طفح، والفلسطينيون عائدون إلى المقاومة، وعبر بوابتها إلى أرض فلسطين، كل فلسطين، فلم يعد أمامهم أي خيار آخر بعد قتل كل أمل في السلام والتعايش”.
وتوقّعت محافل أمنية إسرائيلية، أن تفضي العملية الفدائية في القدس المحتلة، إلى موجة جديدة من عمليات المقاومة.
وتعرضت الأجهزة الأمنية، لا سيما الشرطة وجهاز المخابرات الداخلية “الشاباك”، لموجة من الانتقادات بسبب فشلها في إحباط العملية، نظرًا لأن التقديرات التي قدّمها هذان الجهازان لحكومة بنيامين نتنياهو، قبل شهر، توقّعت محاولة الفلسطينيين تنفيذ عمليات عشية فترة الأعياد اليهودية التي حلت مؤخرًا.
و”أسد الأقصى” هو أسير محرر، قضى في سجون الاحتلال 39 شهرًا بشكل متقطع، إضافة إلى اعتقالات لأيام وأسابيع، بتهمة “الدفاع عن الأقصى”، وآخر الاعتقالات كانت العام الماضي، وأفرج عنه في شهر كانون الأول 2015، بعد اعتقاله لمدة عام بتهمة التحريض في الـ “فيسبوك”، حيث اعتقل حينها لنشره “بالروح بالدم نفديك يا أقصى” و”أولادنا فداء للمسجد الأقصى”، وبعد الإفراج عنه بفترة قصيرة أعادت سلطات الاحتلال فتح ملف “الاعتداء على شرطي في منطقة باب حطة – أحد أبواب المسجد الأقصى”.