“لا يتم استبدال القادة القساة إلا ليأتي قادة يتحولون إلى قساة”، “لا أكترث إذا سقطت طالما هناك شخص آخر سيلتقط بندقيتي ويواصل الإطلاق من بعدي”، “الثورة يصنعها الشرفاء، ويرثها ويستغلها الأوغاد”، “الثورة ليست بتفاحة تسقط عندما تنضج، عليك أن تجبرها على السقوط”، جمل لخصت طريقة حياة إرنستو “تشي جيفارا” 14 يونيو 1928 – 9 أكتوبر 1967، الثوري الكوبي ماركسي التوجه أرجنتيني النشأة، الذي ولد في الأرجنتين لأسرة يسارية من أصول إيرلندية، وبالتالي كان من غير المستغرب أن تجري في عروقه دماء المتمردين الإيرلنديين.
تخليد وتبجيل
لا تزال شخصيته تنال التبجيل والاحترام، وتناولته بعد وفاته العديد من السير الذاتية والمذكرات والمقالات والأفلام الوثائقية والأغاني والأفلام، وضمنته مجلة التايم من ضمن المائة شخص الأكثر تأثيرًا في القرن العشرين، خصوصًا نجاحه بعد الثورة الكوبية في تدريب قوات الميليشيات التي نجحت في صد غزو خليج الخنازير، كما جلبت إلى كوبا الصواريخ الباليستية المسلحة نوويًا من الاتحاد السوفييتي عام 1962 التي أدت إلى بداية أزمة الصواريخ الكوبية.
رحلة الدراجة البخارية
بدأت مسيرة جيفارا مع النضال بأمريكا اللاتينية رغم نشأته لأسرة ميسورة الحال، حينما سافر عندما كان طالبًا في كلية الطب بجامعة بوينس آيرس، التي تخرج فيها عام 1953، وتوجه برحلاته إلى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية مع صديقه ألبيرتو غرانادو، على متن دراجة نارية وهو في السنة الأخيرة من الكلية، وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أمريكا الجنوبية، وبالظلم الكبير الواقع من الإمبرياليين على المزارع اللاتيني البسيط، وتغير داخليًا بعد مشاهدة الفقر المتوطن هناك.
إلهام جواتيمالا
بعد رحلته عاد ليهاجم الرأسمالية الاحتكارية والاستعمار الجديد والإمبريالية، داعيًا لما أسماه وقتها بـ”الثورة العالمية”، وهو الاعتقاد الذي دفعه لتأييد الإصلاحات الاجتماعية في جواتيمالا في ظل حكم الرئيس جاكوبو أربينز غوزمان، الذي ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في نهاية المطاف في الإطاحة به، بسبب ميله للفقراء ضد الاستعمار الرأسمالي، وهيمنة شركة الفواكه المتحدة، مما سهل من نشر إيديولوجية جيفارا بعد ذلك، حينما أيقن أن نظرته للولايات المتحدة باعتبارها القوة الاستعمارية التي من شأنها أن تعارض وتحاول تدمير أي حكومة تسعى لمعالجة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية المستوطنة في أمريكا اللاتينية، وغيرها من البلدان النامية، في محلها وصحيحة تمامًا.
البداية.. عائلة كاسترو
كان للقائه بالمكسيك براؤول كاسترو، شقيق الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي كان يقبع خلف القضبان وقتها بكوبا، مفعول السحر في تكوين بدايات ظهوره بالقارة الجنوبية الفقيرة، حيث كان راؤول كاسترو المنفي مع أصدقائه بالمكسيك يجهز للثورة، وينتظر خروج فيدل كاسترو من سجنه في كوبا، وما إن خرج هذا الأخير من سجنه حتى قرر جيفارا الانضمام للثورة الكوبية؛ للإطاحة بالنظام الديكتاتوري المدعوم من طرف الولايات المتحدة بقيادة الديكتاتور الكوبي فولغينسيو باتيستا، وسرعان ما برز جيفارا بين المسلحين وتمت ترقيته إلى الرجل الثاني في القيادة، خلف كاسترو حتى صارا صديقين.
من الثورة للحكم
في أعقاب الثورة الكوبية أسس جيفارا قوانين الإصلاح الزراعي عندما كان وزيرًا للصناعة وعمل أيضًا كرئيس ومدير للبنك الوطني، ورئيس تنفيذي للقوات المسلحة الكوبية، كما جاب العالم كدبلوماسي باسم الاشتراكية الكوبية.
غادر كوبا في عام 1965 من أجل دعم الثورات بالدول المحتلة والواقعة تحت الحكم الديكتاتوري، وفشلت محطته الأولى في الكونغو كينشاسا، ومن ثم تلتها محاولة أخرى في بوليفيا، حيث تم إلقاء القبض عليه بعد خيانة ووشاية أحد الجنود، وبدعم من قبل وكالة الاستخبارات المركزية بمساعدة القوات البوليفية وتم إعدامه.
اليوم الأخير
مشهد إعدام جيفارا كان في التاسع من أكتوبر للعام 67، حينما أمر الرئيس البوليفي رينيه باريينتوس بقتله وإطلاق الرصاص عليه عشوائيًا ليبدو وكأنه قتل خلال الاشتباكات مع جنود الجيش، وليس بالإعدام رميًا بالرصاص، كما ظهر فيما بعد، كان الجلاد يدعى ماريو تيران، وقبل لحظات من إعدام جيفارا سأل عما إذا كان يفكر في حياته والخلود فأجاب: “لا أنا أفكر في خلود الثورة” ثم قال للجلاد “أنا أعلم أنك جئت لقتلي، أطلق النار يا جبان إنك لن تقتل سوى رجل”.
أزمة الأسطورتين
لم تكن حياة جيفارا بهذه السهولة كما تبينها السطور، لكنها شهدت تقلبات كبيرة من الارستقراطية في الطفولة إلى حب الاستطلاع والمغامرة خلال فترة الشباب، إلى القيادة والنرجسية والخلافات بعد الثورة الكوبية خصوصًا مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو بسبب ضغوط الاتحاد السوفيتي وقتها عليه للتضحية بجيفارا الذي يميل لشيوعية واشتراكية الصين أكثر من السوفييت، ونشرت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية شائعات تدعي فيها اختفاء إرنستو جيفارا في ظروف غامضة، ومقتله على يد زميله في النضال القائد الكوبي فيدل كاسترو، مما اضطر الزعيم الكوبي للكشف عن الغموض الذي اكتنف اختفائه من الجزيرة للشعب الكوبي، فأدلى بخطابه الشهير الذي ورد في بعض أجزائه ما يلي:
“لدي هنا رسالة كتبت بخط اليد، من الرفيق إرنستو جيفارا يقول فيها: أشعر أني أتممت ما لدي من واجبات تربطني بالثورة الكوبية على أرضها، لهذا أستودعك، وأستودع الرفاق، وأستودع شعبك الذي أصبح شعبي، أتقدم رسميًا باستقالتي من قيادة الحزب، ومن منصبي كوزير، ومن رتبة القائد، ومن جنسيتي الكوبية، لم يعد يربطني شيئًا قانونيًا بكوبا”.
أكدت هذه الرسالة إصراره على عدم العودة إلى كوبا بصفة رسمية، بل كثائر يبحث عن ملاذ آمن بين الحين والآخر، قائلا “إن الثورة تتجمد وإن الثوار ينتابهم الصقيع حين يجلسون فوق الكراسي، وأنا لا أستطيع أن أعيش ودماء الثورة مجمدة داخلي”.
زياراته للدول العربية
خلال مسيرته النضالية بسنوات حياته القليلة زار جيفارا العديد من الدول العربية بينها فلسطين المحتلة وتحديدًا قطاع غزة حينما كان تحت الولاية المصرية، ومصر والمغرب وسوريا والجزائر، حيث بدأ جولته للدول العربية في العام 59، رغبة منه في إطلاق حركة ثورية دولية، بالإضافة إلى استغلالها في بيع السكر الذي تنتجه بلاده، وكات هو وقتها وزير الاقتصاد.
بدأ جيفارا بغزة، في 18 يونيو 1959، ووصل بزيه العسكري برفقة عدد من الكوبيين إلى مدينة غزة، التي كانت تحت الحكم المصري آنذاك، وخلال زيارته قام بإرشاد مقاتلي المقاومة الفلسطينية “الفدائيين” إلى طرق حرب العصابات لاستخدامها في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
كانت المفاجأة الأغرب في زيارته لمصر حيث وضح للعيان أن خلافًا ما في وجهة النظر بينه وبين الزعيم المصري وقتها جمال عبدالناصر، وهو ما ظهر خلال حديثهما سويًا، حتى إن الزيارة لم تتمخض عن شيء يذكر، وذكر الكاتب الكبير الراحل محمد حسنين هيكل في الفصل الثاني عشر من كتابه “عبد الناصر والعالم” والذي حمل عنوان (عبد الناصر وغيفارا الحلم.. والثورة)، أن جيفارا لم يلق الحفاوة ولا الاستقبال الحار من عبد الناصر خلال زيارته الأولى، إذ كان الرئيس المصري يعتقد أن لجيفارا علاقة وثيقة بأمريكا بتلك الفترة، فضلًا عن أن الرئيس المصري لم يكن يُعطِ للكوبيين ولا لسياساتهم الكثير من الاهتمام.
انتقل تشي من مصر إلى سوريا وزار قبر صلاح الدين الأيوبي، والجامع الأموي عقب عقده عدة لقاءات دبلوماسية مع الرئيس السوري شكري القوتلي، كما زار المغرب وقضى بمراكش 18 يومًا يستمتع بالموسيقى الأندلسية ويتجول في الأحياء الشعبية للمدينة، ووقع مع المغاربة اتفاقًا تجاريًا بين البلدين، وافق خلاله المغرب على استيراد السكر الكوبي، وبعد ذلك بثلاث سنوات أي في العام 1963، حضر جيفارا مبارة كرة قدم بين الفريقين المصري والجزائري بالعاصمة الجزائر وقد هتفت الجماهير الغفيرة التي حضرت المباراة باسمه.