رغم محاولات التطبيع العديدة من قبل نظامي بورقيبة وبن علي زمن الاستبداد، كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في وجدان المجتمع التونسي، كانت أرضية يجتمع فوقها المختلفون، حيث لا تمتلئ الشوارع إلا هاتفة بحياة فلسطين وسقوط الاحتلال الصهيوني.
علاقة تونس بفلسطين قديمة قدم باب المغاربة في القدس، محطات كثيرة اختلط فيه الدم التونسي بالدم الفلسطيني في صولات مقارعة الكيان الغاصب، انطلاقًا من العمليات الاستشهادية التي قام بها تونسيون في فلسطين، وصولاً إلى غارة حمام الشط التي استهدف فيها سلاح الجو الصهيوني يوم 1 أكتوبر 1985 مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية بحمام الشط، إحد الضواحي الجنوبية للعاصمة التونسية، وراح ضحيتها مئات الشهداء والجرحى.
زمن الاستبداد كما أسلفت كانت القضية الفلسطينية حاضرة بقوة في كل المحطات النضالية التي خاضها أبناء الشعب التونسي، بل كانت المحرك الأساسي لنضالاتهم والفرصة الوحيدة التي يتواصل من خلالها معارضو النظام مع عموم الشعب الساخط على الموقف الرسمي من القضية.
الديكتاتور بن علي نفسه والذي كشفت الوثائق لاحقًا اتصالاته بالكيان الصهيوني والتنسيق معهم كان يصرح بأن القضية الفلسطينية قضيته الشخصية
لحظة انتصار الثورة وهروب بن علي كانت القضية الفلسطينية من أولويات الثوار، حيث كان شعار الشعب يريد تحرير فلسطين شعارًا مركزيًا بين شعارات الثورة.
في السنوات الأولى اللاحقة لسنة 2011 تواصل الاهتمام بالقضية، فعجت الساحات العامة وساحات الجامعات بالتظاهرات المناصرة لها، ولم يخل اجتماعًا سياسيًا من الأهازيج المحتفية بحماة شرف الأمة في فلسطين كما سيرت قوافل الدعم المادي والمعنوي لغزة.
نسق الاهتمام بالقضية تصاعد أيضًا على المستوى الثقافي، فكتبت دواوين الشعر وأقاصيص أدبية وأغانٍ من مختلف الألوان الموسيقية تدعم المقاومة الفلسطينية وتعاضد استبسال الشعب الفلسطيني في الدفاع عن الأرض والعرض.
الموقف الرسمي زمن الترويكا عكس تطلعات الشعب وبرز مساندًا للمقاومة الفلسطينية، حيث استقبلت تونس في يناير 2012 نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس ورئيس الحكومة الفلسطينية حينها إسماعيل هنية في استقبال مهيب أرعب وكلاء الصهيونية في كل مكان.
خلال الحرب على غزة في نوفمبر 2012 زار وفد رسمي يقوده وزير الخارجية التونسي آنذاك السيد رفيق عبد السلام، غزة، مؤكدًا دعم الدولة التونسية للمقاومة الفلسطينية.
عدة مؤتمرات وندوات تعني بالعمل الفلسطيني حضرها شخصيات فلسطينية من مختلف الفصائل استقبلتها تونس في تلك الفترة.
مواقف مبدئية دفعت الترويكا والنهضة خاصة ثمنها لاحقًا، حيث لم يغفر لوبيات الصهيونية لتونس هذه المواقف وانطلقت الضغوطات والمؤامرات بناءً عليها وعلى غيرها من المواقف التي انتصرت فيها تونس للأمة وقضاياها العادلة، ضغوطات انطلقت بعدم التنصيص على تجريم التطبيع في الدستور التونسي وانتهت بقلب موازين القوى السياسية في تونس لصالح أطراف اهتمامها بالقضية الفلسطينية كاهتمام بورقيبة وبن علي بل بنسب أقل.
انقلاب كان له انعكاساته، حيث تراجع الاهتمام الشعبي والرسمي بالقضية وأصبح التخفيف من الالتصاق بهموم شعبنا الفلسطيني ومعاناته من تكتيكات الأطراف السياسية والاجتماعية في تونس وعاملاً من عوامل إبراز اعتدالهم أمام القوى المحلية والدولية الخاضعة للوبيات الصهيونية، بل بلغ حد الامتناع عن تقديم التأشيرة لطلاب فلسطينيين لاستكمال دراستهم في تونس التي انطلقت زمن الترويكا.
الحركة الشبابية والطلابية نفسها خفت اهتمامها بالقضية الفلسطينية وهي التي لا طالما كانت رائدة بين الحركات الشبابية والطلابية في العالم في نصرة الشعب الفلسطيني، وذلك بدعوى أولوية القضايا الوطنية من البطالة والإرهاب، على قضية فلسطين كما يبرر البعض، وهي نفس تبريرات النظام البورقيبي والنوفمبري سابقًا.
بصيص من الأمل في عدم انطفاء شمعة دعم المقاومة الفلسطينية أرسله مشاركة النائبة في البرلمان التونسي عن كتلة حركة النهضة لطيفة الحباشي في الحملة النسائية لكسر الحصار على غزة، بصيص من الأمل كاد أن يعصف به إسقاط لائحة دعم للقضية الفلسطينية اقترحتها كتلة حركة النهضة في البرلمان والتي كان الفرق بين مرورها وسقوطها صوت واحد.
تراجع في الاهتمام الرسمي بالقضية الفلسطينية مرده ضغوطات دولية وقابلية للضغط تونسية ألقى بظلاله على الاهتمام الشعبي، المخيف في هذا هو انعكاسه السلبي ثقافيًا على الأجيال القادمة بما يتسبب في نجاح مخططات الكيان الصهيوني في تنشئة أجيال منفصلة عن واقع الأمة وقضاياها، متقوقعة على قضايا قطرية، تنشئة تجعل من انتمائها للغرب أعمق من انتمائها للأمة العربية والإسلامية.
في السابق فشل تمرير هذا المخطط والأمل قائم اليوم في أحرار الشعب التونسي الذين عزموا على تحقيق نهضة بلدهم ببوصلة تتجه لنصرة القضية الفلسطينية وكل القضايا العادلة في العالم.