ربما كان الحدث الأكثر أهمية بمنتدى الطاقة العالمي في إسطنبول، توقيع روسيا وتركيا على اتفاقية إنشاء خط الغاز الروسي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا المعروف بالسيل التركي.
فتركيا الناهضة التي تستورد 90% من احتياجاتها من النفط والغاز، ممّا جعل الحاجة إلى الطاقة إحدى الثغرات التي تتسرب منها رياح “التردد” إلى متخذ القرار التركي، ترى في هذين المشروعين جزءًا من حل طويل الأمد لمشاكلها الطاقوية المزمنة.
وفي المقابل فإن روسيا أحد أكبر عمالقة الطاقة في العالم يعاني اقتصادها من انخفاض أسعار النفط ومن حصار هبطا بقيمة عملتها مطلع العام إلى 80 روبلًا مقابل الدولار على سبيل المثال، وهذا التردي الاقتصادي كان من الدوافع إلى تقديمها مميزات تتعلق بالأسعار والكميات لتركيا، قبل أزمة إسقاط الطائرة، للعمل بمشروع السيل التركي الذي أتى بديلًا عن السيل الجنوبي المار عبر بلغاريا إلى جنوبي أوروبا، والذي أعلن بوتين عن وفاته في زيارته إلى تركيا 2014، بعد أن ضغطت المفوضية الأوروبية، ومن ورائها أمريكا، على بلغاريا لرفض المشروع الروسي بحجة محاربة احتكار “غاز بروم” لسوق لطاقة الأوروبي، سعيًا للضغط على روسيا من خلال ملف الطاقة الحيوي لاقتصادها، ولدفع أوروبا إلى استيراد الغاز من حلفاء واشنطن في آسيا الوسطى كأذربيجان.
ومشروع السيل التركي جزء من شبكة خطوط طاقوية تحاول أوروبا من خلالها تقليص اعتمادها على روسيا التي كانت تزودها بـ27% من احتياجاتها من النفط و50% من احتياجتها من الغاز، بعد أن عمدت الأخيرة إلى استخدامها ورقة ضغط على أوروبا كما تجلى في أزمات 2009 و2013، وفي هذا الإطار فأوروبا تتجه الآن شرقًا إلى القوقاز وبحر قزوين ممّا يستلزم مرور الخطوط عبر تركيا، التي تحاول الاستفادة من الوضع الراهن والتحول إلى عقدة طاقة استراتيجية من خلال مجموعة مشروعات استراتيجية كالسيل التركي والممر الجنوبي.
خريطة لمسار “السيل التركي” من ميناء أنابا الروسي إلى كي كوي التركي عبر البحر الأسود لينتهي الخط على الحدود اليونانية، ومنها إلى جنوبي أوروبا
السيل التركي جزء من “العقدة” التركية
بدأ الاتحاد الأوروبي منذ وقت مبكر نسبيًا بالعمل على سياسة تنويع مصادر الطاقة للتخلص من أسر محتكري سوقه للطاقة، وقد كانت البداية بخط أنابيب باكو- تبليسي – جيهان الذي ينقل النفط الأذري إلى أوروبا عبر جورجيا ثم ميناء جيهان التركي، ويبلغ طوله 1776كم وبدأ العمل به في 10 أيار/ مايو 2005 بطاقة مليون برميل يوميًا، وكان الهدف منه تخفيض الاعتماد على نفط الشرق الأوسط.
وأضيف هذا الخط إلى رصيد تركيا الراغبة في التحول إلى عقدة خطوط الطاقة المتجهة إلى أوروبا والأسواق الدولية؛ فمن أراضيها يمر خط أنابيب لنقل النفط العراقي إلى الأسواق الدولية من خلال ميناء جيهان التركي، وقدرت إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) أنّ ما معدله 550 ألف برميل من النفط الخام أُرسِلت بشكل يومي إلى ميناء جيهان جنوبي تركيا في شهر أيار/ مايو من عام 2015.
وفي عام 2014 بدأ العمل على “أجرأ” المشاريع الأوروبية في هذا المجال والمسمى “الممر الجنوبي”، والذي يضم عددًا من خطوط الطاقة ومن المقرر دخوله الخدمة عام 2018 بنقله كمية مبدئية تبلغ 16 مليار مترمكعب من الغاز من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا واليونان إلى أوروبا، ومن المقرر أن يتمكن من نقل 23 مليار مترمكعب من الغاز سنويًا بحلول عام 2023، و31 مليار مترمكعب بحلول عام 2026، وسينقل خط أنابيب جنوب القوقاز الغاز الطبيعي من نقطة البداية في سانجاشال التي تقع في جنوب باكو إلى الحدود التركية الجورجية، حيث سيتم ربطه بمشروع خط الأنابيب الذي يمر عبر الأناضول (TANAP) الذي يعبر تركيا، للاتصال بخط الأنابيب الذي يمر عبر البحر الأدرياتيكي (TAP) على الحدود الغربية لتركيا مع اليونان.
وفي العام نفسه أعلن عن مشروع “السيل التركي” لنقل الغاز الروسي إلى تركيا عبر قاع البحر الأسود ومنها إلى اليونان ثم جنوبي أوروبا، ويتوقع أن تبلغ قدرته التمريرية نحو 63 مليار مترمكعب من الغاز سنويًا عبر 4 خطوط للأنابيب، ويكفينا للدلالة على أهمية هذا المشروع أن العمل به لم يتوقف حتى في ذروة الأزمة الروسية التركية، بحسب ما ذكر بوتين في المؤتمر الصحفي مع أردوغان.
خطوط الطاقة العاملة والمخطط لها العابرة من تركيا بحسب خريطة في موقع وزارة الخارجية التركية، الأحمر: خطوط الغاز الطبيعي، الأحمر: خطوط الغاز الطبيعي المخطط لها، الأخضر: خطوط النفط
كما أن عقد الاتفاق النووي الإيراني 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 قد يفتح الطريق أمام تصدير الغاز الإيراني إلى الأسواق الأوروبية المتعطشة عبر الخطوط المارة من تركيا، وكذلك تركمنستان صاحبة رابع أكبر احتياطيات الغاز العالمي قد تعمل على تصدير غازها إلى أوروبا عبر إيران أو أذربيجان، وفي النهاية لا بد من المرور عبر تركيا، بالإضافة إلى أن الكشف عن احتياطيات كبيرة من الغاز في شواطئ المتوسط الشرقية ورغبة “إسرائيل” في تصدير الغاز إلى الأسواق الأوروبية عبر تركيا كان من أسباب إعادة تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية.
منافع استراتيجية للطرفين
استثمار تركيا لموقعها الجيوسياسي للتحول إلى عقدة استراتيجية لخطوط الطاقة يضيف نقاطًا كبيرة إلى رصيد “العدالة والتنمية” داخليًا؛ إذ كل هذه المشاريع ستكون في طور التشغيل قبل 2023 الموعد الذي حدده الحزب لولادة “تركيا الجديدة” أو الجمهورية الثانية، وخارجيًا بما يمنحه لتركيا من ميزات منها:
– تلبي هذه المشاريع حاجة السوق التركية الكبيرة للطاقة من خلال إمدادات ثابتة ومنتظمة بأسعار تفضيلية.
– تمنح تركيا فرصة الموازنة بين المصادر التي تستورد منها الطاقة فلا تكون أسيرة مصدر واحد أو مصدرين، وقد كان للحاجة التركية المستمرة للطاقة تأثيرها في عدد من القرارات الاستراتيجية التركية كما هو معلوم.
– تحولها إلى ممر إجباري لخطوط الطاقة إلى أوروبا يؤكد حاجة الأخيرة إليها، ويقوي موقفها التفاوضي في أي مفاوضات مقبلة مع الاتحاد الأوروبي حول قضايا كالانضمام إلى الاتحاد أو غيرها.
– تستطيع هذه الخطوط تأمين أرباح اقتصادية كبيرة جدًا لبلد المرور، فقد خسرت بلغاريا مثلًا ما يقدر بـ 400 مليون دولار سنويًا من جراء رفضها مشروع “السيل الجنوبي” الروسي.
– تحول تركيا من مستهلك محض إلى شريك في عملية توزيع الطاقة، لأن عبور الخطوط في أراضيها يمنحها القدرة على فرض بعض شروطها أو المساومة عليها في الحد الأدنى.
وبالمقابل فالمشروع يمنح روسيا فرصة العمل في بيئة أكثر “أمنًا” وبراغماتية وغير معادية بشكل مطلق للروس، بل أثبتت أنها أكثر قدرة على التكيف مع تقلبات السياسة من خلال عملها على سياسة فصل الملفات في مسارات غير متساوية الحركة، ولعل روسيا كانت تحاول، بما ذكره الرئيس بوتين سابقًا عن دراستهم “إمكانية” إحياء مشروع السيل الجنوبي، مساومة تركيا على بعض الشروط والامتيازات التفضيلية التي أقرت بها موسكو لأنقرة سابقًا، أو للضغط عليها في ملفات أخرى يشتبك فيها الطرفان، أكثر من محاولة ترجيح حقيقية بين خيارات متعددة بين يدي موسكو، وهو ما يبدو أنه قد نجح في الوصول بالمشروع إلى مرحلة التوقيعات النهائية.