يدور منذ عقود سؤال مهم حول قضية شائكة ومثيرة للجدل تتعلق بالدوافع الحقيقية وراء الدعم الإيراني لفصائل المقاومة الفلسطينية؟ وماهية الظروف التي عملت على تحفيز هذا الدعم واستمراره لفترة طويلة، وإن كان يخضع لمنحنيات تصعد حيناً وتهبط حيناً آخر؟
وما دمنا بصدد الحديث عن السياسية الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية في زمن رئاسة هاشمي رفسنجاني، فمن المناسب إفراد العلاقة مع فصائل المقاومة الفلسطينية بمقال خاص وذلك لأنها شهدت في عهده الانطلاقة الرسمية لها، وذلك من خلال توجيه دعوة رسمية لحركة حماس وباقي فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل حضور مؤتمر الرافضين لعملية السلام، والذي عقد في طهران تحت اسم “المؤتمر الدولي لدعم الثورة الإسلامية في فلسطين” في اكتوبر من العام 1991، والذي جاء كردة فعل لمؤتمر مدريد.
وبداية، ومن الأهمية بمكان الإشارة بشكل موجز إلى البيئة الدولية والإقليمية التي ترافقت مع بداية العلاقة بين إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية. فعلى الصعيد الدولي كان تفكك الاتحاد السوفيتي يدفع النظام العالمي للتوجه إلى شكل جديد يتسم بطابع الأحادية القطبية تتخذ فيه الولايات المتحدة الأمريكية موقع القوة الكبرى الوحيدة القادرة على التصرف بشيء من الحرية خارج حدودها مستخدمة قدراتها العسكرية والمالية الهائلة، وقد كانت أولى تمظهرات هذه الحالة الجديدة التحالف الدولي الذي تزعمته الولايات المتحدة الأمريكية وأجبر صدام حسين على الانسحاب من الكويت، وما تلى ذلك من سياسة الاحتواء والحصار التي أضعفت بغداد وأصابتها بمقتل.
كان لهذا التحول في النظام الدولي، والتنظير الذي ساقه الرئيس الأسبق جورج بوش الأب في حينها حول النظام الدولي الجديد انعكاس على الواقع الإقليمي وبناه السياسية. فقد شجعت هذه البيئة الدولية المتغيرة، والنجاح السريع الذي حققته قوات التحالف الدولي في الكويت إلى الدفع باتجاه إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد قائم على دمج إسرائي في محيطها العربي من خلال عملية السلام والتي تتطلبت في حينها استحقاقين اثنين هما: أولا، التصالح مع الفلسطينيين ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية. وثانيا، عزل إيران وشيطنتها؛ فالدخول في شراكة مع العرب كان يتطلب أن يتم خلق عدو مشترك؛ وهنا تمثل هذا العدو بإيران وسياستها الثورية الثيوقراطية.
وهكذا فقد تشكل مشورع إقليمي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ويتألف من حلفائها العرب جنباً إلى جنب مع إسرائيل. في المقابل تشكل -وكردة فعل– مشروع مضاد، يقوم على فكرة مقاومة المشورع الأول وتخريبه، ويتألف من إيران وكل من حلفائها من الدول العربية (كسوريا)، وفصائل المقاومة الفلسطينية الرافضة لمشروع التسوية.
وهكذا وجدت كل من إيران وفصائل المقاومة الفلسطينية نفسيهما في خندق واحد في مواجهة المشروع الأمريكي – الإسرائيلي ليس بدافع ذاتي وحسب بل بدافع موضوعي أيضا؛ أملته التطورات السياسية على الصعيدين الإقليمي والدولي، وقد تبدى ذلك بوضوح من خلال اختلاف الزواية التي نظر من خلالها كل فريق للهدف الأخير المراد تحقيقه من المشروع الأمريكي للسلام في المنطقة؛ فبينما رأت فيه إيران تهديداً لمصالحها الإقليمية وأمنها القومي من خلال سياسة العزل والاحتواء التي تبنتها الإدارة الأمريكية ضدها؛ رأت فيه الفصائل الفلسطينية تهديداً للحقوق الوطنية الفلسطينية من خلال تفريطها بالثوابت الوطنية المتمثلة بالأرض وحق العودة والقدس.
بعبارة أخرى، قامت العلاقة بين إيران من جهة وبين فصائل المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى على اعتبارات سياسية في المقام الأول، فقد سعى كل طرف من خلال العلاقة المتبادلة بينهما إلى تعزيز مصالحته القومية، ودفع خطر مشترك. احتاجت إيران لمخلب متقدم في قلب إسرائيل من أجل التأثير عليها، وإجبارها على التفكير مرتين إذا ما أرادت أن تتبنى سياسة خشنة ضدها؛ وهذا ما وفرته فصائل المقاومة الفلسطينية. في حين أراد الفلسطينيون السلاح والمال والتدريب لمجابهة مشروع التسوية وإفشال مخططات التهويد والاستيطان؛ وهذا ما وفرته طهران.
ما تقدم الحديث عنه لا يعني أبداً أن الأيديولوجية الدينية كانت خارج المعادلة، فلطالما حظيت الايديولوجية بمكانه خاصة في الحسابات الإيرانية، ولكن بوصفها أداة سياسية لا بوصفها استراتيجيا بحد ذاتها خصوصاً في الأوقات التي تتعرض فيها المصالح الحيوية الإيرانية للتهديد. وقد وظفت إيران الأيديولوجية بشكل فعَّال مع فصائل المقاومة الفلسطينية حيث استطاعت أن تتقارب بشكل كبير مع الفصائل الإسلامية على حساب غيرها وذلك نظراً للتشارك فيما بينهما في المنطلقات الإسلامية العامة التي تتعلق بالقضية الفلسطينية والتي تدور حول قداسة الأرض ووجوب تحريرها كلها من العدو الصهويني.
وعند الحديث عن المنطلقات الأيديولوجية تبرز الإشكالية بشكل واضح عندما يتم تناول العلاقة التي تجمع كل من إيران بحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية على وجه الخصوص وليس حركة حماس، فالشيء الذي لا يقبل الجدال هو أن حركة حماس تمثل النسخة الفلسطينية من حركة الإخوان المسلمين، ويعود زمن حضورها في الساحة الفلسطينية إلى عقود سبقت الثورة الإسلامية في إيران، ولذلك فإن أي ادعاء حول دور إيران في إنشاء حركة حماس لا يعدو عن كونه مجرد وهم.
أما فيما يخص حركة الجهاد الإسلامي فالأمر مختلف بعض الشيء، فالشكل التنظيمي والعملياتي للحركة أخذ بالتبلور في الداخل الفلسطيني مباشرة بعيد نجاح الثورة الإسلامية وهو الأمر الذي دفع البعض إلى محاولة ربط إنشاء الحركة بالجهود الإيرانية لتصدير الثورة من خلال إنشاء جماعات موالية لها في فلسطين على غرار “حزب الله” في لبنان. ومما زاد الأمر التباساً هو الاعجاب الكبير الذي أبداه مؤسس الحركة فتحي الشقاقي بافكار الإمام الخميني حول الحكومة الإسلامية، والمنهج الإسلامي الذي لا بدَّ من اتباعه لمواجه الإمبريالية الغربية والذي يقوم بالأساس على عنصر الجهاد. وفي الحقيقية، الأمر لم يقتصر على ذلك؛ فالشقاقي أخذ يستخدم في خطابه بعض المفردات التي كان النظام الإيراني يستخدمها من قبيل “قوى الاستكبار”، “والشيطان الأكبر” في نعت الولايات المتحدة. وقد وصل تأثر الشقاقي بفكر الخميني ذروته عندما ألف كتاباً بعنوان “الخميني .. الحل الإسلامي والبديل” والذي يعتبر من أوائل الكتب التي تحدثت عن الثورة الإسلامية في إيران.
ولكن يبقى السؤال هنا قائما حول إذا ما كان تأثر الشقاقي (ومن بعده حركة الجهاد الإسلامي) بالخميني والثورة الإسلامية قد توقف عند مستوى تبني المنهج الثوري والخطاب الاعلامي فقط أم تعداه إلى مستوى العقيدة الدينية والنظام السياسي؟ هذا بالضبط ما سوف نتناوله في المقال اللاحق من سلسلة “إيران والقضية الفلسطينية”.