أصبحت مدينة الموصل العراقية هذه الأيام محط أنظار الدول الإقليمية المتصارعة في المنطقة، فمن جهة تركيا التي تسعى إلى ضمان حصة لها في المحافظة التي تشكل مكانة رمزية بالنسبة لها، بالإضافة إلى أنها تسعى لمنع إيران من إكمال مشروع طريقها البري الذي تسعى لإنجازه والذي سيوصلها بالبحر الأبيض المتوسط، وقبل الشروع في تفاصيل الموضوع لا بد من إطلالة سريعة على موقع مدينة الموصل الجيوسياسي الذي جعلها ساحة لصراع هذه الدول.
مدينة الموصل هي مركز محافظة نينوى وثاني أكبر مدينة في العراق من حيث السكان بعد بغداد، حيث يبلغ تعداد سكانها حوالي 3 ملايين نسمة، وتبعد الموصل عن بغداد مسافة تقارب حوالي 465 كلم، كما أنها توصل العراق بسوريا وتركيا، وهو ما أضفى عليها أهمية جغرافية عالية، جل سكان الموصل من السنة العرب، بالإضافة إلى وجود عدد من الأكراد والتركمان والمسيحيين.
الموصل بالنسبة لتركيا
للموصل بالنسبة لتركيا أهمية رمزية أولًا ومن ثم أهمية جغرافية وإقليمية، فبعد اتفاقية لوزان للسلام كانت إحدى المشاكل التي تعاملت معها تركيا هي الحدود مع العراق وقضية الموصل، وقد كان من الصعب إيجاد حل لمشكلة الموصل التي كادت أن تُعرض السلام المنعقد بين تركيا وبريطانيا للخطر، كانت الموصل مرتبطة باتفاقية موندروس للهدنة الموقعة من قبل الدولة العثمانية، وأُعلن عن تجزئة 90% من حدود أراضي ولاية الموصل وفصلها عن تركيا بعد مئات السنين من السيادة التركية وفق الميثاق الأممي.
نص أحد بنود اتفاقية لوزان على أن تتنازل تركيا عن الموصل مقابل حصولها على 10% من نفطها لمدة 25 سنة، وحتى عام 1986 كانت الميزانية التركية تأتي على حساب مجيء هذه النسبة، وقد وعد مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، نواب البرلمان المعترضين على الاتفاقية آنذاك، بالعمل على “استعادة الموصل في الوقت المناسب”.
تسعى تركيا في الوقت الحالي إلى فرض نفسها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها، علاوةً على سعيها لحفظ حدودها والدفاع عن حلفائها، فجاءت عملية درع الفرات كفرض أمر واقع على القوى المتصارعة في سوريا، وكان أردوغان قد قال في تصريحاتٍ سابقة إن الموصل بحاجة لعملية مشابهة لدرع الفرات، وتجدر الإشارة إلى أن عملية درع الفرات كانت تهدف في المقام الأول إلى دعم “الجيش السوري الحر” في مواجهة الجيش السوري النظامي، وهنا يجب أن يطرح السؤال: هل ستسعى تركيا إلى دعم الحشد العشائري في نينوى (بقيادة أثيل النجيفي الحليف الأقوى لتركيا في الموصل) في مواجهة الحشد الشعبي المدعوم من إيران، وبالتالي إلى إيقاف التوسع الإيراني؟
هذا الظاهر من تصريح أردوغان الذي شبه عملية درع الفرات بالعملية التي يبغي تنفيذها في الموصل، وكان أردوغان في وقتٍ سابق قد حدد موعد انطلاق عمليات تحرير الموصل في التاسع عشر من الشهر الحالي، ومن المؤكد أنه حدد هذا التاريخ دون الرجوع إلى الحكومة العراقية، التي تسير ضمن الحدود التي رسمتها لها إيران في مواجهة التمركز التركي في المدينة، حيث ثارت ثائرة الحكومة جراء التصريحات التركية، كذلك الميليشيات المدعومة من إيران والتي هددت تركيا بمعاملتها معاملة المحتل.
وفي تحليل دوافع الأتراك في إصرارهم على المشاركة في عمليات تحرير الموصل، فهم يسعون إلى إعادة توازن القوى المفقود في المنطقة لصالح إيران، كما أنهم يسعون إلى تأمين حدودهم من جهة كردستان العراق من هجمات حزب العمال الكردستاني، كما أنها تسعى إلى منع إيران من تحقيق مشروعها الرامي إلى شق طريق بري يصلها بالبحر الأبيض المتوسط والذي من المفترض أن يمر من سنجار غربي الموصل (التي يتواجد فيها حزب العمال الكردستاني بقوة)، مرورًا بتلعفر ذات الخليط الإثني والطائفي، وصولًا إلى حدود ربيعة فالقامشلي فحلب.
بالإضافة إلى ذلك فإن تركيا تسعى إلى إضعاف سيطرة الحكومة العراقية على الموصل، فالأتراك يدركون بأن إيران ستستخدم الحكومة العراقية والميليشيات المدعومة من قبلها للضغط على أربيل (التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني الحليف الكردي الأقوى لتركيا)، وبالتالي الضغط على تركيا.
وتسعى إيران حاليًا للضغط على تركيا عن طريق ضم قوات حزب العمال الكردستاني إلى قوات الحشد الشعبي حيث وافق فالح الفياض (مستشار الأمن القومي العراقي) مؤخرًا على انضمام قوات حزب العمال إلى تشكيلات الحشد الشعبي، وفي الرد على ذلك قال أثيل النجيفي (المحافظ السابق لمحافظة نينوى) إن تركيا ستشارك بريًا في عمليات تحرير الموصل في حال مشاركة حزب العمال الكردستاني.
ولذلك فمن المؤكد أن تركيا لن تسحب قواتها في الوقت الحالي وهذا ما جاء على لسان أردوغان في كلمته أمام البرلمان، حيث قال إن قوات بلاده سيكون لها دور في عملية استعادة الموصل، مشيرًا إلى أنه لا يمكن لأي جهة منع ذلك.
وكان البرلمان التركي، جدد في وقتٍ ماض، تفويضه للحكومة التركية بإرسال قوات مسلحة خارج البلاد، للقيام بعمليات عسكرية في سوريا والعراق عند الضرورة، من أجل التصدي لأية هجمات محتملة قد تتعرض لها الدولة من أي تنظيمات إرهابية.
الموصل بالنسبة لإيران
جاء في صحيفة الغارديان أن إيران تسعى إلى تأمين طريق بري يصلها بالبحر الأبيض المتوسط، لكي يتسنى لها التحرك ونقل قطاعاتها العسكرية في حال دعت الحاجة إلى ذلك، ويبدأ هذا الطريق من مدينة بعقوبة (عاصمة محافظة ديالى وذات الأغلبية السنية) منها إلى بلدة الشرقاط التابعة لمحافظة صلاح الدين، وهي واحدة من أهم النقاط بالنسبة لإيران، حيث باتت المليشيات تسيطر على المدينة مع الجيش العراقي عقب تحريرها من قبضة تنظيم الدولة.
المحطة المقبلة للطريق البري ستكون سنجار، حيث تسعى قوات بدر للوصول إلى تلك النقطة، ومنها إلى تلعفر ذات الخليط الطائفي والعرقي، كما تمت الاستعانة بقوات حزب العمال الكردستاني التركي الذي ينشط في مناطق سنجار، بعد ذلك، تسعى إيران ليكون طريقها ممهدًا داخل سوريا عبر معبر ربيعة الحدودي، ومنها إلى مدينة القامشلي السورية وصولًا إلى حلب، وهو ما يفسر أسباب الحملة الدامية التي تشارك فيها إيران إلى جانب النظام السوري وروسيا ضد حلب.
وكلاء إيران في العراق يسعون إلى تنفيذ المخطط الإيراني عن طريق التغيير الديمغرافي التي تمارسه هذه القوات في عدد من المدن العراقية المنتزعة من قبضة تنظيم الدولة، وهذا ما يفسر تطرق أردوغان لضرورة منع التغيير الديمغرافي في أكثر من مناسبة، ففي لقائه على قناة “روتانا خليجية” وفي معرض جوابه عن سؤال بخصوص مشاركة تركيا في عمليات تحرير الموصل قال “إن الموصل للموصليين، ولا يحق لأي أحد أن يدخل إليها، وبعد تحرير الموصل من داعش، لن يبقى فيها سوى العرب السنة والتركمانيين والأكراد السنة”.
ووفقًا للمعطيات أعلاه فإن الموصل ستشهد حربًا إقليمية ومحلية واسعة النطاق بعد انتهاء عمليات التحرير التي لا يدري أحد متى ستنطلق!