لم تخلُ السباقات إلى البيت الأبيض تاريخيًا من فضائح أخلاقية للمرشحين لتبوّؤ أعلى المناصب في الولايات المتحدة والعالم. من اعتراف موظفة في ولاية أركنسا في عام 1992 بأنها كانت على علاقة غير شرعية بالمرشح بيل كلينتون، الأمر الذي رفضه كلينتون وانتصر في السباق، إلى فضيحة كون المرشح الرئاسي في عام 1987 غاري هارت على علاقة غير شرعية بعارضة أزياء أودت بحلمه بالرئاسة. إلا أن السباق لرئاسة الولايات المتحدة هذا العام وصل إلى قاع جديد.
في نهاية الأسبوع المنصرم، نشرت صحيفة واشنطن بوست مقطع فيديو يعود إلى عام 2005 يتباهى فيه دونالد ترامب بألفاظ بذيئة بقدرته على التحرش بالفتيات دون حاجة إلى موافقتهن. أثار المقطع زوبعة من الردود المُنكِرة وحملة تُطالب ترامب بالانسحاب من السباق كان على رأسها سياسيو الحزب الجمهوري. فقد سحب الرئيس الجمهوري لمجلس النواب الأمريكي بول رايان دعوة لترامب لظهور مشترك في مؤتمر صحفي، وأدان رئيس اللجنة الوطنية للحزب الجمهوري بينس بريباس في تصريح له كلمات ترامب، ووصف عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية فلوريدا ماركو روبيو كلمات ترامب بأنها سوقية ولا يمكن تبريرها.
ترامب نفسه تأثر من هذه الفضيحة وصرح لأول مرة بصيغة مُلطّفة غريبة عن أسلوبه الخاص: “لم أقل إنني إنسان كامل، أو أتظاهر بأنني شخص آخر. قلت أشياء وفعلت أمورًا أنا نادم عليها، والكلمات التي قلتها في الفيديو الذي نُشِر اليوم وعمره أكثر من عشرة أعوام هي إحدى هذه الأشياء”. لكنه ما لبث أن عاد إلى أسلوبه الخاص بدعوته سيداتٍ إلى المناظرة الرئاسية الثانية مساء الأحد، اتّهمن بيل كلينتون في السابق بالتحرش الجنسي وهيلاري كلينتون بتهديدهنّ.
حتّى الآن لا نعرف إذا ما كان السباق الرئاسي سينحدر إلى هاوية أخلاقية جديدة، لكن مؤشرات جديدة أظهرت أن ترامب كان في وضع لا يُحسد عليه حتى قبل نشر المقطع الفاضح، مع أنّه لا زال يتمتّع بأفضلية لدى الناخبين الذكور الذين يُعلن 48٪ دعمهم له مقابل 37٪ لصالح هيلاري.
ترامب يتهاوى
كشف استطلاع للرأي أجرته مجلة الأتلانتيك مع مؤسسة بي بي آر آي استمر خمسة أيام، يومان ونصف منها كانت قبل نشر فضيحة ترامب الأخيرة، تقدّم هيلاري عليه بإحدى عشر نقطة بنسبة 49-33٪. أعلنت 61٪ من النّاخبات حسب الاستطلاع دعمهنّ لهيلاري، مقابل 28٪ لصالح ترامب. خسر ترامب أكبر شريحة داعمة له وهي شريحة الإناث البيض اللواتي لا يحملن شهادة جامعية، فقد توزّع دعمهنّ مناصفة بينه وبين هيلاري بنسبة 40٪ لكليهما. ولا زال ترامب يحتفظ بدعم الذكور البيض الذين لا يحملون مؤهلًا جامعيًا بنسبة 46٪ مُقابل 39٪ لصالح هيلاري.
وعلى الرغم من أن دعمه بين الناخبين البيض الإنجيليين لا زال أقل من المرشحين الرئاسيين الجمهوريين في السابق، إلا أن ترامب لا زال يحظى بدعم اثنين من كل ثلاث ناخبين من هذه الشريحة، مُقابل 16٪ فقط لصالح هيلاري. تُظهر هذه النتائج تناقضًا شديدًا يواجهه ترامب في محاولته للخروج من فضيحته الأخيرة، بالنظر إلى أن استطلاعًا آخر أجرته صحيفة وول ستريت جورنال بالتعاون مع أن بي سي نيوز أظهر تأخره مقابل كلينتون بنسب قد تصل إلى 14٪ في انتخابات من جولتين، وتأخره بنسبة 11٪ بالمئة في انتخابات من أربع جولات.
لم يظهر الأثر الكامل لمقطع الفيديو الفاضح لترامب في استطلاعات الرأي حتى الآن، ولم يتبيّن وضعه بين سياسيّي الحزب الجمهوري الذين سحبوا دعمهم له على الرغم من إعلانه نيّته عدم الانسحاب حتى النهاية، إلا أن هناك أربع أسابيع تفصلنا عن يوم الانتخاب الثامن من نوفمبر المقبل ينتظر فيها أكثر من أربعمئة ألف صندوق انتخابي أصوات الناخبين.
قنبلة جديدة في المناظرة الرئاسية
خيّم جوّ مقطع الفيديو الذي وُصِف بالمُدمّر على أجواء المناظرة الرئاسية الثانية مساء الأحد الماضي، لكنّ هيلاري لم تكن في مركز الهجوم كما كان متوقعًا فهذا الموقع كان محجوزًا لترامب الذي أثار سابقًا مسألة استخدام هيلاري لإيميل شخصي في مراسلاتها حين كانت وزيرة خارجية الولايات المتحدة، في المناظرة الأخيرة توعّد ترامب بتعيين قاضٍ خاص للتحقيق في هذه المسألة والزجّ بهيلاري في السّجن لإساءتها إدارة معلومات سريّة، في معرض حديثها قالت هيلاري: “جيد جدًا أن شخصًا بطبع ترامب ليس على رأس السلطة في هذه الدولة” ليُقاطعها ترامب قائلًا: “لأنّك ستكونين في السّجن في حينها”.
كان موقع ويكيليكس موضوعًا لسؤال وجهته مديرة المناظرة مارثا راداتز لهيلاري حول تسريب جديد لأحد رسائل هيلاري إلى البنك الاستثماري الضخم غولدمان ساكس قالت فيها إن السياسيين يُضطرون أحيانًا إلى اتّخاذ موقف مُعلن وآخر غير مُعلن، قالت مارثا: “هل يجوز أن يكون السياسي ذا وجهين؟ وأن يكون له موقف شخصي من بعض المسائل؟”، لترد كلينتون بأن العبارة التي قالتها في المُراسلة كانت مُقتبسة من الرئيس الأمريكي السابق أبراهام لينكولن وهو يصف التعديل الثالث للدستور الذي يتحدث عن إنهاء العبودية، استخدم لينكولن حسب هيلاري حججًا لإقناع البعض بقانون إنهاء العبودية واستخدم حججًا أُخرى لإقناع آخرين.
انتقدت هيلاري موقع ويكيليكس وقالت إن قراصنة موظفين لدى الحكومة الروسية استخدموه للعبث بالانتخابات الأمريكية، وقالت إن الاستخبارات الأمريكية صرحت بأن الكريملين يُهاجم الأمريكان إلكترونيًا للتأثير على الانتخابات ومساعدة دونالد ترامب بالفوز، وإن هذا هو الهجوم الأول لحكومة أجنبية من هذا النوع، إلا أن ترامب اتخذ موقفًا مغايرًا تماما بدأه بوصفها بالكذب وتأكيده أنّه لا يعرف بوتين رغم عدم اعتراضه على تحسين العلاقة مع روسيا، وبعد يوم من المناظرة أعلن ترامب أمام جمع من المؤيدين “أنا أُحب ويكيليكس”.
دونالد الحزين والوحيد
يُدعى الناس العاديون إلى المُناظرات الرئاسية والتجمّعات الانتخابية ليتمكّنوا من طرح أسئلة عن قضاياهم الخاصة، وليتمكّن المرشحون بدورهم من إجراء حوار مع الناخبين مباشرة أمام شاشات الإعلام، من الطبيعي في مُعظم الأحيان أن يتوجه المُرشّح إلى السّائل ويُنصِت باهتمام ويُوجّه الإجابة إليه جزئيًا مُحاولًا رسم صورة المُرشح الذي يُمثل هُموم الناس ويهتم بها، وهذا مظهر مُحترم وجيّد في عين المُشاهدين الذين يربطون القضايا المطروحة بقضاياهم الخاصة، هيلاري كلينتون ماهرة في هذا النوع من الحوارات بالتأكيد ولكن ليس ترامب، فقد عامل السائلين في المناظرة الأخيرة بأنهم روبوتات ووجّه إجاباته إلى الفراغ ولم يقتنص اللحظة التي سألته فيها مواطنة أمريكية مُسلمة في إظهار موقف مقبول في عين النّاخبين المُتشكّكين.
يصف ديفيد بروكس الكاتب المتخصص في الشؤون السياسية والثقافية والاجتماعية في نيويورك تايمز ذلك بأنّه مؤشر على الشّعور الضروري بالوحدة لدى دونالد ترامب، فالسياسة حسب بروكس هي جُهد لإيجاد روابط إنسانية إلا أن ترامب يبدو أنّه غير قادر على ذلك، فليس لديه مستشارون ولا يؤيد فكرة المستشارين، وتبدو حملته الانتخابية كأنّها تجمّع للمُرتزقة في أفضل الأحوال ولأمثال روجر إيلز في أسوأها (انظر “المناظرة الرئاسية الأمريكية: مزاد الحقائق وتتويج مسيرة فوكس نيوز” للكاتب في نون بوست)، ويُعامله كثير من سياسيي حزبه بأنه عفونة لا يملكون إزالتها.
تخيّل أنك مُضطر إلى تحمل أسبوع كامل مليء بالكراهية والأعداء الذين صنعتهم بيديك، وأنك أصبحت هدفًا لعبارات السخرية والاشمئزاز، سيكون عالمك مقلوبًا، وستذبُل وتُعذّب نفسك ورُبّما تُقرر الانتقام من العالم، هذه حياة ترامب حسب بروكس، ترامب الذي تبدو عليه أعراض النرجسية وعدم القدرة على فهم أو وصف العواطف ولا على التعرف على الآخرين أو التقرّب منهم، وهو يزداد جشعًا وجوعًا للمزيد من الاهتمام من العالم الخارجي ويفتقد لأي مقاييس داخلية لقياس قيمته الحقيقية فيما يعتمد على معايير سطحية مثل الغنى والجمال والشّهرة وقبول الآخرين غير المشروط.