تجتاح العديد من المشكلات عميقة الجذور منطقة الشرق الأوسط على الخصوص والعالم الإسلامي بشكل عام. ويبدو من المشهد الراهن وكأن العالم الإسلامي يدفع ضريبة الفوضى العالمية بعد انهيار نظام القطبية الثنائية العالمي. ونادراً ما يمنحك مصطلح “الشرق الأوسط” إحساساً بالأمل والرخاء عند سماعه؛ بل على العكس سيستحضر داخلك أفكاراً عن الصراعات والحروب والأزمات والثروات المبددة. ولكن ليس من الضروري أن يكون هذا هو المصير الحتمي لمنطقة الشرق الأوسط؛ فالمنطقة بإمكانها التغلب على أزماتها الراهنة، بثرواتها الطبيعية الغنية ومواردها البشرية الضخمة. ويمكن للشرق الأوسط أن يعود مجدداً ويصبح أرضاً للثقافة والحضارة والسلام والرخاء، كما كان منذ قرونٍ مضت قبل العصر الحديث. ولكن هذا يتطلب رؤيةً اجتماعية جديدة، وتوافقاً سياسياً، وقيادةً سياسيةً قوية.
وتساهم العديد من المشاكل الرئيسية بشكل كبير في تغذية الاضطرابات الإقليمية الراهنة في منطقة الشرق الأوسط. وضمن القضايا التي تواجه المنطقة، هنالك أربع قضايا هي الأكثر إلحاحاً وبروزاً على الساحة.
أولاً: الدول الفاشلة والحكومات الضعيفة التي تمثل أرضاً خصبة للجماعات الإرهابية العنيفة، وتعتمد معظمها على النزعة القومية من أجل السيطرة على السلطة. وتمتد هذه الحكومات من سوريا والعراق إلى اليمن وليبيا والصومال وأفغانستان، مع استمرار فشلها في فرض النظام والسلام وحماية مواطنيها، علاوة على تشكيلها خطراً على جيرانها وتهديدها أمنهم. كما تخضع هذه الدول لتلاعب أصحاب المصالح الرئيسيين في القوى العالمية، على حساب التقاليد المحلية ومؤسسات الدولة والشعوب. وينتهي الأمر بمعظم المساعدات الدولية التي يتم إرسالها إلى مناطق الأزمات النائية، لتصبح في النهاية عاملاً يعزز من تدهور الأوضاع في الدول الفاشلة ذات الحكومات الضعيفة.
من هنا تظهر الحاجة إلى التدابير المضادة لبناء مؤسسات دولة قوية وزيادة قدرتها على الحكم المعتمد على الإدارة الجيدة والمساءلة وتولية الأصلح. ويتعين على الدول الإسلامية مساعدة بعضها البعض في تطوير قدراتها على إرساء قواعد النظام وتوفير الخدمات. كما يجب ألَّا يتم التلاعب بالعوامل العرقية والطائفية والجغرافية لإضعاف هياكل الحكومات أكثر مما هي عليه.
ثانياً: تواجه المنطقة مشكلة التطرف والجماعات المتشددة العنيفة مثل: تنظيم القاعدة وداعش وبوكو حرام وحركة الشباب وغيرهم. وتستخدم هذه المنظمات الإرهابية الحجج الدينية لتبرير قضاياهم. ولكن هذه المنظمات تسعى في جوهرها وراء السيطرة على السلطة، وهو ما يعني أنها لا تختلف كثيراً عن أي منظمة إرهابية علمانية أو قومية أو اشتراكية. وغرضها الرئيسي هو الوصول إلى السلطة بأي ثمن. ويجب أن يظهر هذا واضحاً للعيان حتى يُكشف النقاب عن أغراضهم الدنيوية وطبيعتهم المدمرة. ويتوجب على المسلمين الصالحين أن يعربوا عن رفضهم لهذه الأيديولوجيات المنحرفة والحيلولة دون وقوع الشباب فريسةً لها. ويتطلب هذا عملاً جاداً على المستوى الفكري من الدرجة الأولى، حيث يتعين علينا استعادة التراث الفكري الإسلامي وإظهار توافقه مع القرن الحادي والعشرين.
ثالثاً: يعمل ازدياد الطائفية في بعض مناطق النزاع على تأجيج العلاقات بين السنة والشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وتختلط الهويات الطائفية مع الهويات العرقية والإقليمية والقومية في دول مثل: إيران والعراق وسوريا ولبنان والبحرين وباكستان. في معظم الأحيان؛ يتم التركيز على الهويات الطائفية لإخفاء مصالح الدول القومية ونضالها من أجل النفوذ والتوسع. وهذا المسار الخطير للغاية، لن يجلب سوى المزيد من فقدان الثقة وتعميق الكراهية بين السنة والشيعة.
ويتعين على العلماء والزعماء الدينيين والسياسيين والمجتمعات المدنية بشكل عام أن ترى حجم الدمار الذي أحدثته الطائفية في أراضي المسلمين طوال العقد الماضي، ويتكاتفوا لوضع حدٍ للعنف والخراب. كما ينبغي قبول السنة والشيعة كجزء من التراث الإسلامي بشكلٍ عام. وبينما ينبغي الاعتراف بوجود الخلافات العقائدية والقانونية، يتوجب أيضاً ألَّا يتم التلاعب بها لخلق صراعات سياسية وخدمة مصالح الدول القومية. فالهوية الكبرى للمسلمين -السنة والشيعة على حد السواء- تتجاوز كل حدود الدول القومية.
رابعاً: تتخلف معظم الدول الإسلامية عن ركب الدول المتقدمة في العالم، رغم سيطرتهم على العديد من الموارد الطبيعية الغنية. ويشير المحللون إلى أن الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي كان أداؤها دون المستوى وفقاً لمؤشر التنمية البشرية لمنظمة الأمم المتحدة. وحتى لو تجاهلنا مؤشرات الأمم المتحدة وتبنينا مجموعةً مختلفة من المعايير الأكثر ملائمةً للظروف الراهنة في الدول ذات الأغلبية المسلمة، فلن تتغير النتائج كثيراً. وينبغي التصدي للفجوة التنموية بين الدول الإسلامية وبقية دول العالم المتقدم بطريقةٍ جادة وممنهجة. وهذه ليست فقط ضرورةً سياسية، بل واجبُ ديني باعتبار الإسلام ديانةً تحض على كرامة الإنسان وسلامته كقيمةٍ أساسية في نظرتها للعالم والنظام الاجتماعي. ولا يمكن للمسلمين أن يزعموا أنهم صالحين وفي خدمة الله، بينما يعيشون في فقرٍ مُدقع وتلوثٍ بيئي وسط مراكزٍ حضرية غير صحية ونزاعاتٍ طائفية مدمرة. ولا يمكن تبرير الفشل البشري بانه إرادة الله المحددة مسبقاً. وهذا يتطلب منا تفكيراً عقائدياً-فلسفياً جديداً يتمحور حول الوضع العالمي ومكاننا فيه.
يتعين على الدول الإسلامية الاستثمار أكثر في التنمية البشرية والتعليم والعلوم والتكنولوجيا. لكن عليهم القيام بذلك بطريقةٍ تحترم وتحمي التقاليد، بينما تظل منفتحة على الإبداع والتجديد ومواكبة العصر؛ فالهوس بالتقاليد والتكرار الأعمى لها سيقود في النهاية إلى موت هذه التقاليد. كما أن الإيمان دون مبادئ أو جذور في كل ما هو جديد وحديث، سيؤدي فقط إلى تعميق الاغتراب الذاتي وأزمة الهوية. ويمتلك التراث الفكري الإسلامي الموارد اللازمة لتحقيق التوازن المثالي بين التقاليد واستمراريتها من جهة، والتكيف والتجديد من جهةٍ أخرى. حيث يمكننا التمسك بتراثنا وتقاليدنا مع الحفاظ على أفقٍ منفتحٍ على العالم.
ليس من المستحيل تحقيق أيٍ من هذه الأهداف. ولكنها تتطلب رؤيةً اجتماعية ودينية جديدة نستعيد بها دورنا كـ”أمةٍ وسط” تحمل أمانة وكَّلنا بها الله في العالم. وهنا تظهر الحاجة الضرورية لقيادةٍ فكريةٍ أصيلة وفعالة من أجل تخطي الانقسامات الكاذبة داخل النفس البشرية وإظهار إمكانية عيش حياة ذات معنى وهدف دون التخلي عن الحرية والأمان.
وتأتي الحاجة إلى قيادةٍ سياسية قوية وحكيمة من أجل إنهاء الحروب المدمرة والصراعات في الدول الإسلامية وحمايتها من التلاعب والتدخلات الخارجية. ويتعين على القادة السياسيين إدراك أن سلامة الفرد تعتمد على سلامة الآخرين. ففي عصرٍ تزايد فيه التكافل والعولمة، فلا أحد في مأمن حتى يصبح الجميع في أمان.
المصدر: ديلي صباح – ترجمة: هافنغتون بوست عربي