لا تزال الأخبار في شام إف إم تقرأ كأنها حررت لصحيفة وليس لإذاعة، حتى اليوم لا تملك الإذاعة نصًا مكتوبًا خصيصًا لها، ولا تزال شاشتها الفضائية ثابتة تقاطعها صور لمناطق من سوريا مع جملة فيها من الاستفزاز ما يكفي لأن يوجه أي مشاهد شتيمة لها: “سوريا جنة الله على الأرض”، ناهيك عن خطها السياسي ونوعية ضيوفها، ومصطلحات الأخبار فيها، حيث قتلت في شريطها الإخباري أكثر من مليون “إرهابي” حتى الآن وسمتهم بالاسم الثلاثي، سعوديون وليبيون وتوانسة وأفغان، سقطوا عبر شاشتها من الشهر الأول للثورة التي تحولت حربًا في البلاد.
لكنها مع كل هذا وغيره، حلت في المرتبة الثانية في دراسة أعدتها منظمات أوروبية حول جمهور الإعلام في سوريا، لتأتي مباشرة بعد الجزيرة وقبل الميادين، من حيث متابعة السوريين لوسائل الإعلام.
المفارقة الكبيرة، أن المؤسسات التي أعدت الدراسة، وهي ثماني مؤسسات مدعومة من الاتحاد الأوروبي، هي ذاتها قدمت ولا تزال دعمًا ماليا وتدريبًا إدرايًا وفنيًا وتقنيًا، لمؤسسات ووسائل الإعلام السوري المعارضة، التي تسمى تحببًا وأملًا بـ “الإعلام البديل”، الذي ظهر منذ عام 2011.
المُطلع ولو قليلًا على غرف الأخبار واستديوهات الإذاعات السورية التي تنتمي لهذا الإعلام، لن ترسم على وجهه تلك الصدمة، حين يعلم أن شام إف إم لا تزال مصدرًا هامًا للمعلومات بالنسبة للسوريين – بحسب الدراسة – في حين أن كل إذاعات الإعلام البديل التي أستطيع أن أحصي منها أكثر من عشرين، كادت تغيب عن تلك الدراسة.
لم تعرف شام إف إم طوال عمرها القصير نسبيًا (تسع سنوات) عاملًا واحدًا في غرف التحرير والأخبار، أتى من أجل المال، حتى أولائك الذين لا يملكون أي موهبة، ولا الحد الأدنى من متطلبات العمل الإذاعي، كانوا مندفعين كأكبر الموهوبين على الأرض، هم يحترمون الاستوديو ويحلمون ولو عبثًا بالشهرة والنجاح، حتى في الأيام الاولى لولادة الإذاعة عندما لم تكن تبث الأخبار بعد، هذا طبعًا على عكس العاملين في الإذعات السورية البديلة الذين سيعترفون لك سرًا، بأنهم يعملون في هذه المهنة من أجل المال فقط، وفي أول فرصة سيلقون أنفسهم في أول بلم، ويتجهون إلى أوروبا، وهم في كثير من الحالات وجدوا أنفسهم فجأة في استوديو أمام نص ومايكروفون، بعضهم كان صحفيًا مبتدئًا وبعضهم ناشطًا وآخرون لم يجدوا فرص عمل أخرى.
حصلت إذاعات الإعلام البديل، على آلاف الدولارت طوال سنوات خلت، فالدعم المالي لم يتوقف عن بعضها إلا في الأشهر القيلة الماضية، هذا فضلًا عن دورات تدريبية في فنادق من فئات الخمس والأربع نجوم، من صحفيين عرب وأوروبين، صرفت الملايين، من أجل خلق ولادة جديدة للإعلام السوري، النتيجة كانت أننا أمام وسائل لا تشبه إلا البسطات في بازارات إسطنبول، مع صراع قد يصل إلى حد الاقتتال على الممول الذي يكفي أن يلمح لما يدور في رأسه، حتى تتحول فجأة كافة الإذاعات إلى “إذاعات مجتمعية” مثلًا، أو تصبح أكثر الفترات استماعًا هي بين السادسة والثامنة صباحًا لأن الممول قال ذلك، أو تختفي الأخبار من البث وتظهر البرامج الخفيفة غير المتقنة، لأن الممول والداعم يشعر أن السوريين باتوا يحتاجون للترفيه تحت البراميل، أكثر من حاجتهم لأي شيء آخر.
هذا لا يعني أن شام إف إم لم تحصل في المقابل على مبالغ ضخمة كي تستمر مع توقف سوق الإعلانات في البلاد، وجفاف تمويلها العائلي الأصلي، لكن كادرها وطوال سنوات لم يتلق أي تدريب حقيقي، سوى ذلك الذي قدمه العاملون الأقدم للعاملين الجدد، وإن كان سرها الأكبر هو في إدارتها، المؤمنة بما تفعل والصادقة مع نفسها والمتوافقة مع معتقدها، حتى وإن كان هذا المعتقد يخدم نظامًا سياسيًا أكثر منه موجهًا نحو شعب شرد وقتل وعذب واضطهد.
تجلس شام إف إم في لون رمادي من حيث التعريف، فهي لا تلفزيون ولا إذاعة، ما جعلها خارج اهتمام النظام والمعارضة في بادئ الثورة، لأنها ليست بتليفزيون حقيقي، موقعها هذا سمح لها في عام 2011، أن تستضيف شخصيات مثل محمد حبش ومازن درويش وعبد الكريم ريحاوي وحسن عبد العظيم، وهي أسماء من المستحيل أن يقال حتى اسمها على بقية وسائل الإعلام التابعة للنظام، إلا لكي تشتم.
بينما تجلس إذاعات الإعلام البديل، في لون رمادي آخر، فلا هي صفحة فيسبوك، ولا هي إذاعة إلكترونية، وهي وإن كانت ضمن اهتمام المعارضة والنظام أول نشوئها، إلا أنها سرعان ما خرجت من كل المعادلة الإعلامية السورية لأسباب يطول شرحها، ومع هذا فقد رضيت بواقعها الجديد، واكتفت بمراقبة وجه الممول وردود أفعاله.
شام إف إم تبث ذلك الخبر الذي يصب سياسيًا في مصلحة النظام السياسية والعسكرية، لكنه في ذات الوقت يصنف في التلفزيون السوري مثلاً على أنه ممنوع من البث، فأول من يعلن تساقط القذائف على دمشق هي شام إف إم، وأول من يستقبل اتصالات مواطنين غاضبين من تجاهل النظام لجنوده في تدمر أو حمص أو ريف اللاذقية هي شام إف إم، وأول من يلعن “الانسحاب التكتيكي” لقوات النظام من أي منطقة هي شام إف إم، مساحة ضيقة للغاية تلعب فيها الإذاعة وتنجح في خلق سمعة خاصة لها، بين سوريين يوالون النظام ويرونها “جريئة وسباقة وصادقة”.
تبث إذعات الإعلام البديل أخبار التنسيقيات والمواقع الصحفية التي تنتمي إلى نفس المدرسة، فتكاد تكون تعيد إنتاج المقروء ليكون مسموعًا، فلا جديد على الهواء قد يفاجئ المستمع، هي ذات الأخبار التي سبق نشرها، تعاد وتعاد، مع مصطلحات تحكم على المستمع وتقوده إلى طريق في اتجاه واحد، مع أنها من المفترض ولدت لتعيد تشكيل الهواء، وتخلق إعلامًا حقيقيًا يقدم للسوري المعلومة من دون أي تدخل “على الأقل هذا ما تقوله في شروحها التي ترسلها إلى الممولين”.
في الاستثناء السوري، تمكنت شام إف إم، من خلق مساحة لها حتى لدى المشاهد المعارض للنظام السوري، فقربها من مصادر المعلومات أهلها لذلك، إذ تتلقى الإذاعة اتصالات مباشرة من مسؤولين حكوميين، غير سياسيين، يطلبون فيها بث أخبار الكهرباء والماء والخبز والطاقة والطرق، عبر شريطها الأحمر في رأس شاشتها.
مصادر إذاعات الإعلام السوري البديل منعدمة تقريبًا، فهي تشبه الواقع السياسي والأمني السيء والمتردي في كل المناطق الواقعة تحت سيطرة المعارضة السورية، فالخوف وقلة الحيلة، وتضارب المصالح والبنادق، يجعل اللامصدر هو سيد غرفة الأخبار، ناهيك عن الموقع الجغرافي الذي يشل غرف التحرير عن القيام بكامل مهماتها.
من الظلم فعلًا المقارنة بين إمكانيات وسائل إعلام تعمل في دمشق، ووسائل إعلام تبث من خارج البلاد، لكن المقارنة واجبة حين يكون الموضوع هو العقليات والهمم والنوايا.
انظر حال الإذاعات في الإعلام السوري البديل، والذي لا يزال بعضه يصر على أن يسمي نفسه “إعلامًا ثوريًا” وكأننا لا زلنا في ألمانيا هتلر أو إيطاليا موسليني أو سوريا الأسد حتى، إذ لا يجوز للإعلام إلا أن يكون إعلامًا وفقط، وأي تعبير مضاف إليه يجرده من رسالته وجمهوره ومهتمه، شخصيًا لا أفهم إلا تعبيرًا واحدًا، الإعلام هو إعلام فقط، ولا تبرر هفواته تحت أي مسمى كان، وإن كان هناك إعلام حزبي أو ثوري أو مناطقي أو أو، فإن كل التجارب أكدت أن أي حشر وقولبة للإعلام كانت هلاكًا له في الماضي، فكيف اليوم.