{يَا أَيُهَا النَاسُ أَلَا إِنَ رَبَكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍ عَلَى أَعْجَمِيٍ، وَلَا لِعَجَمِيٍ عَلَى عَرَبِيٍ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَا بِالتَقْوَى}.
عبارةٌ قالها رسول الهدى وخاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – قبل نحو 1400عامٍ، لخص من خلالها حقيقة البشر، وساوى بينهم على اختلاف أصولهم وأعراقهم وألوانهم، نابذًا التفاخر والتعالي بين الناس على أساس العرق واللون والأصل، وجاعلًا سبيل التفاضل الوحيد بينهم هو التقوى والعمل الصالح.
محمد – عليه الصلاة والسلام – لم يأتِ حينها بجديدٍ، بل ذكر بسنة الله – سبحانه وتعالى – في خلقه، تلك التي ألهمها جميع رسله وأنبيائه وعباده الصالحين، ألا وهي نبذ العنصرية، ذلك السلوك العاتي المستبد الذي يعلي من شأن فئةٍ ما، ويمنحها الحق في التحكم بمصير فئةٍ أخرى، لمجرد انتمائها إلى عرقٍ أو لونٍ أو أصلٍ أو طبقةٍ اجتماعيةٍ مختلفة، والذي انتشر وتغلغل في جل المجتمعات البشرية منذ فجر التاريخ، ولم تكن ميادين الرياضة عنه بمعزل، فقد انتشرت حالات التمييز العنصري في الرياضة، وتزايدت تدريجيًا مع تزايد أهمية البطولات الرياضية وتزايد عدد ممارسيها ومتابعيها، ولا سيما في ملاعب رياضة كرة القدم ذات الشعبية الساحقة، حيث أضحت تلك الظاهرة داءً خطيرًا ينخر جسد اللعبة، ويهدد كينونتها وقيمها.
وفيما يلي، نستعرض لكم عددًا من أهم الحوادث والقصص المؤثرة، التي تجلت خلالها ظاهرة العنصرية في ملاعب كرة القدم، والتي عانى منها عددٌ من كبار النجوم، بسبب لونهم أو عرقهم أو قوميتهم أو حتى دينهم!
لاعبو الإنتر يحاولون تهدئة لاعب ميسينا زورو
ونبدأ مع حوادث التمييز بسبب اللون والعرق، وهي الأكثر انتشارًا في الملاعب، وقد كان أشهرها ما حدث مع الغاني زورو لاعب فريق ميسينا، أثناء مباراة فريقه أمام إنتر ميلانو في الدوري الإيطالي عام 2005، حيث أخذت جماهير الإنتر تقلد صيحات القرود كلما لمس اللاعب صاحب البشرة السمراء الكرة، كنوعٍ من السخرية العنصرية، بتشبيه اللاعب بالقرد بسبب لونه، وهو ما حدا باللاعب إلى الانسحاب من المباراة، قبل أن يتدخل بعض لاعبي الإنتر لثنيه عن ذلك، وقد استمدت تلك الحادثة شهرتها من الضجة التي أحدثتها حينها، والتي حدت بالاتحاد الإيطالي إلى وضع قوانين صارمةٍ لمنع تكرار تلك الحالات.
ورغم ذلك تكررت الحادثة في الملاعب الإيطالية غير ذات مرة، كما حصل مع ماريو بالوتيللي، الذي اعتاد على سماع تلك الصرخات الساخرة حين كان لاعبًا لفريق الإنتر بين عامي 2007 و2010، وخاصة عند زيارته لملعب نادي يوفنتوس، وكذلك تعرض لاعب فريق ميلان الغاني كيفن برنس بواتينغ إلى الموقف ذاته، خلال إحدى مباريات فريقه الاستعدادية عام 2013، وحينها رفض اللاعب استكمال المباراة تمامًا!
داني ألفيش يأكل الموزة في الملعب!
كما سُجلت الحادثة ذاتها أكثر من مرةٍ في الملاعب الإسبانية، مع اختلاف ردود الأفعال، فقد تعرض نجم برشلونة الكاميروني الشهير صامويل إيتو لصيحات القرود من قبل بعض جماهير نادي ريال ساراغوسا، أثناء مباراة الفريقين في الدوري عام 2006، فما كان منه إلا أن استكمل اللقاء بعد وساطة زميله النجم رونالدينيو، بل وساهم بشدةٍ في فوز فريقه من خلال صناعته للهدف الثاني، مما جعله يقف بفخرٍ وسط ملعب ساراغوسا رافعًا إشارة النصر!
وبدوره، لم يستطع لاعب ريال بيتس البرازيلي باولاو عام 2013، احتمال تلك الصرخات الساخرة، لأنها كانت صادرةً عن جماهير فريقه! فما كان منه إلا أن خرج من الملعب وأجهش بالبكاء!
فيما طغت شخصية لاعب برشلونة داني ألفيش على الحدث، عندما قام أحد مشجعي نادي فياريال، بقذفه بموزةٍ أثناء مباراة الفريقين في الدوري عام 2014! فما كان من النجم البرازيلي إلا أن التقطها وقام بتقشيرها وقضمها! كردٍ بليغٍ على الإهانة العنصرية التي قصدت تشبيهه بالقرد، لتنطلق على إثر تلك الحادثة حملةٌ عالميةٌ لمناهضة العنصرية، تحت عنوان: (هيا نأكل الموز)!
من المظاهر العنصرية في الملاعب الروسية
ولم تسلم الملاعب الإنجليزية من حوادث كتلك، فقد أعلنت منظمة Kick it Out) ) غير الحكومية المناهضة للعنصرية في سبتمبر الماضي، أنها تلقت 193 بلاغًا عن مضايقاتٍ عنصرية، جرت بين جماهير كرة القدم الإنجليزية الموسم المنصرم، بزيادةٍ قدرها 2.5% عن الموسم السابق.
ولا يشكل كل ذلك شيئًا إذا ما قيس بما يحصل في روسيا، حيث أصبحت جماهير بعض الأندية تتباهى علنًا بكرهها للأجانب وخاصةً من أصحاب البشرة الملونة، ولا تدخر جهدًا في سبيل إزعاجهم لحملهم على مغادرة الدوري الروسي، وقد كان نجومٌ كالبرازيليين روبيرتو كارلوس وهالك إضافةً إلى الكونجولي سامبا، أبرز ضحايا تعصب وعنصرية تلك الجماهير، التي وصل بها الأمر إلى رفع اللافتات العنصرية في الملاعب جهارًا نهارًا! مما حدا بالكثير من نجوم الكرة العالميين إلى التهديد بمقاطعة مونديال روسيا عام 2018، في حال استمرار تلك المهازل!
ميدو يُخرس جماهير نيوكاسل المستهزئة عام 2007
وكان الانتماء للدين الإسلامي، هي التهمة التي قُذف بها المصري أحمد حسام (ميدو)، أثناء خوضه مباراة فريقه ميدلسبرة أمام نيوكاسل عام 2007، حين شرعت الجماهير بالهتاف (ميدو يحمل قنبلة)! في ربطٍ سخيفٍ بين الإسلام والإرهاب، يدل على إصابة تلك الفئة من الجماهير بمرض (الإسلاموفوبيا)، الذي حمل جماهير نادي هوفنهايم، على رفع لافتةٍ استهدفت المصري محمد زيدان لاعب فريق ماينز، خلال مباراة الفريقين بالدوري الألماني عام 2012، حيث حملت تلك اللافتة عبارة: (عد إلى الصحراء يا راعي الجمل)!
ويبدو أن مرض الإسلاموفوبيا ذاته، هو ما تعاني منه فئةٌ كبيرةٌ من جماهير نادي شالكة الألماني، التي اشتُهرت بأدائها لنشيدٍ يستهزئ بالنبي محمد – عليه الصلاة والسلام -، فضلًا عن عدائها لأي لاعبٍ مسلمٍ يطئ ملعب ناديها، كما حصل مع النجم التركي المسلم هاكان كالهانوغلو، خلال مباراة فريقه بايرليفركوزن أمام شالكة بالدوري الألماني عام 2015، حيث قُذف بـ (ساندوتش همبرغر) كنوعٍ من الاستهزاء المتعمد، فما كان من النجم التركي حينها إلا أن تلقف المقذوف وقام بتقبيله 3 مراتٍ وتنحيته بعيدًا عن الأرض، كنوعٍ من احترام النعمة.
حادثة سواريز وإيفرا عام 2011
ولم تقتصر الحوادث العنصرية على الجماهير فحسب، بل سُجلت بعض الوقائع التي أظهرت عنصرية بعض اللاعبين أو حتى المدربين، نذكر منها ما قاله الناخب الوطني الإسباني الراحل لويس أراغونيس عام 2004، حين نعت اللاعب الفرنسي تيري هنري بالحثالة السوداء! وما فعله النجم الهولندي الراحل يوهان كرويف في حق مواطنه إدغار دافيدس عام 2011، عندما استدار إليه أمام عدسات الكاميرات قائلًا: “لقد تم تعيينك في إدارة نادي أياكس فقط لأنك أسود”! وكذلك ما تلفظ به سيسك فابريغاس لاعب برشلونة السابق، في حق نجم اشبيلية المالي فريدريك كانوتيه عام 2012، حين وصفه بـ “المسلم البغيض”!
وإذا كانت الحوادث السابقة قد مرت بدون عقاب، فإن حادثة مدافع تشيلسي الإنجليزي جون تيري قد أسفرت عن تنحيته عن قيادة منتخب الأسود الثلاثة عام 2010، حين تفوه بعباراتٍ عنصريةٍ في حق مدافع رينجرز أنتون فيرديناند، وكذلك عوقب مهاجم ليفربول السابق الأورغواني لويس سواريز، بالإيقاف مدة 8 مباريات عام 2011، بعد تفوهه بعباراتٍ عنصريةٍ تخص اللون، تجاه مدافع مانشستر يونايتد الفرنسي باتريس إيفرا.
نطحة زيدان الشهيرة
وتبقى الحادثة الأشهر والتي لا يمكن نسيانها أبدًا، تلك التي وقعت أثناء مباراة نهائي كأس العالم عام 2006، على مرأى ومسمع ملايين المشاهدين، حين قام النجم الفرنسي زين الدين زيدان بنطح المدافع الإيطالي ماركو ماتيرازي، مما تسبب في طرده وخسارة منتخبه كأس العالم، ليتبين بعدها بأن سبب هذا التصرف الغريب من زيدان، هو تفوه ماتيرازي بعباراتٍ عنصريةٍ نابيةٍ، قذف من خلالها أخت اللاعب الجزائري الأصل!
وإذا تساءلنا عن أسباب انتشار وتنامي هذه الظاهرة في ملاعب كرة القدم خاصةً، تأتينا الإجابة من فم رئيس الاتحاد الإيطالي جان كارلو أبيتي، الذي أجاد توصيف الحالة تمامًا بقوله: “من الواضح أن ملاعب الكرة تحولت بفضل شهرة اللعبة إلى منصةٍ كبيرةٍ لاستعراض بعض السلوكيات المعوجة وإطلاق الرسائل السلبية، فالكثيرون يرتادون الملعب ليس لأنهم مشجعون، بل لأنه يعتبرونه مكبر صوتٍ لأفكارهم العنصرية”.
بعض اللاعبين يحملون عبارة: لا للعنصرية
ورغم محاولات الاتحادات الوطنية والمؤسسات الكروية القيادية، وعلى رأسها الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا)، الحد من تلك الظاهرة، عبر توقيع عقوباتٍ تبدأ بفرض الغرامات المالية، وتنتهي بالحرمان النهائي والاستبعاد، إضافةً إلى تشكيل مجموعة عملٍ داخل الفيفا، منذ عام 2013 وحتى سبتمبر الماضي، هدفها نشر التوعية ضد عنصرية الملاعب، من خلال رفع لافتةٍ تحمل عبارة (Say No to Racism) أي (قل لا للعنصرية)، قبيل خوض المباريات الدولية، إلا أن كل ذلك لم يأتِ بالنتائج المرجوة، وبدا أنه من المستحيل اقتلاع جذور تلك الظاهرة المقيتة من الملاعب الخضراء، ذلك أن منشأ تلك الجذور اجتماعي بالأساس، ومرتبط بمستوى تربية وتعليم وأخلاق الأمم.