كالنار في الهشيم، انتشر فيديو خريج التوك توك، الذي أشعل مواقع التواصل الاجتماعي، وأشعل معه إشكالية من ثاروا للدماء ومن لم يثوروا، وهي الإشكالية التي تطرأ على الساحة مع كل مشكلة اجتماعية أو اقتصادية، تحدث سخطًا عامًا لدى قطاعات كثيرة من الشعب، وربما تنذر باحتمالية قيام ثورة جياع أو ثورة غلابة، كما تقول بعض الدعوات.
إشكالية الدماء في الأزمة المصرية الحالية، واحدة من أهم المعضلات التي تقف أمام حل الأزمة، أو حتى حلحلة الوضع بعض الشيء، أو هذا ما يعلنه المفاوضون داخل الغرف المغلقة، أو ينشرونه بين قطاعات التأييد التي تتبعهم، وبالتأكيد، هي معضلة حقيقية، في ظل حمامات الدماء المنهمرة منذ الثالث من يوليو، واتخذ من هذا التاريخ منطلقًا للعودة خطوات قليلة للوراء، قبل هذا اليوم بعدة شهور أو حتى سنوات.
حيث إن أغلب الشرائح التي تتحدث اليوم عن الثورة للكرامة والحرية والحقوق، نسيت أو تناست أن دماءً كثيرة أيضًا قد سالت في طريق وصولهم لرئاسة مصر بعد الثورة، ولأكثرية برلمان الثورة، نسيت هذه القطاعات، أنه قبل رابعة والمنصة والحرس الجمهوري، كان هناك محمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو وبورسعيد والعباسية، وبعيدًا عن المكايدة السياسية التي قد يتخذ البعض هذا الاستشهاد طريقًا لإبرازها، فإن هذه الدماء أيضًا كانت تستحق الثورة، ثم دماء مقرات جماعة الإخوان المسلمين ومسيرات تأييدهم للرئيس المنتخب، أليست هذه دماء أيضًا قد أريقت في غمار الصراع المحتدم منذ يناير وحتى الثالث من يوليو؟
ثم بعد ذلك، قضية مَن هذه تلك التي وقعت كارثتها في ميدان رابعة؟ قضية مَن هذه تلك التي سال لأجلها دماء كوبري الدقي في السادس من أكتوبر 2013؟ ثم كل المجازر فيما بعد؟
وبعد كل ذلك، تناسى هؤلاء المنادون بأن هذه الثورة ثورة حرية ودماء فقط، هتاف الثورة الأولى الذي جمع مصر بكل طوائفها، هذا الهتاف الذي كانت بدايته، هي العيش، وهنا سؤال جديد، لماذا كانت الثورة في تلك الأيام ثورة عيش أولًا ثم حرية وعدالة اجتماعية، أليس مبارك هو القامع للحريات وشرطته التي قتلت سيد بلال وخالد سعيد، وغيّبت الإخوان في السجون، وأنهكت القوى المدنية، هو هو مبارك الذي أوصل أكثر من 45% من المصريين إلى تحت الفقر، وسرطن الطعام وسرق قوت الشعب وأفقره؟
هذا هو بيت القصيد، إن ذلك المواطن القابع في بيتٍ آيل للسقوط في رملة بولاق، لن يهتم أن محمد مرسي عزله السيسي بقوة السلاح، بقدر اهتمامه، بكيف سيحصل على قوت يومه غدًا ليطعم أفواه أبنائه التي نسيت طعم اللحم؟ هو غير عابئ بأن المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، قد حكم عليه بالإعدام بدون جريمة، كما يعبأ، بكيفية توفير عبوة لبن لابنه الرضيع الذي طرده أمن المستشفى دون أن يحصل على عبوة لبن له، هو أيضًا بالمناسبة، لا يعنيه أن الاتحاد الأوروبي، قد أعرب عن قلقه إزاء انتهاكات حقوق الإنسان، بقدر ما يهتم بكيلو السكر الذي وصل إلى عشرة جنيهات.
بل دعني أصل بك عزيزي الناقم على غضب الغلابة، إلى اتهامك بأنك سبب حقيقي وأساسي في تغييب وعي هذا المواطن، وأنت الذي يجب أن تحاسب بعدم تصديرك خطاب، لن يفهمه ولن يعيه ولن تهمس له بنت شفه بعد أن يسمعه.
بعد الانقلاب، اهتم الإعلام المناهض للانقلاب ولعبد الفتاح السيسي، بخطابٍ أحادي التوجيه، للفئة التي تتبعه بالأساس، للفئة المقتنعة بكل ما يقول وكل ما يريد أن يوصله.
كم برنامج في القنوات التي تبث من تركيا، يهتم بأوضاع العمال؟ باقتصاد الناس؟ بلقمة عيشهم؟ بمعيشتهم اليومية؟ وما يصحون وينامون لأجله؟ كم مقال كتب في هذا الاتجاه؟ كم تقرير نشر يخص هؤلاء بشكل أساسي؟ الإجابة أنه لا شيء.
كل يوم، السيسي قاتل وسفاح وقائد انقلاب ومرسي الرئيس الشرعي ومؤيدو الانقلاب أقذر من أنجبت البطن الإنسانية، ثم ماذا بعد؟
إن الذي يلام في هذا هي تلك النخبة التي تصدّرت الشاشات بهدف إيصال وجهة النظر الأحادية، في نفس ذات الوقت الذي تريد فيه أن ينضم لها شرائح جديدة في جانب المعارضة والمناهضة، كيف ذلك؟ من أقنع هؤلاء بصواب هذه المعادلة المتنافرة الأطراف؟
أقرب مثالٍ على ذلك، ما فعله الفيديو الأخير الذي بثته قناة الحياة، دقائق معدودة حرّكت في كل الناس ما لم تحركه فيهم المقدمات النارية والخطابات الرنانة والتصريحات العنترية التي تطلق هنا وهناك.
في المقابل، تعرّض المواطن لعملية غسيل مخ وتزييف وعي وطمس لحقائق من قبل أعدائه هو بالأساس، إعلام الشؤون المعنوية، وأريد هنا عقد مقارنةٍ قصيرة بين هذا المشهد وذاك، فبين هذا وذاك تاه المواطن في بحثه عن لقمة العيش.
لم تنزل الجموع في الثلاثين من يونيو بسبب أن مرسي قائد سياسي فاشل أو سيسعى لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الدول الأخرى أو يريد أن يهدم الديمقراطية التي بنتها ثورة يناير، بل نزل الناس إلى الشوارع، بسبب الأزمات المعيشية المفتعلة، التي مسّت المواطنين، وصدّرها الإعلام لهم، وظل سنةً كاملة لا سيرة له ولا خبر سوى هذه الأزمات، سوى بطن المواطن ونومته وجيبه، هذا ما يحرك الناس وهذا ما يقلقهم.
أضيف على ذلك، أن القمع الذي حدث منذ الثالث من يوليو يرعب أي إنسان على وجه هذه الأرض، أكثر من خمسين ألف معتقل، وآلاف الشهداء والمصابين والمطاردين، كل هذا، كما يعكس فاشية هذا النظام، فإنه يعكس أيضًا لدى كل الناس ومعظم الشرائح التي لا تهتم بالسياسة، حالة من الرعب والخوف من اتخاذ موقف قوي في مواجهة هذا الفاشل والفاشي.
هذا الفاشل أصبح يستعدي كل طوائف الشعب بكل ألوانه وفئاته، فإذا أتت هذه الطوائف لتثور اليوم من أجل لقمة عيشها، نرفصها بقدمنا لأنهم لن ينضموا لنا في معركتنا السياسية مع النظام؟ هل ينكر أحد أن الإضرابات العمالية والفئوية أثناء حكم مبارك، كانت واحدة من أهم نقاط الانطلاق نحو ثورة يناير ومهدت الكثير لهذه الثورة؟ لماذا لم يمتنع السياسيون حينها عن مناصرة الغلابة، لأنهم تظاهروا من أجل قوت عيالهم وليس من أجل إقامة مناخ سياسي حقيقي وتوطيد الديمقراطية؟
أعود لنقطة الدماء سريعًا، فمن نزل في رمسيس يوم السادس عشر من أغسطس 2013 عقب مجزرة الفض، يعلم تمامًا أن كل هؤلاء الغاضبين من المذبحة، الذين عجت بهم الشوارع ليسوا من أبناء الجماعة، بل هم الآلاف الذين أغضبتهم الدماء التي سالت، ورغم ذلك، لم تستفد قيادتك الحكيمة بهذا المشهد الذي أدير بعدم تنظيم وعكس حالة التيه التي عاشتها وتعيشها هذه القيادة، ثم هل المحافظات التي حمل فيها المواطنون السلاح وطردوا الأمن من مقرات المحافظات وسيطروا عليها غضبًا من المذبحة، وأخبرتك قيادتك أنه عليهم التراجع، كانت هذه الجموع أيضًا، تنتمي إلى صفوف الشرعية؟
خلاصة القول، أن الخطاب الذي وجهه المعارضون للسيسي بعد الانقلاب، لم يكن مهمًا لدى هذه القطاعات، ولم يحرك فيهم أي شيء، وينبغي الآن إعادة توجيه خطاب يهم هؤلاء ويلمس مشكلاتهم، ليروا فيه ما يدفعهم إلى الثورة والغضب إن كان صنّاع هذه الخطابات يريدون حقًا أن ينضموا لهم ويقفوا موقفهم.