لم نعد نرى علامات الاستغراب على وجوه المصريين عند سماع سعر الدولار في السوق السوداء، ومع استمرار القفزات المتتالية وكسر سعر الدولار لكل الحواجز، بات تعامل المصريين مع الأزمة طبقًا لنظرية “ضربوا الأعور على عينه قال خربانة خربانة”، هكذا هو الوضع الآن فلم يعد سعر الدولار يعني شيئًا للمصريين سوى أنه تجاره مربحة ومكاسبها مضمونة وسريعة.
أزمة سعر الصرف في مصر لم تعد تخص المستوردين ولا حتى رجال الأعمال، بل إن الحكومات المصرية المتعاقبة استطاعت خلال السنوات الأخيرة جذب انتباه الصغير والكبير للأزمة وصنعت أزمات من بوابة هذه الأزمة، والجميع مصر على المواصلة في طريق الأزمات دون النظر إلى العواقب بدعوى “خربانة خربانة”، تعويم الجنيه خراب هذه حقيقة، لكن أيضًا زحف المصريين نحو الدولار بهذا الشكل خراب لا يقل عن الأول، ولكن ما الحل؟!
كان هذا سؤالي لرجل كان على رأس السياسة المالية في مصر منذ وقت قريب، ورغم أن الإجابة كانت طويلة إلى حد ما ولكنها كانت فقيرة بالمعلومات، حيث أقر الرجل أن الحصول عليها هذه الأيام بات مهمة مستحيلة، ولكنه أخيرًا خرج من طوق الكلام الإعلامي المنمق والمحسوب ليقول “يا أحمد أوعى تقولي إن الدولار هيقف عند حد معين لا 15 ولا 16 كل البديهيات الاقتصادية بتقول إن اللي هيوقف الدولار هو زيادة المعروض منه وزي ما أنت شايف المعروض بيقل والطلب بيزيد وماتقولش تعويم ولا غيرة دا كلام مالوش علاقة بالأزمة”.
في الحقيقة لم تكن الإجابة صادمة بالنسبة إليّ، حيث إن ما ذكره الرجل الذي فضل أن تكون المحادثة خاصة، وليست إعلامية، كلامًا بديهيًا اقتصاديًا ولكن البعض يريد أن يصنع بديهيات جديدة مرسومة على مقاس الظروف الحالية وهذه البديهيات لن تغير في الوضع شيئًا للأسف، ولكن هي فعلاً “خربانة خربانة”؟
بعد أن انتهت محادثتي مع الرجل جاءتني الصدمة من مصدر آخر، وهو بنك الاستثمار “أرقام كابيتال” الإماراتي الذي أصدر تقريرًا، أمس، رجح فيه أن يتبنى البنك المركزي تخفيضًا عنيفًا للجنيه، ليهبط بالسعر الرسمي لمستوى التعاملات في السوق السوداء، في مدى زمنى يتراوح بين الأسبوع الجاري ونهاية أكتوبر، متوقعًا التقليل من حدة أزمة نقص العملة الصعبة التي تواجهها.
هذه التوقعات التي أصدرها “أرقام” لا تختلف كثيرًا عن التوقعات التي أصدرها “بلتون” في وقت سابق وكل هذه التوقعات لا تخرج عن نطاق التوقعات غير المعتمدة على أسس علمية ومعلومات دقيقة، فالمعلومات الخاصة بهذا الأمر ليست متوفرة بالمرة، لكن “أرقام كابيتال” اعتمد في تقريره الذي أصدره بعنوان “المحطة القادمة: تخفيض عنيف للجنيه وتقليص لدعم الوقود” على أن تخفيض العملة وتقليص الدعم من الشروط الأساسية لنجاح طرح السندات الدولارية التي تعتزم الحكومة تسويقها في الأسواق الدولية، بقيمة 3 مليارات دولار، في نهاية أكتوبر الجاري.
التقرير الذي نقلته النسخة المصرية من وكالة أنباء رويترز “أصوات مصرية” وضع البنك المركزي أمام سيناريوهين لتخفيض قيمة الجنيه، الأول يقوم على تخفيض العملة المحلية مبدئيًا بنسبة 35% على الأقل ليصل سعرها الرسمي لحدود 12 جنيهًا للدولار، مقابل 8.78 حاليًا، ثم تحريرها بشكل تدريجي خلال الأيام أو الأسابيع التالية، ويتطلب هذا البديل ضخ عدة مليارات من الدولارات لإعطاء الثقة للسوق في القدرة على تلبية الاحتياجات الحقيقية من العملة الصعبة، خاصة خلال الشهر الأول من تخفيض العملة.
لكن بحسب “أرقام” هذا السيناريو غير مفضل لعدم قدرة المركزي على ضخ كميات كبيرة من العملة الصعبة في السوق، حيث إن احتياطي النقد الأجنبي بلغ في نهاية سبتمبر الماضي نحو 19.59 مليار دولار.
السيناريو الثاني والمفضل لدى بنك الاستثمار ويتوقع حدوثه، هو تخفيض قيمة الجنيه بنسبة 58% ليوجه ضربة للسوق السوداء، حيث سيشهد السعر الرسمي تحركات صغيرة بعد تحقق هذا السيناريو لتأكيد مرونة سعر الصرف وقدرته على الحركة دون حدوث فوضى في السوق، موضحًا أن جزءًا من ارتفاع سعر الصرف في السوق السوداء ناتج عن المضاربات، وليس تعبيرًا حقيقيًا عن حجم الطلب، بحسب تحليلات لبنك الإمارات.
تقرير بنك الاستثمار وإن كان ظاهريًا لا يعتمد على معلومات وبيانات حول الأزمة تمكنه من توقعات حقيقية، إلا أنه اعتمد بشكل أو بآخر على نظرية “خربانة خربانة”، ويبدو أنها كذلك بالفعل، فالوضع الاقتصادي غير مبشر والإدارة الاقتصادية لا يبدو عليها أي ملامح للحكمة، وكل يوم يمر على البلاد نخسر جميعًا – دولة ومواطن ومستثمر – سمعه وقيمة ومظهر، نخسر كل شيء، والغريب أنه مع كل هذا نجد الحكومة تلهث خلف النقد الدولي الذي لن يزيد الخرابه إلا خرابًا.