تتصاعد في هذه الفترة الأزمة التي تضرب بأطنابها في أروقة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتُعتبر أحد أبرز المظاهر المعبِّرة عن أزمة الحركات الإسلامية بشكل عام في العقود الأخيرة، بعد أن أُجبرت على أن تتموضع سياسيًّا واجتماعيًّا، بما يتجاوز خبرتها العامة، أو على الأقل وضعها في أحوال مستجدة مختلفة، لم تكن تتحسب لها.
ولا يمكن بحال إسناد هذه الأزمة إلى الحرب التي شنها النظام المصري، بمساعدة لأنظمة أخرى حليفة بشكل تقليدي للدولة المصرية منذ عقود طويلة في المنطقة، ضد الجماعة، وصعَّدت منها خلال الفترة الأخيرة؛ حيث إن تطورات الحدث أظهرت أن الكثير من جوانب هذه الأزمة، كانت بذوره كامنة في داخل الجماعة، بأطرها التنظيمية والتربوية، وأدت الأزمات الأخيرة المتعاقبة، إلى ظهورها إلى العلن.
وبشكل عام، كانت الحرب على الحركة الإسلامية الأقدم في المنطقة، أشبه بالعاصفة التي حركت المياه الراكدة الآسنة في برك ومستنقعات كانت مخفية، مما أدى إلى استثارة رائحة العفونة التي كانت جاثمة فيها، وظهور ألوانها المقيتة أمام أعين الملأ، حتى من عوام الناس ممن يعزلون أنفسهم عن السياسة برمتها.
وعندما اعترضت بعض الأوساط في الجماعة، وغالبيتها من الشباب الذي كان أكثر من تعرضًا لقمع وعنف الأنظمة، ومعه بعض العلماء والقيادات التي أبت أن تستمر هذه الأوضاع الخاطئة داخل الدعوة؛ تمت مواجهة هذه العناصر من الشباب والعلماء والقيادات بذات الوسائل التي واجهت بها الأنظمة العربية شعوبها عندما ثارت عليها، وضربت بها الحركة الإسلامية، من قمع وإقصاء، شمل – في بعض التقارير – حتى تسليم القيادات المعاندة لما يُعرف بالقيادات التاريخية للجماعة، إلى أجهزة الأمن في مصر.
ولسنا هنا في معرض تفنيد أو تأييد هذه التقارير، ولكنها ولئن دلت على شيء؛ فإن مجرد تداولها في حد ذاته إنما يدل على حالة عمق الأزمة الراهنة داخل الأوساط الحركية في جماعة الإخوان المسلمين في مصر، بمختلف مستوياتها، سواء الموجودة في مصر، أو في خارجها، مع تفرُّق أثر الأزمة في تنظيم مصر، على الجماعة على المستوى العالمي.
وطغت هذه الأزمة ببصمتها على تنظيمات وأحزب إخوانية أخرى قُطْرية، كما في تونس والأردن، إلا أن هذه الأحزب والجماعات تمتعت بروح المرونة والجرأة في القرار، من أجل تفادي مصير الجماعة في مصر، والتي باتت في الوقت الراهن أشبه بعائلة “الرحايمة” في فيلم “الجزيرة 1” التي ذهب ريحها بعد غارة النجايحة على عائلتَيْ حفني والرحايمة الأصهار!
كان السلوك الأساسي لما يُعرف بالقيادة التاريخية للجماعة في التخلُّص من معارضيها، هو الفصل، وكان الفصل، والذي طال الآلاف، قد تم تبريره بأن المفصولين خرجوا على تعليمات الجماعة، ولم يلتزموا بمبدأ “السمع والطاعة” الذي يُعتبر في جانب منه، بالصورة الجامدة التي يتم تطبيقه بها، هو أحد صور السلطة المطلقة، والسلطة المطلقة، مفسدة كما في كل أعراف العلوم الإدارية والاستراتيجية.
والأخطر من الجمود الذي يُطبق به مبدأ السمع والطاعة، هو الأساس الذي يتم عليه تطبيقه بهذه الصورة، وهو إسناده إلى أساس شرعي، والقول بأن هذه هي صورة العلاقة بين الحاكم وبين المحكوم، وبين القائد والمَقُود، في الإسلام، وهو عين الحرام.
ولقد مكَّن ذلك الوضع، والذي ترسَّخ عبر عقود طويلة من الممارسة السياسية والتنظيمية، القيادة التاريخية للجماعة، من ممارسة أسوأ ألوان العسف بمعارضيها، وهو ما قاد إلى تفتت تنظيمي حقيقي، في ظل اتساع جبهة المعارضة، إلى رقم بالآلاف، بما لا يمكن معه تفهُّم أية إجراءات تقليدية في حق شريحة غير تقليدية بهذا الحجم من الصف، وفي ظل ظروف غير تقليدية، كانت تحتم على قيادة الجماعة، باعتبارها “الأحكم” و”الأرشد”، أن تستوعب المجموعات التي نادت بتبني آليات مختلفة للمرحلة لإدارة الجماعة، وإدارة الصراع مع النظام في مصر؛ في ظل المتغيرات التي نشأت.
يحمِّل كثيرون الدكتور محمود حسين الأمين العام للجماعة في مصر مسؤولية كثير من الأزمات الراهنة
وزاد من دعم هذا التيار، طبيعة المرحلة الراهنة، وما جرى في الفترة التي تلت ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، وأثبت فشل الأطر والسياسات التقليدية في إدارة شؤون الجماعة، وعلاقاتها مع المكوِّن السياسي المختلف في مصر، بل وثبت وجود تقصير قاد إلى إزهاق أرواح وتشريد واعتقال الآلاف من أبناء الجماعة، وإهدار جهد عقود طويلة مضت من العمل السياسي والدعوي والمجتمعي.
بُنية صناعة القرار في الحكم الإسلامي
في هذا الخِضم تناسى هؤلاء عددًا من الأصول والقواعد الشرعية التي وردت في النصوص، وكرستها الممارسة النبوية، وسلوك الخلفاء الراشدين في الحكم من بعد النبي الكريم “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”.
فمن خلال النصوص والممارسات المرعية في هذا الصدد، كان الله تعالى وتعاليمه وأوامره هو محور طاعة المسلمين الأوائل للرسول الكريم “صلَّى اللهً عليه وسلَّم”، وكان معيار تعاملمهم معه كحاكم، وكان الرسول “عليه الصلاة والسلام”، يتعامل معهم في المقابل بمبدأ الشورى في مختلف الأمور التي لم يرد فيها نص، فلو ورد النص؛ فقد وجبت الطاعة، أما لو لم يرد نصٌّ في المسألة؛ فإن الأمور كانت تسير وفق مبدأ “أهو منزل أنزلكه الله، أم هو الرأي والمشورة؟”، الشهير الذي طرحه موقف الحُباب بن المنذر في غزوة بدر.
وكانت الشورى ملزمة للنبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم” نفسه، وفق ما كان يراه من مصلحة، وما لم يغلِّب الأيسر والأليَن، وفق ما كان يمليه عليه طابعه الشخصي، كما في واقعة فداء أسرى بدر، بينما نزل القرآن الكريم بعد ذلك مؤيدًا لرأي سيدنا عمر “رضي اللهُ عنه”، في قوله تعالى في سُورة “الأنفال”: “مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)”.
هنا الآية (68) تؤكد على مبدأ أنه ما لم يكن هناك نصٌّ؛ فإن الله تعالى، يقدم العفو في حال مخالفة القرار المتَّخذ لاعتبارات المصلحة والرشادة؛ حيث عفا الله تعالى عن قرار النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والذي كان في جزء منه مبنيٌّ على الشورى.
فعندما اختلف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، على ثلاثة آراء، بين عمر وأبي بكر وعبد الله بن رواحة؛ حيث دعا عمر إلى ضرب الأعناق، ودعا أبو بكر إلى العفو، بينما دعا عبد الله بن رواحة إلى إضرام النار في وادي بدر وإلقائهم فيها، فاختار النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، ما كان أقرب إلى طبيعته منها.
وفي كثير من الأحيان، ومن بينها قرارات الحرب والسلم، وعندما يكون الموضوع “الرأي والمشورة”، ولا يوجد فيه نصٌّ؛ كان النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”؛ ينزل على رأي الصحابة، كما رأينا في غزوة “بدر” وكما كان منه من مشورة سلمان الفارسي في غزوة الأحزاب، بحفر الخندق حول المدينة، بينما كان النبي “عليه الصلاة والسلام” أميل إلى رأي آخر، بخروج بالمسلمين، إلى خارج المدينة لملاقاة مشركي مكة المكرمة، واليهود، ومن تحزب معهما من قبائل شبه الجزيرة العربية، حتى تكون المدينة في ظهرهم، وملجأ لهم إذا ما هُزم المسلمون.
إلا أن سلمان رأى أن بقاء المسلمين في المدينة المنورة بعد تحصين دفاعاتها، أفضل؛ حيث مصدر قوة المسلمين ومناعتهم في أوسط الأنصار في المدينة، ممن منحوا النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، والمهاجرين معه، حمايتهم في بيعتَيْ العقبة الأولى والثانية.
في تلكم الأوقات، وكانت أوقات حرجة في حياة الأمة؛ لم يقف أحدٌ من كبار الصحابة يخاطب الباقين بالسمع والطاعة لمجرد أنه محمد بن عبد الله؛ بل كانت الأمور تسير وفق مقتضى المصلحة، وكما ترى جماعة المسلمين.
وكانت هذه الممارسة النبوية أمرًا ملزمًا في عملية السياسة والحكم من جانب الخلفاء الراشدين؛ حيث كان مبدأ طاعة الخليفة أو لله تعالى، كحاكم، هو محور طاعة الرعية له، وإلا فلا طاعة له عليهم.
وهذه الجملة كررها أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وكانت بمثابة دستور عمل الحاكم المسلم في فترة الخلفاء الراشدين، قبل أن تتحول الخلافة إلى ملك عضوض ثم ملك جبري.
هذا هو أساس العلاقة بين الحاكم والمحكوم في نظام الحكم الإسلام، وغير ذلك لا علاقة له بكلمة “نظام حكم إسلامي”.
واسترسالاً مع ذلك؛ فإنه بوفاة النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، انقطع الوحي، وبالتالي؛ فإن قضية الحكم والعلاقة مع الحاكم في الإسلام؛ تتعلق بالشطر الثاني من جملة الحُباب بن المنذر: “الرأي والمشورة”، مع انقطاع مجال “منزل أنزلكه الله”، لأن الله تعالى أكمل للناس دينهم، ولم يعُد هناك بوفاة النبي “صلَّى اللهُ عليه وسلَّم”، مجالٌ لأي إنسان أن يتلقى توجيهات مباشرة من ربه.
فمن هنا؛ يكون القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية هي المجال الأهم للممارسة السياسية والحكم، وكل شيء في أي كيان يعلن تبنيه المنهج الإسلامي، جماعة أو حركة أو دولة.
يرى مراقبون وأعضاء في الجماعة أن هذا المشهد لم يكن ليحدث لولا جمود هياكل عملية صناعة القرار في الجماعة
وفق ما تقدم؛ فإن نظام “السمع والطاعة” بهذه الصورة المعمول بها من جانب بعض ما يسمى بالقيادات التاريحية للإخوان المسلمين، يخالف في أبسط صوره الممارسة النبوية في الحكم والتعامل مع الرعية.
ومن ثَمَّ؛ فإن أهم عوامل الخروج من الأزمة الراهنة، هو تغيير المفاتيح المفاهيمية والتنظيمية المتعلقة بهذا المبدأ، واعتماد الشورى الحقيقية التي يصل إلى القرار من خلال ممارسة شفافة واقعية و”غير موجَّهة”، ضمن عملية إصلاح كاملة وشاملة لهياكل صناعة القرار داخل الجماعة.
فعندما لجأت الجماعة إلى الشورى في قضية نزول الانتخابات الرئاسية من عدمه؛ حدث شكل من أشكال التلاعب، عندما صدر قرار الشورى بعدم خوض الانتخابات، نظرًا للمشكلات المتوقعة التي سوف يقود إليها ذلك القرار، في ظل استمرار المؤسسة العسكرية والدولة العميقة في الهيمنة على مقدرات الدولة، فكان واضحًا أن نزول الإخوان للرئاسيات؛ سوف يقود إلى صِدَام محتَّم مع الجيش.
فتم إعادة التصويت، بعد أن تحدثت قيادات كانت ترغب في نزول الانتخابات الرئاسية، لمصالح قد تتعلق بشخوصها، أو برؤى أخرى مغايرة في تصورها لشكل العملية السياسية في مصر بعد الثورة، إلى من صوتوا بـ”لا” في المرة الأولى، وكان من بينهم فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين، الدكتور محمد بديع نفسه، فكان أن صدر القرار بخوض الانتخابات الرئاسية، والذي كان المفتاح المباشر لمختلف الأزمات والكوارث التي شهدتها الجماعة، وشهدتها مصر بعد ذلك.
إن هذه الأوضاع والتطورات جميعًا لبحاجة إلى إعادة النظر في هياكل الجماعة الشورية والتنظيمية بالكامل، وفي اللائحة ذاتها، بالشكل الذي يضمن عدم مخالفة الأقلية لقرار الأغلبية لهوىً في النفس، في مقابل ضمان عدم استبداد الأغلبية بقرارها على حساب رؤية الأقلية المعتبرة الوزن، وتفادي أية انقسامات، ومن دون ذلك؛ لن تجدي أية محاولات لتوحيد صف الجماعة مرة أخرى.
فعلى أبسط تقدير؛ كما قال أحد الإخوة في تعليق له على ما يجري؛ إن “القائد الذكي والمربي الناجح، يناقش إخوانه ويستوعبهم، بدلاً من أن يغتابهم ويحظرهم”!.