بعدما كانت واحدة من أقوى الاقتصاديات في المنطقة بأسرها، وقبلة الباحثين عن المناخ الاستثماري الجيد من قبل رجال الأعمال في شتى بقاع الأرض، ها هو الاقتصاد السعودي يواجه أشرس أزمة له في العقد الأخير، حين يدفعه عجزه المالي، وتراجع احتياطيه النقدي، إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية ضد مواطنيه، ثم بعدها اللجوء نحو الاقتراض من البنوك الدولية في خطوة أربكت حسابات الكثيرين.
القرار السعودي باللجوء إلى الاقتراض لم يكن وليد اللحظة، بل نتيجة دراسات ومفاوضات استمرت أشهر عديدة، منذ الانهيار المفاجئ في سعر النفط إلى ما دون النصف، منذ عام ونصف تقريبًا، لتجد الحكومة السعودية نفسها في مأزق لا تحسد عليه، ما بين عجز شديد في الموازنة يتطلب المزيد من الإجراءات التقشفية، أو اللجوء إلى الاقتراض، وأيًا كان الخيار فإن أحلاهما مر، فهل تنجح السعودية في عبور كبوتها، أم ستكون هذه الخطوة هي بداية نهاية إمبراطورية النفط الأكبر في العالم؟
التقشف في مواجهة العجز
تسير عجلة الاقتصاد السعودي نحو الهاوية بصورة ملحوظة في الآونة الأخيرة جراء السقوط المدوي لسعر النفط والذي انحدر من 120 دولارًا للبرميل إلى ما دون 48 دولارًا، ما يعني ضربة موجعة للاقتصاد الذي تمثل مبيعات النفط الخام لديه أكثر من 85% من مصدر الدخل .
وبحسب مؤسسة “جدوى للاستثمار” وهي مؤسسة وطنية سعودية، فقد انخفضت الاحتياطات النقدية للمملكة في 2016 إلى أدنى مستوياتها منذ عدة أعوام، حيث وصلت إلى 562 مليار دولار بنهاية شهر أغسطس الماضي، مقارنة بـ 611.9 مليار دولار في 2015، و732مليار دولار في 2014.
كما أعلنت التقارير المالية الصادرة عن المملكة، تسجيل عجز قياس بموازنتها العامة بلغ 98 مليار دولار في ميزانية 2015، متوقعة تسجيل عجز إضافي بقيمة 87 مليارًا في موازنة 2016، مع توقعات أن يصل العجز الفعلي في نهاية 2016 إلى أكثر من 107 مليارات دولار.
انخفضت الاحتياطات النقدية للمملكة في 2016 إلى أدنى مستوياتها منذ عدة أعوام، حيث وصلت إلى 562 مليار دولار بنهاية شهر أغسطس الماضي
لم تكن أسعار النفط المتراجعة هي السبب الوحيد وراء الأزمة التي تعاني منها المملكة في السنوات الأخيرة، بالرغم من خسارته لأكثر من 60% من سعره، إلا أن هناك العديد من العوامل الأخرى، أبرزها الكلفة المادية الباهظة التي تكبدتها السعودية جراء دخولها كطرف أساسي في بعض النزاعات الإقليمية في مقدمتها الحرب في اليمن، والدعم المقدم للمعارضة السورية، كذلك المنح والمساعدات المقدمة لبعض دول المقدمة لضمان ولائها والذود عنها وقت الأزمات وفي مقدمتها مصر بعد الإطاحة بنظام محمد مرسي، وهو ما أرهق منظومتها الاقتصادية بشكل ملحوظ بدأت الرياض تجني ثماره مؤخرًا.
وفي أول رد فعل حيال تلك الأزمة لمحاولة سد العجز عبر تقليل النفقات، خفض مجلس الوزراء السعودي بقرار ملكي من مزايا موظفي الدولة البالغ عددهم مليون و250 ألف موظف من إجمالي عدد الموظفين السعوديين البالغ 5 ملايين و600 ألف موظف، حيث قرر إلغاء بعض العلاوات والبدلات والمكافآت، وخفض رواتب الوزراء ومن في مرتبتهم بنسبة 20%.
وتقضي الأوامر الملكية أيضًا بخفض بنسبة 15% للمبلغ الذي يصرف لأعضاء مجلس الشورى عن قيمة السيارة وما تتطلبه من قيادة وصيانة في فترة العضوية البالغة أربع سنوات، وخفض عدد من المكافآت والمزايا لجميع العاملين بالقطاع الحكومي من السعوديين وغير السعوديين.
وشملت القرارات الملكية وقف العلاوة السنوية في العام الهجري 1438 الذي يمتد من أكتوبر 2016 حتى سبتمبر 2017، ويطبق ذلك على كل العاملين بالقطاع الحكومي من السعوديين والوافدين، وعلى العاملين بالقطاع العسكري باستثناء الجنود المشاركين في العمليات قرب الحدود الجنوبية وخارج البلاد، كما أمر الملك أيضًا بخفض الحد الأعلى لبدل ساعات العمل الإضافي إلى 25% من الراتب الأساسي في الأيام العادية، وإلى 50% في أيام العطلات الرسمية والأعياد، كما سيتم خفض إجمالي فترات الانتداب لموظفي الدولة ليصبح ثلاثين يومًا في السنة المالية الواحدة، مع وقف صرف بدل الانتقال الشهري للموظف خلال فترة الإجازة.
تخفيض رواتب أعضاء مجلس الشورى السعودي أول إجراءات التقشف
مرحلة ما بعد النفط
أثارت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تتعرض لها المملكة إزعاج الإدارة الحاكمة، ما دفعها للتفكير خارج الصندوق قليلاً، في محاولة للتقليل من الاعتماد على النفط كمورد وحيد للاقتصاد السعودي لا سيما في ظل ما يتعرض له من هزات تلو الأخرى، وهو ما تجسد في إعلان شركة أرامكو السعودية عن نيتها في شراء مصفى في ولاية تكساس الأمريكية، والذي يقع على ساحل خليج المكسيك قرب ميناء هيوستن.
وبالرغم من عدم الإعلان صراحة عن أسباب لجوء الشركة السعودية لشراء هذا المصفى إلا أن محللين رأوا أن هذه الخطوة تأتي في إطار المساعي التي يبذلها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لتحديث المملكة وتنويع اقتصادها من أجل تقليل الاعتماد على تصدير النفط.
أثارت الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تتعرض لها المملكة إزعاج الإدارة الحاكمة، ما دفعها للتفكير خارج الصندوق قليلاً، في محاولة للتقليل من الاعتماد على النفط كمورد وحيد للاقتصاد السعودي
جان فرانسوا سيزنيك الباحث المختص بقطاع الطاقة في مجلس الأطلنطي رجّح أن تكون هذه الخطوة تعبيرًا عن إدراك القيادة السعودية حاجة المملكة إلى بناء قاعدة اقتصادية أوسع، لا سيما في هذا الوقت خصيصًا والذي يشهد تراجعًا غير مسبوق في أسعار النفط، إضافة إلى بواعث القلق من التغير المناخي.
الباحث في تصريحات له نقلتها الإذاعة العامة الوطنية الأمريكية أشار إلى أن السعودية تريد أن تكون مستعدة “لحقبة ما بعد النفط”، مضيفًا أن القادة السعوديين يريدون تنويع الاقتصاد الآن “فهم لا يستطيعون الانتظار بل يحتاجون إلى تصنيع الكثير من المنتجات المختلفة ويريدون أن يحققوا ذلك في غضون السنوات العشر إلى الخمس عشرة سنة المقبلة”، علمًا بأن المصفى المزمع شراؤه من قبل الشركة السعودية معروف بإنتاجه آلاف المشتقات مثل البتروكيماويات، ومنتجات البلاستيك إلى جانب البنزين والديزل.
وفي رأي آخر حول دوافع شركة أرامكو السعودية لشراء مصافٍ في مختلف مناطق العالم، نوه جيم كراين الباحث المختص بقطاع الطاقة في معهد بيكر في جامعة رايز في هيوستن بأن الشركة تهدف إلى تأمين زبائن لنفطها الخام، مضيفًا أن الشركة تسعى لشراء مصافٍ في آسيا، حيث من المتوقع أن يزداد الطلب على النفط في بلدان مثل الصين والهند وفيتنام، لكن الأمر يختلف في الولايات المتحدة حيث هبط استيراد النفط الخام السعودي خلال السنوات الماضية لأسباب منها انتعاش صناعة النفط الصخري فيها ودخول مصدرين آخرين للسوق الأمريكية وخاصة الكنديين.
ويعتبر كراين أن من الطرق الكفيلة بالحفاظ على النفوذ السعودي في الولايات المتحدة امتلاك قدرات تكريرية فيها من خلال شراء مصاف والتأكد من استيراد هذه المصافي للنفط الخام السعودي وليس النفط الكندي أو المكسيكي أو الفنزويلي.
شركة أرامكو السعودية والبحث عن فرص استثمارية خارج البلاد
السعودية تقترض
من الواضح أن إرهاصات النوايا السعودية نحو الاقتراض الدولي بدأت منذ شهور عدة، ففي مارس الماضي ناشدت مؤسسة النقد العربي السعودي (المصرف المركزي)، مجموعة من البنوك العالمية بإعداد دراسة حول كيفية الحصول على قرض دولي، في أول اقتراض سعودي ضخم من الخارج منذ أكثر من عشر سنوات، وذلك في محاولة لسد العجز الكبير في ميزانية هذا العام.
وبالرغم من عدم تحديد قيمة القرض في الدراسة التي طلبها البنك المركزي السعودي من البنوك الدولية، إلا أن “وكالة رويترز” وبعض المصادر الإعلامية الأخرى قد نسبت لمصادر سعودية، فضلت عدم الكشف عن أسمائها، أنها تعتقد أن “المبلغ المطلوب نحو 10 مليارات دولار أو أكثر”.
مؤسسة النقد ( البنك المركزي السعودي) أبلغت المصارف اعتزامها طرح ما يتراوح بين 15 و20 مليار ريال شهريًا (4 مليارات و5.3 مليارات دولار) حتى نهاية 2016
وبعد مرور خمسة أشهر تقريبًا على طلب إعداد دراسة عن القرض الدولي، وفي أغسطس الماضي، خرجت بعض الأنباء حول عزم “المركزي” السعودي اقتراض ما يتراوح بين 90 و100 مليار ريال (24 و27 مليار دولار) خلال الأشهر الخمسة المتبقية من العام الحالي، من خلال سندات على آجال زمنية مختلفة، بغرض سد العجز المتوقع في موازنة الدولة.
وحسبما أشار مصدر فضل عدم ذكر اسمه كما قالت “رويترز” فإن مؤسسة النقد (البنك المركزي السعودي) أبلغت المصارف اعتزامها طرح ما يتراوح بين 15 و20 مليار ريال شهرياً (4 مليارات و5.3 مليارات دولار) حتى نهاية 2016، مشيرًا إلى أن آجال استحقاق هذه السندات تتراوح بين 7 و10 أعوام.
أما عن هوية البنوك الدولية المزمع الاقتراض السعودي منها، فبالرغم من عدم الكشف عنها إلا أنه وحسب آراء الخبراء والمحللين فسوف تتصدر بنوك “جي بي مورجان” – الذي يمتلك سنوات طويلة من التجارب والمعاملات مع شركة النفط السعودية “أرامكو”- ومصرف HSBC وبنك طوكيو – ميتسوبيشي، قائمة هذه البنوك، وقدرت مساهمة هذه المصارف بنحو 1.3 مليار دولار، فيما ستوفر بنوك أخرى بقية القرض.
واليوم وبعد دراسة دامت سبعة أشهر أعلنت السعودية عن بدء مباحثات مع مستثمرين محتملين لإطلاق طرح للسندات الدولية بالدولار، في أول تحرك رسمي نحو اقتراض المملكة من السوق الدولية.
وكالة الأنباء السعودية (واس) قالت: إن وزارة المالية أنجزت “إنشاء برنامج دولي لإصدار أدوات الدين (…) وقامت بتعيين عدد من البنوك الاستثمارية العالمية والمحلية لتنسيق سلسلة من الاجتماعات مع مستثمري أدوات الدين”.
محافظ مؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) فهد المبارك
وأضافت الوكالة أن هذه الاجتماعات ستنطلق اليوم الثلاثاء، مشيرة إلى أن الوزارة “قامت بتكليف هذه البنوك الاستثمارية بإدارة وترتيب أول طرح للسندات الدولية المقومة بالدولار الأمريكي مندرجة تحت هذا البرنامج”، ملفتة أن “طرح تلك السندات سيتم حسب ظروف السوق”.
العديد من التساؤلات فرضت نفسها عقب الإعلان عن نية المملكة في الاقتراض الدولي، أبرزها ما طرحه “نون بوست” على قرائه والذي كان يعنون بـ: بداية اقتراض #السعودية من الخارج: برأيك، هل ينذر ذلك بانهيار الإمبراطورية النفطية الأكبر؟.. ويمكنكم المشاركة في التصويت من هنا
بداية اقتراض #السعودية من الخارج: برأيك، هل ينذر ذلك بانهيار الإمبراطورية النفطية الأكبر؟
— نون بوست (@NoonPost) October 11, 2016
وفي سياق آخر يبدو أن سعي السعودية للحصول على قرض دولي دفعها بالتوازي إلى التفكير في إقرار حزمة جديدة من التقشف، وهو ما تجسد في قرار مجلس الوزراء السعودي أمس الإثنين حين فوّض وزير المالية بالتباحث في إطار لجنة التعاون المالي والاقتصادي لدول الخليج العربية في شأن مشروع الاتفاقية الموحدة لضريبة القيمة المضافة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ومشروع الاتفاقية الموحدة للضريبة الانتقائية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتوقيع عليهما، علمًا بأن دول المجلس قد أقرت في وقت سابق ضريبة موحدة على القيمة المضافة قدرها 5%، حسبما أعلنت وكالة الأنباء السعودية الرسمية.
ويبقى السؤال: هل تدخل المملكة العربية السعودية قائمة الدول المقترضة بعدما كانت بالأمس مصدر تمويل وإقراض العديد من الدول الأخرى؟ وما السيناريوهات التقشفية لما بعد هذه الخطوة سواء على السعوديين أو الأجانب المقيمين بها؟ وهل ستنعكس هذه الأزمة الاقتصادية الطاحنة على التزامات المملكة تجاه بعض النظم المجاورة وفي مقدمتها مصر؟ ثم السؤال الأصعب: هل تدفع هذه الأزمة بلاد الحرمين إلى إعادة النظر بحربها في اليمن وسوريا؟