عندما حط الجيش المصري باليمن كانت أغلب التحليلات تؤكد أنها نزهة قصيرة وأنها ضربة سياسية استراتيجية من قيادة تعرف ما تفعل، فهي من جهة تحرر الشعب اليمني من الرجعية ممثلة في حكم الإمام وبالتالي محاصرة الرجعية العربية في دول الخليج، ومن جهة أخرى يحتفظ هذا الجيش بموقع جغرافي استراتيجي توظفه في معركة مع العدو المحتل الغاصب الكيان الصهيوني لكن تعقيدات الوضع اليمني داخليًا ولعبة الأمم دوليًا لم يحسب لها الزعيم عبد الناصر حسابًا، وكان هذا التدخل عنوان الفشل الاستراتيجي الذي من أهم تداعياته هزيمة 67 المسماة بالنكسة.
عبد الناصر تدخل في اليمن 1962
تدور الأيام ويتخذ أحد صناع القرار العربي غزوًا لسماء اليمن وبحره دون بره في قرار ربما فاجأ الجميع وسوق له على أنه قرار قادم من جيل جديد يختلف عن سابقيه.
إن أزمة اليمن هي أزمة داخلية بالأساس وهي تحديدًا لم تتجاوز بعد عصر القبيلة، وإذا كان الإنجليز قد احتلوا اليمن إلا أن احتلالهم نجح إلى حد ما لأنه معروف عنهم أنهم لا يتدخلون كثيرًا في البيت الداخلي وإنما تعنيهم مصالحهم، والعقل السياسي الإنجليزي ضليع في لعبة التوازنات خصوصًا إذا كان المجتمع يمثل مجموعة من القبائل والطوائف والعرقيات الإثنية وهذا لم يفهمه صانع القرار السياسي العربي المتخرج من جامعة أوكسفورد أو من ثكنات القاهرة.
تتصارع القبائل داخل اليمن وتتحالف ضمن قيم القبيلة، ويبدو العسكري علي عبد الله صالح هو الشخص الوحيد الذي فهم منطق القبيلة ولعب على التوازنات، فمنذ سيطرته على صنعاء أحسن توظيف كل شي بما في ذلك القبيلة في سبيل مركزية حكمه، تمكن علي عبد الله صالح من توحيد اليمن واكتساب شرعية دولية في هذا الإنجاز وكان خبرًا سارًا للحالمين بالوحدة العربية، إذ تقلص عدد الدول من 22 إلى 21، لكن لم تلبث أن اندلعت الحرب اليمنية اليمنية وأحس اليمني الجنوبي بأنه مواطن من الدرجة الثانية مقارنة بسيطرة قبيلة حاشد في الشمال وحسمها علي عبد الله صالح فدخل قواته عدن وما إن استقر له الوضع حتى واجه حكمه أزمتين:
1- تمرد الحوثيين في صعدة بقيادة عبد الملك الحوثي.
2- تمرد السلفيين الذين بايعوا القاعدة.
واستمر علي عبد الله صالح الملقب بثعبان القبيلة يستثمر علاقاته الداخلية والخارجية وسمح لأمريكا باحتلال غير معلن لسماء اليمن، بينما استطاعت قواته قتل عبد الملك الحوثي في إحدى الغارات.
بدا الحاكم بأمره في اليمن مزهوًا بانتصاراته وتدخلت بعض دول الخليج على الخط ليتم نوع من التصالح بين صنعاء وصعدة، حتى تفاجأ الجميع بالمد الثوري الشبابي وانطلقت الثورة من تونس لتنفجر الميادين في القاهرة وتتكلم الشوارع في صنعاء وعدن وكلها ترفع شعارًا واحدًا: ارحل.
وعلى عجل تتحرك الدبلوماسية السعودية إبان حكم الشيوخ أي أيام الراحل الملك عبد الله الذي نظر بريبة وباحتراز شديد لثورات الربيع العربي، معتبرًا إياها خطرًا يهدد استقرار المنطقة، بل وتوترت العلاقات السعودية القطرية، حيث واجهت قطر ضغط الإمارات والسعودية لكونها دعمت الثورات العربية.
أراد الملك الراحل عبد الله أن ينقذ علي عبد الله صالح، بل ووفر له ملاذًا آمنًا وعالجه إنقاذًا له من محاولة اغتياله، وحصل الاتفاق بين الثورة ومن يمثلها من الساسة وبين علي عبد الله صالح ومختلف القوي القبلية الداعمة له، وكان الاتفاق يقتضي بتسليم السلطة لقيادة بديلة، لكن علي عبد الله صالح غدر بهذا الاتفاق وعاد لليمن متحالفًا مع عدو الأمس (الحوثيين)، مجيشًا كبرى القبائل (حاشد) التي ينتمي إليها، مستغلاً قدرات الحرس الجمهوري الأكثر تسلحًا وعتادًا وهو الذي يدين بالولاء له.
أثمر هذا التحالف انقلابًا على الشرعية وثورة على الثورة وأصبح حلفاء الثورة ممثلاً في حزب الإصلاح هم ضحية هذا الانقلاب، وبدأ الحوثيون يهددون صنعاء، بل وفي اتفاق سري مع علي عبد الله صالح تمكنوا من السيطرة على القصر؛ مما أدى إلى لجوء عبد ربه منصور هادي نحو الرياض، وبمجرد تسلم الملك سلمان الحكم تحرك ولي العهد الجديد ابن سلمان في خطوة غير محسوبة لينطلق التحالف العربي في أولى ضرباته جوًا وبحرًا.
لقد فاجأ إعلان الحرب على الحوثيين العالم، باعتبارهم يخوضون حربًا بالوكالة عن إيران، فإيران الجارة والعدوة التقليدية للمملكة بصفة عامة تسيطر على أربع عواصم مطلة على الرياض وهي: بغداد ودمشق وبيروت وأخيرًا صنعاء؛ مما جعل السعودية ودول الخليج تأخذ مأخذ الجد تهديد بعض الحوثيين في نشوة انتصارهم بأن مكة والمدينة على مرمى صواريخهم.
كانت السيطرة شبه كاملة في الجو وأسقطت مئات القنابل ومع كل قنبلة يسقط الضحايا واستطاعت قوات التحالف أن تؤمن دخول القوات الشرعية مطار عدن ثم تمكنت هذه القوات من استعادة عدن، ولكن رغم شراسة القتال والضربات ظلت الجهة الشرقية هي الرئة التي يتنفس منها الحوثيون والجيش الجمهوري، فمسقط وفي خطوة غير منتظرة اتخذت قرارًا في العلن أنها على الحياد، ولكنها في الواقع لم تغلق الحدود؛ مما يجعل إيران تلعب دورًا أساسيًا في التسليح ومد يد العون لحلفائها الحوثيين وعلي عبد الله صالح.
علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي
سنتان تمران وصنعاء عصية على قوات التحالف وعلى الشرعية، ذلك أن احتلال السماء إن لم يصاحبه تدخلاً بريًا يصبح عملاً لا معنى له، وربما الخاسر الأكبر فيه هم المدنيون، ومما زاد الطين بلة بالنسبة لقوات الشرعية تحرك القاعدة واحتلال زنجبار ومبايعة بعض فصائلها تنظيم داعش، كل ذلك تزامن مع نجاح مبهر للدبلوماسية الإيرانية في اختراق صانعي القرار الأمريكي، حيث تفاجأت السعودية واعتبرت هذا الاختراق خيانة إن لم نقل تهديدًا لمصالح العرب وخصوصًا أهل السنة والجماعة.
توترت العلاقات السعودية الأمريكية في الملف السوري ودخلت روسيا بقوة واشتغلت بعض القوى الإقليمية والدولية على تحييد تركيا وربما إشغالها داخليًا في معارك، وبدا أن إيران تحقق انتصارًا واحدًا إثر آخر سياسيًا وعسكريًا.
عشرات القنابل والبراميل المتفجرة والقنابل الفسفورية تسقطها طائرات النظام السوري مدعومة من روسيا على الأحياء في حلب ولا أحد يعلق أو يحتج إلا همسًا بينما تدق الأجراس وتقرع الطبول إثر القصف الخاطئ لدار العزاء في صنعاء من قبل قوات التحالف، فتندد الخارجية الامركية وتتخذ قرار بمراجعة وثيقة التعاون العسكرية وطالب بانكي مون المنتهية ولايته في تصريح بفتح تحقيق محايد.
يمكن أن يمثل هذا الخطأ العسكري لقوات التحالف بداية الحل للمشكلة اليمنية، ذلك أن الإحراج الذي تسببت فيه للسعودية يجعلها تنكفئ وتنسحب شيئًا فشيء من اليمن، وكأن التاريخ يعيد نفسه مما يذكرنا بانسحاب جمال عبد الناصر لتعود اليمن إلى ليلها القبلي، لكن ماذا ينتظر السعودية؟