مر على مجاعة أوريسا التي وقعت عام 1866م، مائة وخمسون عامًا، كانت أوريسا وقتها تتبع ولاية البنغال حيث كانت تحت إدارة الاستعمار البريطاني والذي أتبع الهند قبلها بتسعة أعوام للتاج البريطاني عقب ثورة 1857م ضد شركة الهند الشرقية والتي كانت تحكم الهند كأمر واقع، وذلك بعد أن تمرد الجنود المسلمون والهنادك والذين كانوا يعملون لدى الشركة إثر تلقيهم الأوامر من ضباطهم الإنجليز، متجاهلين لمشاعرهم الدينية، أن يشحموا بنادقهم بشحوم قيل إنها احتوت دهون الخنزير المحرمة عند المسلمين ودهون الأبقار المحرمة لدى الهنادك.
وأعلنت الثورة حينها السلطان أبو الليث محمد بهادر شاه، آخر السلاطين المسلمين في دلهي، زعيمًا للثورة وكان حينها قد جاوز التسعين من العمر، فقام البريطانيون بقمع الثورة بطريقة ما زالت إلى اليوم تعد سبة في جبين البشرية، حتى إنهم ربطوا الثوار على فوهات المدافع وفجروهم وحولوا دلهي إلى خراب بعد أن كانت أزهى مدن الهند وأجملها، وقتلوا أولاد السلطان ووضعوا رؤوسهم على مائدته ثم نفوه إلى بورما.
تأخر الأمطار الموسمية يحل الجفاف
تعتمد الزراعة في الهند عمومًا على الأمطار الموسمية والتي تنزل عادة من شهر تموز/ يوليو إلى أيلول/ سبتمبر، ورغم أهمية الأمطار الموسمية للهند، فالبعض يسميها تندرًا وزير المالية الهندي، لأنها مصدر المياه الأساسي الذي تعتمد عليه الزراعة وثروات الناس عمومًا، فإنّ معرفة أسبابها ما زالت موضع جدل بين العلماء والمختصين حتى اليوم، ممّا جعل من الصعب القدرة على التنبؤ بكمياتها زيادة أو نقصًا، وهي وإن كانت تبدأ في الجنوب الغربي من شبه القارة الهندية في شهر حزيران/ يونيو ثمّ تنتشر لتغطي بقية الهند خلال الأشهر الثلاثة اللاحقة، إلا أنها كثيرًا ما تتأخر أو تنزل بكميات غير كافية فيحلّ الجفاف على البلد ويقلّ الغذاء، وكثيرًا ما حصلت المجاعات بسبب ذلك.
ورغم انتشار المجاعات المريعة والتي ذهبت بأرواح عشرات الملايين من الهنود تحت الاستعمار البريطاني، يلاحظ غياب المجاعات أو قلّتها منذ استقلال الهند عن الحكم البريطاني، رغم تراجع المنسوب السنوي للأمطار الموسمية بنسبة 10%، وعدم حصول تطور ملحوظ في وسائل المواصلات في هذه الفترة، فسكة الحديد والموانئ وأنظمة النقل لم تتغير كثيرًا منذ الاستقلال، والنظام الإداري الذي كان يدير الإمبراطورية البريطانية التي لا يغيب عنها الشمس، ما زال يشهد له بالكفاءة والفعالية.
المجاعات في التاريخ
نتيجة لتقلب الرياح الموسمية وتأثيرها على الإنتاج الزراعي، فقد تسجيل العديد من المجاعات قبل وصول المستعمر البريطاني إلى الهند وحكمها لها، البعض يزعم أنها أكثر من مائتي مجاعة، إلاّ أن المجاعات التي شهدها الحكم البريطاني كانت الأسوأ على الإطلاق، في ظل اتهامات مباشرة للحكم البريطاني بتعميق أسباب المجاعات وتجاهل معاناة السكان ومحاولة الإثراء على حسابهم.
وقد سجل العهد القديم في سفر التكوين والقرآن الكريم في سورة يوسف قصة نبي الله يوسف عليه السلام وكيفية معالجته لمشكلة الجفاف التي استمرت مدة سبع سنين وتجنبه المجاعة التي كانت ستحل بمصر من خلال معالجات إدراية واقتصادية ذكية، جنّبت البلد والسكان المعاناة والدمار.
كما ينبئنا الرحالة الأمين ابن بطوطة والذي استوطن مدينة دلهي في الهند في عهد الشاه محمد بن تغلق في رحلته المسماة “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، كيف كانت الدولة تدخر الحبوب الأساسية في مخازن خاصة للتحكم في ارتفاع الأسعار ولمواجهة المجاعة، وقد أكد نفس القصة العلامة عبد الحي الندوي والد العلامة أبو الحسن الندوي في كتابه الرائع عن تاريخ الهند، “جنة المشرق ومطلع النور المشرق”، وخلافًا للحكام المحليين الذين أوجدوا بعض الحلول لمشاكل مواطنيهم لمواجهة الجفاف الموسمي، كان الحكم البريطاني حكمًا أجنبيًا لا يهمه مصلحة المواطنين أو البلد المحتل، إلا بمقدار ما يدر لهم من منافع ويخدم لهم من مصالح.
كيف أسهم البريطانيون بحصول المجاعات المتكررة؟
لا يمكن الزعم أن البريطانيين لم يكونوا على وعي ودراية بكيفية التعامل مع المجاعات، فقصة النبي يوسف وكيفية تدخل الدولة لمواجهة المجاعة المحتملة معلومة للقاصي والداني، كما أنّ بريطانيا نفسها سبق وتعرضت لمجاعات أودت بحياة الملايين، مما يجعل القول أن بريطانيا لم يكن لها يد في المأساة وأنّها كالحكام الذين سبق لهم حكم الهند، لم يكن بيدها الكثير لتفعله، محض هراء لا يستقيم في ذهن عاقل.
لقد أثبتت الدراسات العديدة على صعيد الفكر أن المستعمر البريطاني كان يتبنى نظرة مادية فوقية بالتعامل مع البلدان المحتلة والمستعمرة تنبع من عقيدة دارونية ترى البشر مستويات، أعلاها “الرجل الأبيض”، والذي ينظر إلى غير الأوروبيين كهمج متخلفين يفتقرون لأبسط قدرات الإنسان العقلية والشعورية، وتكمن مهمته في جعل باقي سكان المعمورة متحضرين بتبنيهم لأسلوب الحياة الغربي وتبني مفاهيمه ورؤيته للكون، وهو ما يسمى “بعبء الرجل الأبيض”، وهو إذ يستعمر هذه البلدان ويمتهن أهلها، إنما في الحقيقة يقوم بمهمة مقدسة تفرضها عليه مسؤوليته كونه يجلس على قمة الهرم الإنساني، وما معاناة الشعوب المقهورة إلا ثمن طبيعي لاكتساب التمدن وللالتحاق بركب المدنية الغربية، على اعتبار أنها نهاية ما أنتجه الكائن البشري، وعلى حد تعبير فوكوياما “نهاية التاريخ”.
أما على صعيد السلوك، فإنّ البريطانيين كان يتسمون بقدر هائل من النرجسية والاحتقار للثقافة المحلية، على اعتبار أنها نتيجة فكر ومجتمع متخلّف، ولقد كان سائدًا عند بعض سكان الهند على سبيل المثال، أن المجاعة عادة ما تتبع موسم تفتح أزهار القصب، وهي حادثة تحصل ما بين كل 65-120 سنة وفي بعض الأنواع من 30 إلى 35 سنة، إذ إن مرحلة الإزهار تتبعها قطوف تحمل ثمار البامبو وهو ما يسمى بأرز البامبو بكميات كبيرة، يعقبها موت غابات البامبو لتعود كي تولد من جديد، وتأتي الرياح لتنشر أرز البامبو كالرمال في أرض الغابة مما يوفر غذاءً وفيرًا للقوارض وخصوصًا الجرذان والتي تبدأ بالتكاثر بأعداد هائلة، وعندما تموت الغابة ينقطع الغذاء عن الجرذان والتي تكون قد صارت بأعداد فلكية، فتهاجم الغلات ومخازن الغذاء ومدخرات الفلاحين، ما يقود إلى تلاشي المخزون الغذائي، فإن ترافق ذلك مع موسم الجفاف كانت قدرة الفلاحين على المقاومة ضعيفة للغاية فلا يستطيعون الصمود في وجه شح الغذاء فتحصل المجاعة.
إن ربط الإنسان المحلي بين إزهار قصب البامبو وتكاثر الجرذان ثم المجاعة كان نتيجة خبرة تراكمية توارثتها الأجيال وليس خرافة لا أساس علمي لها كما زعم العلمويون، كما أثبت الملاحظة والدراسات الحديثة.
بيد أنّ المؤرخين، يجادلون في رغبة السلطات البريطانية ابتداءً في مقاومة المجاعة، فالتدخل في هذه الحالة كما يروي لنا المؤرخ الهندي دنيار باتيل في مقاله المنشور حديثًا على موقع بي بي سي، هو في عرف الحكام البريطانيين نوع من الخيانة لأنه تدخل في آليات نظرية مالثوس والتي تعتمد على أن يصحح الاقتصاد نفسه، بالطبع بعد أن يتخلص العالم من العبء الزائد على الموارد الطبيعية، وهم هنا سكان الهند، فتعود لتسود حالة التوازن الاقتصادي من جديد، بل إن حاكم ولاية البنغال حينها Cecil Beadon (1816م-1880م) والتي تتبعها أوريسا يومها لم يدع “التصحيح المالثوسي” يأخذ مجراه بعدم المبادرة لإنقاذ الناس من المجاعة فحسب، بل منع الحملات الأهلية الطوعية للتدخل لصالح المنكوبين، زاعمًا أنّ المجاعة حادثة ربانية لا يمكن لحكومة أن تتدخل لحلها، وفي نفس الوقت تبين أنّ ولاية البنغال التي كان يحكمها كانت تصدر مائتي مليون باوند من الأرز لبريطانيا.
بالطبع فقد يقول قائل إن سياسية السير بيدون لم تكن تمثّل بريطانيا، ولكننا بتتبع المجاعات المتتالية نرى نفس النسق من المعالجة بل قل اللامعالجة يتكرر في كل مرة وينتج عنه ملايين الضحايا وذلك في كل المجاعات الخمس والعشرين التي شهدها الحكم البريطاني للهند ومنها مجاعة البنغال الكبرى عام 1769م- 1773م والتي ذهب ضحيتها حينها حوالي عشرة ملايين إنسان وكان من أسبابها المباشرة إجبار شركة الهند الشرقية السكان المحليين على التخلي عن زراعة الحبوب وزراعة الأفيون بدلًا عنه.
فعلى سبيل المثال أدّت المجاعات التي حصلت ما بين عامي 1860م وبداية القرن العشرين لوفاة خمسة عشر مليون إنسان في الهند، وهو ما يعادل بميزان اليوم حوالي ثلاثمائة مليون إنسان، ويرى باتيل أن سياسة عدم التدخل التي انتهجها المندوب السامي والحاكم العام الأول للهند لورد ليتون (1831م-1891م) في مجاعة مدراس والتي حصلت بين عامي 1876م-1878م والمسماة المجاعة الكبرى أودت بما يزيد عن حياة خمسة ملايين إنسان، ومن المعروف عن اللورد ليتون إيمانه بما يسمى الدراونية الاجتماعية.
التلاعب بالتكامل الاقتصادي للبلدان المحتلة
اعتمدت الدول فيما مضى على فكرة الاكتفاء الذاتي خصوصًا في مجال الغذاء، فنادرًا ما كانت تلجأ كهذه الأيام إلى استيراد الغذاء من الخارج، ولعل أول من سنّ سنّة استيراد المواد الغذائية الأساسية على نطاق واسع هم المستعمرون الأوروبيون، وكان هدفهم من ذلك تحويل بلدان بأكملها إلى مزارع مخصّصة لإنتاج صنف واحد من المواد الزراعية، كما فعلوا بجزر الكاريبي عندما حوّلوها لزراعة السكر، أو بورما لزراعة الأرز، أو ماليزيا لزراعة المطاط، فكانوا يجبرون السكان على تبني الأصناف التي تتكامل مع مخططهم الاستعماري والذي يقضي بأن يحصل على أكبر إنتاج ممكن من مستعمراته، وكان يزوِّد السكان المحليين بما يحتاجونه من غذاء إذا لم يكف بحاجتهم السوق المحلي، من خلال استيراده من مستعمراته الأخرى، وهو ما عنى أن السكان المحليين سيكونون دائمًا رهائن بيد المستعمر الذي يمسك بكيس الغذاء في يده يمنحهم إياه إذا رضي ويمنعهم منه إن قرروا أن يخالفوه.
وما حصل خلال مجاعة البنغال وهي آخر مجاعة شهدتها الهند تحت الاحتلال البريطاني، شاهد على هذه السياسة، إذ إن السكان المحليين استهلكوا ما أنتجوه من غذاء كالعادة معتمدين على أن الإدارة البريطانية ستوفر ما يحتاجونه من غذاء من خلال استيراد الأرز وهو الطعام الأكثر شيوعًا عندهم من بورما، ومع احتلال اليابانيين لسنغافورة في الحرب العالمية الثانية وللمنطقة كلها، انقطع الغذاء عن الهند وتصادف ذلك مع حصول الجفاف والمجاعة في المناطق الغربية من الهند والتي يفترض أنها أكثر خصبًا بحكم تعرضها للأمطار الموسمية أولًا.
لم ترحم السلطات السكان المحليين فأخذت بتجنيد عدد أكبر من الجنود الهنود لمواجهة الهجوم الياباني المحتمل، وأخذت تخزن المواد الغذائية لصالح قواتها العسكرية على حساب الناس الذين يعانون من المجاعة، وعندما انتشرت الإشاعات بين الناس أن السلطات تخزّن الحبوب بينما الناس يموتون من الجوع، هاجم المواطنون الميناء حيث كانت الحبوب مخزّنة فوجدوا أن مياه الأمطار التي نزلت متأخرة قد أدت إلى تعفنها وعدم صلاحيتها للاستهلاك البشري، وهو ما حصل قبل ذلك في مجاعة أوريسا التي بدأنا هذا المقال بالحديث عنها، فقد ضغطت شركة الهند الشرقية على الناس بترك صناعة النسيج والاتجاه إلى الزراعة والتي كانت تخدم السياسة الاستعمارية التي كانت تتعامل مع البلدان المستعمرة كوحدات إنتاج والبشر كأدوات إنتاج لا أكثر، وعندما لم يستطيعوا أن ينتجوا ما يكفيهم من الغذاء نتيجة القحط، وارتفعت أسعار السلع الغذائية لم يكن بوسعهم شرائها أيضًا من الأسواق بما كان يحصلون عليه من مردود هزيل من الزراعة.
خاتمة
فيما كان اللورد ليتون يمارس أبشع أنواع القتل بحق الشعب الهندي كان يكتب أشعار الغزل والنثر الأدبي الراقي، كما يمارس القادة الأوروبيون اليوم الوعظ عن حقوق الإنسان وضرورة احترام القوانين الدولية وحق تقرير المصير، وهم يمارسون أبشع أنواع التطهير العرقي دون أن يرّف لهم جفن أو يشعروا بوخز الضمير، مما يؤكد أن الخطاب الاستشراقي القائم على الدارونية الاجتماعية ما زالت له اليد العليا في الذهنية الغربية.