“القوة تضمن الأمان، والقوة الأعظم تمثل الضمان الأعظم للأمان، ومن المحتم أن تصطدم الدول التي يحركها هذا الدافع، لأنها تتنافس جميعًا على تحقيق إحداها ميزة على الأخرى، وهذا الموقف المأساوي لا مناص منه، إلا إذا اتفقت الدول التي تؤلف النظام على تشكيل حكومة عالمية، لكن هذا التحول الضخم لا يزال بعيد المنال، ولذلك ستظل النزاعات والحروب حتمًا السمات الكبرى والباقية للسياسة العالمية”.. كتب جون ميرشايمر في كتابه “مأساة سياسة القوى العظمى”.
عكس آخرين ممن يعدون من بين صفوة المنظرين للفكر الاستراتيجي الأمريكي من قبيل صامؤيل هنتنغتون فيما عرف بنظرية “صدام الحضارات” أو فرانسيس فوكوياما في نظريته “نهاية التاريخ”، فإن جون ميرشايمر قد حاجج بأن التنافس بين القوى العظمى لا مناص منه، حتى وإن كان هنالك فارقًا زمنيًا في الفترة التنظيرية.
إن ما أعلنه قبل أيام نيكولاي بانكوف نائب وزير الدفاع الروسي عن دراسة احتمالية العودة إلى القواعد العسكرية السابقة في كل من كوبا وفيتنام، يعدّ كتعزيز لكلام ميرشايمر، فالمتتبع للأحداث قد يرى بوضوح إرهاصات الحرب الباردة الجديدة بين روسيا والولايات المتحدة، وكذلك خروج روسيا من المعاهدة الدولية بشأن القوات المسلحة التقليدية في أوروبا سنة 2015، وبداية أكتوبر الحالي تمّ إلغاؤها أيضًا لاتفاقية أخرى متعلقة بالبلوتونيوم مع الولايات المتحدة.
فروسيا الاتحادية قد عززت قوتها بعد الاستراحة الاستراتيجية التي أخذتها طيلة عقدين من انتهاء الحرب الباردة وأصبح بإمكانها قول “لا” في وجه أعدائها ومنافسيها، في حين أن الولايات المتحدة زرعت عوامل مآلها إلى الأفول ومشاطرة القيادة العالمية مع الخصوم الاستراتيجيين بنفسها.
روسيا لا يمكنها منافسة الآلة الصناعية الأمريكية ولا القفز على ترتيبها العسكري ولا التقنية الحديثة ولا الاقتصاد، فستبقى الأخيرة لعقدين أو أكثر كأكبر اقتصاد عالمي وكأعتى قوة عسكرية على وجه البسيطة
إن العودة القوية لروسيا البوتينية ليست بالضرورة غياب التأثير التام للولايات المتحدة، فروسيا لا يمكنها منافسة الآلة الصناعية الأمريكية ولا القفز على ترتيبها العسكري ولا التقنية الحديثة ولا الاقتصاد، فستبقى الأخيرة لعقدين أو أكثر كأكبر اقتصاد عالمي وكأعتى قوة عسكرية على وجه البسيطة، والصين كقوة اقتصادية واعدة وكقطب صاعد جديد قد أثر فيها وفي اقتصادها أزمة النفط الأخيرة، نفس الأمر مع روسيا الاتحادية، فصعود الأخيرة وتبيان دورها على الساحات الجيوسياسية أمر يعتمد بكثير على الأفول التدريجي للولايات المتحدة بدرجة أكبر.
هل ستكون سورية هي مركز انطلاق شرارة الحرب العالمية الثالثة؟
من بين آخر ما كتبه مرشد الإمبريالية الروسية ألكسندر دوغين رائد الفكر الأوراسي الجديد أو ما سنطلق عليه “ثعلب بوتين” هو مقال بعنوان “العالم أقرب إلى الحرب العالمية الثالثة من أي وقت مضى”، ربط دوغين بين قصف مواقع الجيش السوري في دير الزور من طرف الولايات المتحدة والذي مات على إثره 60 جنديًا سوريًا، وبين تحرشات أمريكية سابقة بروسيا في جورجيا تسخينفالي بالضبط في أغسطس/ آب 2008، وبين دنوّ حرب عالمية ثالثة، بسبب المحافظين الجدد الذين هم في حاجة ماسة إلى حرب جديدة .
إن ما يعلمه دوغين قطعًا أن الولايات المتحدة ليست بتلك الدرجة من الغباء الاستراتيجي الذي يجعلها تدخل في مبارزة نووية أو حرب محدودة مع روسيا وحلفائها في هذا الوقت بالذات، فحرب العراق كلفتها أكثر من ثلاثة ترليونات من الدولارات، وحرب أفغانستان أيضًا هي الأخرى، والإنفاق على أكثر من 1000 قاعدة عسكرية منتشرة في أنحاء العالم وأعبائها، والأزمة الاقتصادية العنيفة التي خلفتها الرهونات العقارية سنة 2008، وأعباء حربها الكونية الدائرة لحد الساعة على ما تسميه الإرهاب مكلفة أيضًا، في نفس الوقت الذي ترزخ فيه خزينتها تحت أعباء مديونية تفوق 19 ترليونًا من الدولارات.
إن ما يجب أن يعرفه متتبعو الشأن السوري والثورات العربية قاطبة بأنه لا الولايات المتحدة ولا روسيا ولا الدول الأوروبية مجتمعة أو النادي المسيحي ككل على استعداد تام لقبول بداية حرب عالمية أخرى وتقبل ويلاتها بسبب بلد مسلم واحد من ميندناو إلى طنجة، وحتى تركيا الحليف الأوثق في الناتو ليسوا على استعداد لتطبيق معاهدة الدفاع المشترك في حقها، فحتى صربيا “الدولة المقلقة” كما اصطلح على تسميتها بعض الكتاب في العلاقات الدولية والتي أحرجت الناتو وتعرضت بعض وحداتها العسكرية للقصف المركّز والمحدود والذي كان له أغراض أكبر من إنهاء التعرّض للمسلمين البوشناق الذين سبق فيهم القتل في سربرينيتشا وغيرها، وآخرها كان أزمة إسقاط مقاتلة السوخوي الروسية على التخوم التركية السورية خير دليل، والتاريخ المعاصر والتقليدي لم يثبت ذلك أيضًا، بصيغة أخرى لا التيلوروكراتيا ولا التالاسوكراتيا ستتحاربان من أجل شعوب التخوم كما يسميها سمير أمين الجنوبية المقهورة.
نهاية عهد القوة الأحادية المتفوقة وعودة روسيا إلى المناكفة والتأثير
الانحرافات التكتيكية أو الاستراتيجية لا تخلو أبدًا في معادلات صراعات السيطرة على الآماد القريبة والبعيدة في فكر واضعي استراتيجيات الهيمنة، وما أنتجه التدخل العسكري الروسي والأمريكي في سورية يعد وضع عصي في دواليب المعارضة السورية بجميع أطيافها، إذا استثنينا طبعًا تنظيم الدولة الإسلامية من المعادلة، فإن توسيع دوائر النفوذ الروسية في المشرق العربي وما حوله في تزايد على حساب المهيمن التقليدي، ولم تستطع الولايات المتحدة كبح الشهوات التوسعية لروسيا لعدم قدرتها على ذلك وليس لسبب آخر.
الحزام الجيواستراتيجي المأزوم في المشرق العربي وما حوله والذي جاء نتيجة مخاض التدخل الأمريكي عسكريًا في العراق سنة 2003 وما تلاه من تقويض للديمقراطية التي لم تولد أصلاً في هذا البلد
الحزام الجيواستراتيجي المأزوم في المشرق العربي وما حوله والذي جاء نتيجة مخاض التدخل الأمريكي عسكريًا في العراق سنة 2003 وما تلاه من تقويض للديمقراطية التي لم تولد أصلاً في هذا البلد من طرف طائفة على حساب أخرى، وهي نفسها الأسباب التي زادت من تعفن الوضع في المحافظات السنية التي خرجت من رحمها الجماعات الدينية المتطرفة، كل هذا كان صفعة للفكر المحافظي الجديد الذي قال أحد جهابذة تنظيره بول وولفييتز بأن “طريق السلام في الشرق الأوسط يمرّ ببغداد”.
الحرب على أفغانستان بدعوى القضاء على الإرهاب والتدخل العسكري الأمريكي غير المدروس للعواقب الاستراتيجية في العراق سنة 2003، والذي جاء كإجراء احترازي لليمين المتصهين في الإدارة الأمريكية من الخوف على إعادة بناء الأمجاد العراقية التي دكت تل الربيع بـ 39 صاروخًا قبل 12 سنة، هذه الأحداث التي دفعت بالأفول التدريجي الأمريكي للأمام والبروز الصيني والروسي.
لقد كتب روبرت كيوهان مؤسس الاتجاه الليبرالي الجديد بمجلة شؤون خارجية Foreign Affairs في أغسطس 2012، مقالاً تحت عنوان “مبني للمجهول: مآلات القيادة الأمريكية للنظام الدولي”، قائلاً: “إذا نجحت الولايات المتحدة في احتواء الصين، وتقييد حرية حركتها وانغماسها في الشؤون الدولية، فإنها ستنجح في إدامة عمر قيادتها للعالم، والعكس صحيح أيضًا، فإذا توسعت الصين، وتعمّق حجم انغماسها وتدخلها في الصراعات الدولية، فإن التاريخ يعلمنا أن القوى الشابة/ الصاعدة تطرد القوى القديمة/ العاجزة من القمة، وتتولى هي القيادة، ومثلما فعلت واشنطن ستفعل بكين في المستقبل” إلى هنا ينتهي قول كيوهان.
يمكن لروبرت كيوهان أن يستدرك اليوم مقاله السابق والتركيز على روسيا العائدة إلى المقارعة في ساحات التواجد التلاسوكراتي والذي هدّ أساس التوازن الجيبوليتيكي في المشرق العربي وما حوله وشرق آسيا وآسيا الوسطى وبحر قزوين، والدعم المكثّف لانفصاليي أوكرانيا والانتصار الساحق سياسيًا واستراتيجيًا نتيجة ضمّ شبه جزيرة القرم والذي يعّد كانفلات استراتيجي من طوق أناكوندا التلاسوكراتيا (القوى البحرية)، والنقل الكثيف للقوة الروسية المدمّرة في المشرق العربي وما حوله، والذي خلق حالة من الفوضى والتخبّط الأمريكي في ملفات عديدة خصوصًا القضية السورية والأوكرانية.
سورية أصبحت ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية بوضوح تام، فالهجمة العنيفة التي تتعرض لها حلب هذه الأيام أساسها ليس الجماعات الإرهابية أو محاولة القضاء عليهم أو غيرها من المبررات التقليدية لشن الهجمات سواء كان الادعاء من طرف الروس أو نظرائهم الأمريكان، بل هو الخلاف الأمريكي الروسي بالأساس والذي يمكن عزوّه إلى عدم الاتفاق على نقاط هامة أيا كانت كالتواجد العسكري الروسي في طرطوس واللاذقية أو فترة انتقالية بدون الأسد مثلاً، ولن يكون بطبيعة الحال ضمان أمن القلعة الجهوية للأطلسية – كما يطلق عليها دوغين – في المشرق العربي وما حوله “الكيان الصهيوني” لأن كل القوى الدولية أو الإقليمية المتدخلة تضمن ذلك الأمان.
صعود إيران كقوة إقليمية في المشرق العربي
إيران التي تحاول جاهدة تثبيت النظام السوري الذي يتداعى إلى السقوط من خلال مشاركته في الجرائم ودعمه لوجستيًا وعسكريًا وماديًا وإعلاميًا، الولايات المتحدة لم تكن لتسمح بدور ونفوذ أكبر في سورية لو لم تكن تعاني من الانحسار في القوة، فهناك الشراكات الأمريكية الإيرانية الظرفية أو طويلة المدى التي لم تعكر صفوها إلا 444 يومًا من أزمة رهائن السفارة الأمريكية في طهران، في بداية الثورة الإيرانية أو بعض الحزازات في الحرب الأهلية في لبنان أو الملف النووي فيما بعد.
ما قاله محمد علي أبطحي وأكبر هاشمي رفسنجاني كمسؤولين إيرانيين كبار عن التنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية لإسقاط نظام طالبان وصدام حسين في أفغانستان والعراق على التوالي، عززه ما ورد في كتاب الصقر المحافظي الجديد السفير الأمريكي الأسبق في العراق زلماي خليل زادة في كتابه “المبعوث من كابل إلى البيت الأبيض رحلتي في عالم مضطرب” وكل ما ورد في كتاب زعيم اللوبي الإيراني في الولايات المتحدة تريتا بارسي مؤسس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي (NIAC) في كتابه “التحالف الغادر” يعني تحالف الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وإيران، كل هذه التصريحات تمثل قمة جبل الثلج العائم، فالصخرة الكبيرة تبرزها إيران جايت 1985 وما بعدها.
يمكن تفسير الحاجة الأمريكية لإيران على المدى المتوسط بأنها قضية استراتيجية، ولا يمكن تفسيرها بشكل مشروط بأنها أمور مكتوبة أو متفق عليها في أقبية المخابرات أو طاولات التفاوض أو إملاءات للوبي الإيراني في الولايات المتحدة، ولا يمكن أبدًا ربط العلاقة الأمريكية الإيرانية بأنها علاقة المركز والأطراف كما كانت المملكة العربية السعودية، بل يمكن اعتبارها علاقة الوكيل الثالث في المنطقة بعد إسرائيل وتركيا في المنطقة، فالوكيل الإيراني له دور يتمثل في كبح جماح أي قوة إقليمية عربية ناشئة، والسعي الدائم إلى التحرش بدول الخليج العربي للإبقاء على مظلة الحماية الأمريكية وقواعدها ومزيد من عقود التسليح المشروطة للمنطقة.
الإيرانيون الذين أطلق لهم العنان في العراق المأزوم وسورية واليمن
فالإيرانيون الذين أطلق لهم العنان في العراق المأزوم وسورية واليمن يمكنهم فعل أكثر من ذلك، ولقد أثبتوا أنهم أهل للثقة منذ عقود طويلة بالرغم من وجود بعض حقب التوتر والتراشقات الإعلامية اللامسؤولة، فالحاجة الملحة لكليهما هي في ذروتها أكبر من أي وقت مضى، فإيران تحتاج لمزيد من إطلاق اليد وأمريكا تحتاج لوكيل إمبريالي فاعل وموثوق في المشرق العربي تلعب فيه دولة الملالي الدور التقليدي الذي لعبه الشاه محمد رضا بهلوي.
وفي المقابل فإن العلاقة الإيرانية الروسية منذ نهاية الحرب الباردة وثيقة الصلة، والتي تمثلت في المساهمة في إعادة إحياء المشروع النووي الإيراني والعقود التجارية المدنية والعسكرية بين البلدين بالإضافة إلى الاستثمارات الثنائية، لكن بحكم الحدود الجغرافية المتبادلة بين روسيا وإيران وماضي روسيا التدخلي في إيران ووجود العنصر الإسلامي في جمهوريات روسيا الاتحادية والمحاولات الجادة للتبشير بالدين الولاياتي الجعفري بين أوساط المسلمين الروس ومن حولهم من قبل ملالي طهران، وكذا الإطلالة المتبادلة على بحر قزوين، والتنافس في آسيا الوسطى والقوقاز، أو حتى التأثير على التواجد الإيراني في سورية، وعلى هذا الأساس فإن قوة إيرانية أكبر تعني نفوذًا متعاظمًا وتمدّدًا أكبر على حساب الحليف الروسي التقليدي، لذا فإن إيران تعدّ حليفا غير موثوق فيه أبدًا بالنسبة لموسكو والرؤية متبادلة من طرف طهران.
الماضي التدخلي الهنتغتوني لروسيا يشبه تمامًا الماضي الأسود للولايات المتحدة
إن هناك ميولات إمبريالية لروسيا من وجهة نظر هنتغتونية منذ عهد القياصرة حتى بوتين، كانت القيصر الحديدية كاترينا الثانية التي دخلت في لعبة الشدّ والجذب مع العثمانيين في المشرق العربي وما حوله في القرن الثامن عشر، والتي أقل ما يقال إنها أذلّتهم بمعاهدة كانجاري سنة 1774 وحرب القرم الكبيرة في القرن الموالي مع العثمانيين أيضًا، ومناصرة انفلات البلقان والقوقاز من سيطرة العثمانيين كذلك، ودعم حركات التمرّد الكردية والأرمنية ضدّ العثمانيين وفيما بعد الإغارة على أفغانستان وهي الفترة التي كانت كافية لإنهاكها وتقهقرها ولتستمر الحملة الإمبريالية في الشيشان ودعم الصرب الأرثودوكس ضدّ البوشناق المسلمين، وحربين مدمرتين ضدّ الشيشان في 1994 إلى 1996 و1999إلى 2000 على التوالي، ثم الحرب الأخيرة على سورية والتي تبدو وكأنها جاءت ردًا على المسلمين الذين أذلّوها في أفغانستان، والتي تعدّ مجازر رهيبة وحرب إبادة للسوريين المحاصرين في ظل العجز العربي المتمثل في جامعة الدول العربية أو الأممي المتمثل في هيئة الأمم المتحدة في حماية السوريين، أو حتى التحالف الإسلامي المشكّل أخيرًا من 34 دولة.
متطلّبات الأمن المتبادلة من قبل روسيا والولايات المتحدة في المشرق العربي وما حوله
يمكن التعبير عنها بمجموعة من المقدّسات وهي: ضمان أمن الكيان الصهيوني، والإبقاء على الستاتيكو القائم في الأراضي الفلسطينية، والقضاء على الجماعات الدينية المتطرفة، وضمان الإمدادات النفطية الرخيصة، والحرص على عدم بروز الأنظمة الوطنية أو الإسلامية المعادية، والإبقاء على الفوضى المتفاقمة لمزيد من الخراب في البيت العربي خصوصًا دول الطوق لمزيد من عقود التسليح وعقود إعادة الإعمار وعقود الحماية للشركات الأمنية الخاصة، وإذكاء النزاعات العرقية والطائفية، ووأد أي محاولة توافق عربي عربي، والإبقاء على عنصر الاتصال لمنع نشوب أي أزمة بين القوتين، كل هذه الأمور وغيرها هي تمظهر بالغ بسبب قصور الرؤية العربية وصعود وأفول القوى العظمى الغربية بالأساس.