في كتابه “الجيل الأغبى: كيف حول العصر الرقمي الشباب الأمريكي إلى أغبياء وعرض مستقبلنا للخطر – أو لا تثق بأي شخص تحت سن الثلاثين” (2008)، تحدث مارك باورلاين أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة إموري عن الفراغ الفكري لدى الشباب الأمريكي تحت سن الثلاثين والحقيقة المقلقة التي لا تقبل الجدل: ثقافة الإنترنت تحول الولايات المتحدة إلى دولة من يعرف الكثير عن لا شيء. مع دخول العصر الرقمي توقع كثيرون أنهم وجدوا الجواب المأمول لسؤال: ما هي الثقافة التي سنتيحها لأبنائنا وما هو أثرها عليهم؟ بدت شبكة الإنترنت والبريد الإلكتروني والمدونات وألعاب الفيديو واعدةً بجيلٍ أكثر ذكاءً ووعيًا وتطورًا فكريًا، ودخل مصطلح “اقتصاد المعلومات” إلى صفحات القاموس، وافترض الأمريكان أن مراهقيهم سيستخدمون المعرفة وفهم التكنولوجيا لفصل أنفسهم عن المتحكمين بالعصر الرقمي.
لكن التنوير لم يحدث، فالتكنولوجيا التي كان يفترض أن تجعل البالغين أكثر ذكاءً، وأن تنوع أذواقهم، وتطور مهاراتهم اللغوية كان لها أثر معاكس تمامًا. وجدت إحصاءات في عام 2008 أن معظم الشباب الأمريكان لا يقرؤون الأدب، ولا يزورون المتاحف، ولا يصوتون في الانتخابات، لا يمكنهم تفسير مناهج علمية أساسية، ولا تذكر التاريخ الأمريكي الأساسي، ولا حفظ أسماء ممثليهم السياسيين المحليين، ولا تحديد موقع العراق أو إسرائيل على الخريطة.
اليوم بعد ثماني سنوات على نشر كتاب باورلاين أصبح الجيل الذي تحدث عنه شريحة طاغية في الولايات المتحدة تؤثر في اختيار رئيس الدولة الأقوى في العالم، جيل فاقد للتركيز، لا يقرأ الكتب والشرح المطول للسرديات المهمة، ولا يكتب إلا الرسائل القصيرة والتعليقات، وينشغل بتفقد فيسبوك وتويتر والرد على البريد الإلكتروني.
تناول باورلاين مؤخرًا سمةً جديدةً أنهكت الثقافة الأمريكية على حد وصفه وقد تؤدي إلى مزيد من أمثال دونالد ترامب، وهي الحساسية المفرطة التي فاجأت شريحة كبيرة ممن يتردد في أذهانهم سؤال “ما الجديد؟” الذي يجول في خاطر كل مستخدم لشبكات التواصل الاجتماعي، يقدم الكاتب قراءته لمسألة جدلية في الراهن السياسي الأمريكي: من أين جاء ترامب؟
ترامب يقود التمرد ضد اللزوميات
بعد فضيحة ترامب المدوية الأسبوع الماضي – مقطع الفيديو الذي يتبجح فيه بقدرته على التحرش بالنساء دون موافقتهن – تنفس معارضوه الصعداء وأدركوا أن هذه هي لحظة النهاية لدونالد البغيض، لكنهم لا زالوا يتساءلون: كيف لسوقي مثله أن يصل إلى الترشح للرئاسة الأمريكية؟ حاول باورلاين تقديم إجابة لهذا السؤال في مقالة نشرها مؤخرًا على مدونة VOX تحدث فيها عن حتمية وجود ترامب والحاجة الراهنة في أمريكا إلى قواه التخريبية. فشل كثيرون حسب باورلاين في إدراك البعد الجوهري لجاذبية ترامب الذي لا يكمن في سياساته أو في دهائه الاقتصادي، ولكن في قدرته على قلب المعايير الاجتماعية التي ملها كثير من الأمريكان.
على سبيل المثال دمر ترامب صورة الإعلام في أعين الأمريكان، لم يعد الإعلام مختبئًا في الكواليس يبث للمشاهدين ما يشاء بل أصبح الإعلام نفسه تحت الأضواء، نادى ترامب وسط آلاف المحتشدين: لا تنظروا إلي، أديروا وجوهكم وانظروا إلى الصحفيين والمصورين، إنهم كاذبون! كانت هذه اللحظة صعبة جدًا على الصحفيين ولكنها من أسعد اللحظات لدى شريحة من الأمريكان، هذه هي الديمقراطية التشاركية حيث يصور الناس المصورين ويتهكمون على الكتاب الذين يتذمرون من هذه السلوكات العفوية النابعة من عدم اعتراف بسلطة الإعلام الذي ينتقي ما يريد ويبثه للناس.
كانت هذه لفتة ذكية جدًا من ترامب لا بد من الإشادة بها حسب باورلاين، فجأةً اختفت قواعد السياسة وأدرك ترامب أن الناخبين الجمهوريين لم يكونوا يبحثون عن سياسي محافظ محترم ذي خبرة يمكنه تغيير مسار البلاد بعد رئاسة أوباما، لكنهم كانوا يبحثون عن مقاتل، ولم يكن أي تفصيل عن الجدار الذي وعد ترامب ببنائه على الحدود مع المكسيك مهمًا بل على العكس من ذلك كان كافيًا أن يصرخ بكلمة “جدار” (wall) لتتحول إلى شعار لدى داعميه، وكانت كل ما تتطلبه هزيمة هيلاري كلينتون التي اتهمت ترامب بالعنصرية وبالإساءة إلى النساء على منصة أمام الشعب الأمريكي هو بعض التهديدات الساذجة من ترامب التي عفا عليها الزمن أصلًا.
الثقافة الأمريكية المنهكة
يفترض أن يعي المثقفون أن التاريخ يسير في مستوى أعمق مما تظهره الأحداث اليومية حسب باورلاين، فنحن يمكننا بالنظر إلى الماضي أن نرى التوجهات والحقائق التي قد لا يدركها البعض الآن، وهو ما يطلق عليه الفيلسوف الألماني هيغل “مكر المنطق” (the cunning of reason) وهو أن تتقدم أفكار وقيم معينة من خلال أفراد وأفعال محددة، يقول هيغل: عندما تبدأ إحدى مراحل التاريخ بالانحدار فإن “الفرد التاريخي العالمي” عادة ما يظهر عنيدًا عازمًا قويًا فيخرب الوضع الحالي وتتجسد فيه أعمق الآمال والمخاوف، لا يحتاج هذا الفرد إلى الذكاء أو الخلق وإنما إلى الانسجام مع اللحظة الراهنة، هو مبدع أحيانًا ومدمر في أحيان أخرى، لكن وجوده أمر لا مفر منه.
كان وجود ترامب أمرًا لا مفر منه كما كان وجود المرشح الديمقراطي بيرني ساندرز حسب باورلاين، فبحلول نهاية عام 2015 كانت الثقافة الأمريكية قد أنهكت بعد ثماني سنوات من رئاسة أوباما وثمانية أخرى من حكم جورج بوش الابن، ولم يتبق لدى الأمريكان العاديين أمل من النوع الذي قد تحفزه السياسة عادةً وسادت حالة “ما الجديد؟”، ولم يطل الأمر حتى برزت شخصية شعبوية هشة ماكرة في اندفاعها غير آبهة بالمبادئ الاجتماعية ومولعة بمواجهة الإعلام وهي دونالد ترامب.
إذا كانت مشاكل الناخبين سياسية أو اقتصادية تحتاج إلى تعديلات في القوانين والسياسات فإن الجمهوري المخضرم جيب بوش كان المرشح الأفضل لتحقيق ذلك، لكن الاضطرابات الحالية أعمق من انخفاض الأجور وفشل السياسة الخارجية فهي تضرب في عمق معنى أمريكا وقواعد الحياة المدنية فيها، ساد النكد على المزاج الأمريكي العام، وذلك ليس بسبب شح فرص العمل وزيادة تكاليف العلاج، ولكن لسبب آخر حسب باورلاين: وهو غرق المجتمع الأمريكي عميقًا في الحساسية والذنب لدرجة دفعته إلى التخلي عن الحرية التي يتبناها طرفا المعادلة السياسية التقليدية الليبراليون والمحافظون، الحرية التي تقبل المجتمع المفتوح وحرية التدين وحرية الرأي وتجبر المواطن على لجم نفسه عندما يصادف عبارات وسلوكات مزعجة.
إن مجتمعًا مليئًا بأفراد تسهل إهانتهم يتحول في النهاية إلى مجتمع غير حر تسوده سلوكات ومعايير الإذعان والاحتراس، مجتمع يتصنع أسلوب حياة لا يقبل بانتهاكه، هذا هو نمط الحياة الأمريكية الذي يدافع عنه مؤيدو ترامب ويرفضون كل ما يشذ عنه.
عقلانية ترامب: الليبراليون ظلموا قبل أن يظلموا
أرسل عميد في كلية إيموري الأمريكية مؤخرًا مذكرةً إلى الأساتذة دعاهم فيها إلى إيلاء حادثة مقتل رجل أسود على يد رجال الشرطة في بلدة شارلوت أهمية خاصة، أثارت الحادثة تظاهرات وردود أفعال “مقلقة على نحو خاص” حسب العميد الذي دعا الأساتذة إلى مراعاة الطلاب السود الذين قد يتغيبون عن الدروس ولا يكتبون وظائفهم، وإلى توخي الحذر في الحديث معهم ومحاولة التوسط في الحوارات بين الطلاب وتهدئة الأجواء المحتقنة، يقول باورلاين إن معظم زملائه الأساتذة اكتفوا بقراءة عبارة “انتبهوا لما تقولونه” ولم يكملوا قراءة المذكرة.
أثار ظهور حركة “حياة السود مهمة” Black lives matter حوارًا شائكًا في المشهد السياسي الأمريكي؛ فبينما يردد السياسيون والنشطاء المؤيدون للحركة شعارها، يتجنب فريق آخر ذكره ويرددون عبارة “حياة الجميع مهمة” All lives matter، تثير العبارة الأخيرة سخط شريحة من النشطاء والسياسيين لتجاهلها جوهر القضية وهو الدفاع عن حياة السود المظلومين وفق إحصائيات من قبل النظام الشرطي والقضائي الأمريكي، عندما صرح حاكم ولاية ميريلاند السابق الديمقراطي مارتن أوميلي أمام حشود في منطقة فينيكس قائلًا: “حياة السود مهمة، حياة البيض مهمة، حياة الجميع مهمة” قوبل بأصوات استهجان من الحشود وبانتقادات لاذعة على وسائل الإعلام.
شهدت الأسابيع والشهور التالية آلاف الاعتذارات من أوميلي وأمثاله التي بعثت الحياة في تقليد الاعتذار في السياسات الأمريكية، اعتذارات يبدو عليها التصنع الواضح، يقول باورلاين: عندما تصبح المشاعر والعواطف معيارًا للسلوك والحقوق مدفوعًا من قبل الإعلام والسياسيين فإن البلاد دخلت في حالة من الجنون، هذا ليس مجتمعًا يسير نحو مزيد من التسامح والتنوير بل نحو مزيد من التحريم والعشائرية، عندما تبدل حركات الحقوق المدنية أهدافها النبيلة بإهانة الآخرين والحط من قيمتهم وقدرتهم على التعبير فإن هذا خطأ يحتاج إلى تصحيح، ومن قبل من؟ صدق أو لا تصدق من ترامب وأمثاله.
صحح ترامب هذه الظاهرة في خطاب له بولاية ألاباما في فبراير الماضي، مرت حينها مجموعة من الشباب السود رافعين قبضاتهم في الهواء ويرددون شعارات “حياة السود مهمة” وراءه وهو يتحدث أمام حشد من مؤيديه، ردد ترامب: “آايي ييه” مؤيدًا لهم بهدوء حتى ذهبوا، بدأ بعض المحتشدين بالتهكم، لكن ترامب تدخل لاحتواء جو الضغينة ومواجهة حركة حياة السود مهمة بقوله: “انتظروا، علينا أن نحب الجميع. حياة الجميع مهمة. تذكروا ذلك”، ثم تابع إهانة أحد السياسيين الجمهوريين في حديثه.
قدم ترامب تصحيحًا آخر في الشهر نفسه في إحدى مناظرات الحزب الجمهوري حين أكد أن حرب العراق كانت خطأً فادحًا وأن الولايات المتحدة أخطأت، لم يتأثر ترامب من صدمة المرشحين الآخرين ولا من تحليلات “خالف تعرف”، فعلى الرغم من التشكيك – المصيب – في معارضته للحرب سابقًا إلا أنه تمكن من كسر ما تحرمه عصبة الجمهوريين بفكرة اعتقد الناخبون الجمهوريون أن إثارتها كانت واجبة.
يرى باورلاين أن هذا الاختراق لترامب وغيره مهم جدًا للحياة العامة في الولايات المتحدة التي باتت تعاني من الكبت ومن الخطابات المكتوبة، عندما أعلن ترامب شعار “أمريكا أولًا” شعرت شريحة من مؤيديه بالرضى، يتساءل باورلاين: هل كان هذا الشعار الذي يعبر عن غرور قومي متطرف رصاصةً موجهةً إلى الاقتصاد العالمي وتعدد الثقافات؟ أم أنه ببساطة تعبير عفوي عن رغبة في الافتخار بالوطن؟ عندما توعد ترامب برد عنيف إذا سحب أحد نشطاء “حياة السود مهمة” الميكروفون من يده كما حدث في أحد تجمعات بيرني ساندرز، هل كان هذا تعبيرًا عنصريًا؟ أم إصرارًا على حقه في قول ما يريد بحرية؟
يعاني المشهد السياسي الأمريكي الحالي من حرمانية طرح مثل هذه المسائل، فالحساسيات تجاه العرق والجنسية والدين وصلت إلى مستوى مرتفع، وفي هذه الحالة لن يتمكن سوى زعيم فظ غير متوقع وغير مؤدب من اقتحام الحوار وقيادة دفته حسب باورلاين، والمثير للانتباه أن الحجة التي تساق في وجه مؤيدي ترامب من قبل المحافظين الجمهوريين: “ندرك نزق مجتمعنا، لكن لدينا مشاكل أكبر من الحساسية المفرطة، كما أنكم مخطئون إذا ظننتم أن ترامب هو الحل، فهو يمثل كل الشكوك والامتعاض الذي تخشونه”.
ثورة ضد سياسات الهوية والحسد الطبقي
تبدو المشاعر مفرطة الحساسية تجاه المواطنة أقل أهمية من الدين القومي الذي يناهز 19 ترليون دولار، لكن المفكرين الاجتماعيين منذ تأسيس الولايات المتحدة يدركون أن التجربة الأمريكية تعتمد على ما أسموه “الشخصية الوطنية” حسب باورلاين، إذا فقد المواطنون استقلاليتهم وأصبح النزق سمة أمريكية مقبولة فإن تخفيض الدين لن يفيد في شيء، إن الاستياء الذي يثيره ترامب يرد على الاستياء المختبئ في سياسات الهوية والحسد الطبقي ومعارضة الولايات المتحدة، وفي حرب ثقافية يغدو هذا الاستياء سلاحًا أفضل للسياسيين من النهج السياسي المتوازن.
تبدو فرصة ترامب بالفوز بالرئاسة ضئيلة، ولكن هيلاري كلينتون في حال فوزها بالرئاسة ستواجه سؤالًا في غاية الأهمية: هل خسر ترامب بسبب عدم حساسيته؟ وهل يعني ذلك أن على إدارتها أن تعزز ثقافة أكثر حساسية؟ أم أن جزءًا معتبرًا من شعبية ترامب يعني أن الحساسية قد وصلت إلى مرحلة خطيرة وأن على إدارتها أن تعيدها إلى مستوى معتدل؟ وبالنظر إلى دعمها لحركات الأقليات مثل السود والمثليين يبدو أنها ستنحو المنحى الأول، ولكن، مع ما يجري في الجامعات الأمريكية حسب باورلاين حيث يعم الشعور بالقلق من التعرض لأحد بإساءة طفيفة أو التعرض إلى اعتداء طفيف، يبدو أن ذلك لن يجعل أمريكا دولة أكثر شمولًا ومدنية، على العكس سيعم القلق في العلاقات الإنسانية ولن يعجب ذلك الكثيرين الذين سيبحثون عن ترامب جديد، وهذا ما تثيره الحساسية المفرطة.
أختم بما ختم به باورلاين الذي ذكر بأن ترامب أعلن نيته للترشح إلى الرئاسة لثلاثة عقود مضت لكنه فشل في ذلك حتى الآن، وذلك لأن عهد المشاعر المرهفة لم يصل إلى مرحلة بعث شخص قادر على معارضته وقول “كفى!” يحشد حوله من ملوا من اللزوميات الاجتماعية، وعلى الرغم من أن ترامب يبدو خاسرًا، فإن الأمريكان في النهاية بشر لهم طاقة تحمل محدودة، أما المثاليون فغالبًا ما يدمرون أنفسهم ذاتيًا، ويجدر بالرئيسة كلينتون إدراك ذلك.