ما بين “اعرف حجمك” و”كل الخيارات مفتوحة” باتت العلاقات التركية العراقية على صفيح ساخن، جراء التواجد العسكري التركي في معسكر “بعشيقة” بالقرب من الموصل، شمالي العراق، حيث المطالب العراقية بالانسحاب فورًا، في مقابل التأكيد التركي على أن التواجد العسكري جاء بالاتفاق مع الحكومة العراقية ورئيس إقليم كردستان.
تراشق إعلامي، وتصعيد سياسي، وتهديد بسحب السفراء، والتلويح بمواجهات عسكرية، تلك كانت أبرز ملامح النفق المسدود الذي وصلت إليه العلاقات بين البلدين خلال الأيام القليلة الماضية، فما أسباب هذا التوتر؟ وماذا عن الدور الإيراني في هذا التصعيد؟
العراق يصعد
لم يكن التواجد التركي في العراق، حديث العهد كما يردد البعض، بل يعود إلى نهاية الثمانينات من القرن الماضي، على إثر الاتفاق الذي وقعته حكومة الرئيس السابق صدام حسين مع الحكومة التركية، والذي يسمح للقوات التركية بالتوغل داخل الأراضي العراقية لعدة كيلومترات لملاحقة “حزب العمال الكردستاني”.
بينما تعود بداية الأزمة الحقيقية بين تركيا والعراق إلى ديسمبر 2015، حين تم الاتفاق مع محافظ مدينة نينوي، أثيل النجيفي، وبالتنسيق مع وزارة الدفاع العراقية، على نشر 150 جنديًا تركيًا برفقة 25 دبابة في منطقة بعشيقة القريبة من مدينة الموصل العراقية، لمواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي، وتدريب القوات التركية إضافة إلى عناصر تركمانية وعربية وكردية.
وبالرغم من التنسيق المسبق بين الحكومتين التركية والعراقية على نشر قوات تركية في “بعشيقة” إلا أن الحكومة العراقية مؤخرًا – وبعد الإعلان عن اقتراب معركة الموصل – تخلت عن هذا الالتزام، وأعلنت رفضها للوجود العسكري التركي على أراضيها، حيث صورت الأمر كونه خرقًا للسيادة العراقية، وانتهاكًا للأعراف الدولية، وهو ما جاء على لسان الرئيس العراقي فؤاد معصوم، ورئيس حكومته حيدر العبادي، والذي هدد باستخدام كل الخيارات في حال عدم انسحاب القوات التركية من الأراضي العراقية، متحديًا الحكومة التركية بإبراز أي دليل حول التنسيق المسبق بين الجانبين التركي والعراقي بشأن دخول القوات التركية إلى العراق.
تعود بداية الأزمة الحقيقية بين تركيا والعراق إلى ديسمبر 2015، حين تم الاتفاق على نشر 150 جنديًا تركيًا برفقة 25 دبابة في منطقة بعشيقة القريبة من مدينة الموصل العراقية
يذكر أن مجلس النواب العراقي في جلسته المنعقدة في 9 ديسمبر 2015 صوّت على قرار يدين دخول القوات التركية العسكرية إلى العراق، كما دعا حينها حاكم الزاملي رئيس لجنة الأمن والدفاع بالمجلس، القوات الجوية العراقية إلى قصف مواقع القوات التركية الموجودة حاليًا في مدينة الموصل، وقال إن دخول القوات التركية إلى مدينة الموصل شمالي العراق يعد بمثابة جس نبض لدخول قوات من دول أخرى لتكون بديلاً عن “داعش”، مطالبًا القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء، حيدر العبادي، بإصدار أوامر للقوات الجوية وطيران الجيش بضرب هذه القوات في حال رفضها الانسحاب، مشيرًا إلى أن هذه القوات دخلت بموافقة حكومة إقليم كردستان، وليس بموافقة الحكومة المركزية.
حيدر العبادي رئيس الحكومة العراقية
تركيا ترد
(..أعرف حدودك.. الجيش التركي لن يأخذ الأوامر من العراق بشأن معسكر بعشيقة)، بهذه الكلمات خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ردًا على تصريحاته الأخيرة، التي أعتبرها أردوغان خروجًا عن النص.
الرئيس التركي تابع في حديثه للعبادي: أنت لست نظيري، ولست بنفس مستواي، أنت لست مثلي، لا يعنينا صراخك من العراق، سنمضي في طريقنا، مضيفًا: العراق كان لديه طلبات مُعينة مننا بشأن بناء قاعدة بعشيقة خلال فترة داوود أوغلو، ولدينا سجلات بذلك، وسيتم نشرها عبر قنوات التليفزيون قريبًا، لهذا ذهبنا إلى بعشيقة والآن يطلبون منا الرحيل، لكن الجيش التركي لم يفقد هيبته ليتلقى الأوامر منك.
وتابع: إن الموصل لأهل الموصل وتلعفر مدينة قرب الموصل يقطنها التركمان لأهل تلعفر، ولا يحق لأحد أن يأتي ويدخل هذه المناطق، ويجب أن يبقى في الموصل بعد تحريرها أهاليها فقط من السنة العرب والسنة التركمان والسنة الأكراد.
أردوغان للعبادي: أعرف حدودك.. أنت لست نظيري، ولست بنفس مستواي، أنت لست مثلي، لا يعنينا صراخك من العراق، سنمضي في طريقنا
أردوغان صرّح أن القوات التركية الموجودة بالقرب من مدينة الموصل كانت بطلب وعلم وموافقة من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وهذا ما أكد عليه رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارازني عندما صرّح بالقول: “هناك تنسيق أمني مسبق بين العراق وتركيا بشأن وجود قوات تركية عند أطراف الموصل”.
الجانب التركي أكد أن المعسكر الذي تتواجد فيه القوات التركية “بعشيقة” والذي يبعد 30 كم عن الموصل، هو معسكر تدريبي أقيم في المقام الأول لدعم قوات المتطوعين المحلية التي تقاتل الإرهاب، وأن المعسكر ليس جديدًا، ومخصص لتدريب العراقيين، والقوات التركية موجودة بناء على طلب من مكتب محافظ نينوى، وبالتنسيق مع وزارة الدفاع العراقية، كما تمت الإشارة سابقًا.
وتعد “بعشيقة” الواقعة في محافظة نينوي العراقية أحد أهم المعاقل الأساسية في مواجهة تنظيم الدولة الإرهابي، إذ تعد ساحة التدريب الوحيدة في هذه المنطقة للقوات التركية والتركمانية والكردية والعربية، حيث يضم المعسكر بعض القادة الأتراك من أجل تدريب قوات من “البيشمركة”.
وعن أهمية هذا المعسكر أشار البروفسور كمال إينات، مدير معهد الشرق الأوسط في جامعة صقاريا التركية، أنه مهمٌّ في إطار السياسة التركية تجاه العراق، والأمنية ومكافحة الإرهاب في المنطقة، مشيرًا إلى أن طلب حكومة إقليم شمال العراق بخصوص المعسكر لعب دورًا في تأسيسه، معتبرًا أن المعسكر يعد مثالًا للشراكة الأمنية بين تركيا وإدارة بارزاني رئيس إقليم شمال العراق، إضافة إلى تعاون أنقرة مع القوات المحلية في المنطقة ضد الإرهاب.
جدير بالذكر أن البرلمان التركي قد مدّد منذ يومين للتفويض الذي منحه للحكومة التركية لتنفيذ عمليات عسكرية في العراق وسوريا لمدة عام آخر تنتهي بنهاية أكتوبر 2017، وهو ما دفع أردوغان للإدلاء بهذه التصريحات القوية.
القاعدة العسكرية التركية في منطقة بعشيقة بالقرب من الموصل
الدور الإيراني
العديد من أصابع الاتهام توجهت صوب طهران كونها المستفيد الأول من تصاعد التوتر بين العراق وتركيا، انطلاقًا من القاعدة التي تقول “فتش عن المستفيد”، خاصة وأن تركيا هي المعضلة الأولى بجانب السعودية التي تعوق التمدد الإيراني داخل الأراضي العراقية والسورية واليمنية.
الكاتب غسان الإمام، في مقاله المعنون بـ”مسعى إيراني لإشعال حرب عراقية/ تركية” حمّل طهران مسؤولية ما وصلت إليه العلاقات التركية العراقية من تأزم، قائلاً: رويت في ثلاثاء الأسبوع الماضي كيف حمل ظريف الخارجية الإيرانية تحذيًرا من خامنئي إلى رجب طيب إردوغان٬ يطالبه بعدم التدخل٬ لإحباط الهجوم الإيراني على حلب، ثم تبَّين أن الهدهد الإيراني حمل أيًضا “مرسالاً” عليه طابع بريد عراقي٬ يبلغه فيه أن العراق دولة مستقلة عن إيران، ويطالبه بانسحاب تركيا من العراق، وتابع: وكأن المنطقة العربية الموبوءة بالحروب٬ لا ينقصها سوى حرب عراقية/ تركية! فقد كان المرسال بمثابة صافرة استنفار من طهران إلى بغداد٬ لشن حرب إعلامية صاخبة على تركيا، وامتلأت الحملة فوًرا بالتجريح، والهياج، والاتهام، والمبالغة، والتهديد بسحب السفراء، وقطع العلاقات، وتقديم شكوى إلى مجلس الأمن ضد تركيا، ووصلت إلى إعلان ميليشيات الحشد الشعبي الحرب على 300 جندي تركي موجودين في قاعدة صغيرة شمال العراق.
الإمام حذر في مقاله أيضًا من خطورة الهجوم على القاعدة التركية، موجهًا رسالة إنذار لرئيس الحكومة العراقية قال فيها: إذا لم يستطع حيدر عبادي رئيس الحكومة العراقية والقائد الأعلى للجيش كبح جماح ميليشيات إيران٬ فقد يؤدي هجوم خاطئ على القاعدة التركية٬ إلى رد فعل تركي عنيف يضع العراق وتركيا على شفير حرب حدودية أو واسعة٬ من شأنها أن تسخر من الاستعدادات العراقية٬ لشن حرب على داعش في الموصل.
أما بخصوص التوغل العسكري الإيراني داخل الأراضي العراقية، أشار المقال إلى هناك ما يقرب من 31 ألف عراقي وإيراني أعضاء في ميليشيا الحشد الشعبي الذي يتصدر زعامته ساسة عراقيون من الشيعة، ويقوده ضباط فيلق القدس برئاسة قاسم سليماني، هذا الفيلق المكلف عسكريًا ومخابراتيًا بالتدخل في العالم العربي، وانتهاك استقرار وكرامة مجتمعات عربية، في مقدمتها المجتمعات السورية، والعراقية، واللبنانية، الرقم المشار إليه ليس من عندي، فقد ورد في دراسة استقصائية لحركة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة، وقالت إنها حصلت عليه من مصادر في فيلق القدس ذاته.
إذا لم يستطع حيدر عبادي رئيس الحكومة العراقية والقائد الأعلى للجيش كبح جماح ميليشيات إيران٬ فقد يؤدي هجوم خاطئ على القاعدة التركية٬ إلى رد فعل تركي عنيف يضع العراق وتركيا على شفير حرب حدودية أو واسعة
وأختتم الكاتب الصحفي غسان الإمام مقاله بالتأكيد على أن الوجود العسكري التركي لعب دورًا كبيرًا في استقرار ريف محافظة نينوى بعد تحرير عاصمتها الموصل من نير داعش، حيث تعارض تركيا بشدة تقسيم ريف نينوى الذي يشكل العرب السنة فيه الأغلبية٬ بينما يطالب أكراد كردستان، ونظام بغداد، وميليشيات إيران بتمزيقه٬ بحجة استحالة التعايش بين مكوناته العربية، والكردية، والتركمانية، والمسيحية، والإيزيدية، وبالتالي٬ فمن نكران الجميل أن يعامل نظام بغداد تركيا بأسلوب الإثارة تجاوبًا مع إيران. وانحيازًا لها!، على حد قوله.
قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران في العراق
وفي السياق نفسه أكد الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السيد الربوة، على ضلوع إيران في نشوب الأزمة بين تركيا والعراق، مشيرًا إلى أن الأحداث السابقة ومعطياتها هي من تقودنا إلى النتائج بعيدًا عن الاستعراض السياسي والتحليلي الذي ينتهجه البعض، ملفتًا أنه كما كانت طهران وراء أزمة السفير السعودي بالعراق ثامر السبهان، فإن قرار البرلمان العراقي حول القوات التركية في بعشيقة هو الآخر رد فعل إيراني.
الربوة في حديثه لـ”نون بوست” أشار إلى أن هناك حوالي 70 ميليشا ضمن الحشد الشعبي الموالي لإيران، ومن ثم لا تريد طهران أي قوة عسكرية أخرى فوق الأراضي العراقية تعرقل توجهاتها وتحول بينها وبين تحقيق أهدافها، ومن ثم زرعت طهران بذور الفتنة بين العراق وتركيا، كما فعلتها مع السعودية.
الكاتب المصري أكد أنه وعلى عكس ما يردد البعض، فإن الصراع بين إيران وتركيا لم يبدأ بعد، بل ستكون معركة الموصل القادمة هي أول محطة في هذا الصراع، الذي قد يعيد من جديد الصراع الصفوي العثماني في المنطقة.
وفي المقابل الدكتور يرى واثق الهاشمي رئيس المجموعة العراقية للدراسات الاستراتيجية، أن هناك حالة من القلق لدى العراقيين من الرسائل التركية، ملفتًا أن أطماع تركيا باتت واضحة لما بعد تحرير الموصل، لذا فإن العراق لن يقبل بأي تواجد تركي على الأرض العراقية، كما أن الولايات المتحدة سوف ترفض أي تواجد تركي في عملية تحرير الموصل، لأن ذلك سوف ينسف التوافق السياسي في العراق، كما أنه سوف يؤدي إلى طلب إيران التدخل البري العسكري، وبذلك سوف تتعقد الأمور.
وأضاف الهاشمي، في تصريحات سابقة، لدى تركيا أطماع واضحة في الموصل وأنها تعود إلى تركيا، وهذا الأمر صرح به أكثر من مسؤول تركي، وتركيا تريد أن تتواجد في العراق لما بعد تحرير الموصل، وهنالك تنسيق بينها وبين مسعود البارازاني في هذا الاتجاه.
مما سبق يتضح أن الأزمة بين تركيا والعراق لن تنتهي في الوقت القريب، حيث تصر أنقره على حضورها كلاعب أساسي في إقليم شمال العراق لا سيما مع اقتراب معركة الموصل، بينما تقاتل بغداد بدعم إيراني لأجل إبعاد القوات التركية عن المعركة تمهيدًا للسيطرة الكاملة على الإقليم وضمه للسيادة الإيرانية وإن كانت في صورة عراقية.. فهل تشهد الأيام القليلة المقبلة حربًا بين العراق وتركيا؟ أم تنجح جهود الوساطة الإقليمية والدولية في رأب هذا الصدع والوصول إلى نقطة اتفاق مشترك تقي العراقيين ويلات حرب جديدة؟