فهرنهايت 451 هي رائعة راي بردابري، وتحكي عن مجتمع مستقبلي، حيث تكون مهمة رجال الإطفاء Fireman هي حرق الكتب والبيوت التي تحتويها بدلًا من إخمادها.
وفهرنهايت 451 أيضًا هي درجة الحرارة التي يحترق عندها الورق، في حوار إذاعي قال برادبري إنه كتب الرواية تحت تأثير حقبة المكارثية في خمسينات القرن الماضي، إلا أنه لاحقًا صرح بأن دوافعه لكتابة الرواية كانت أكثر عمومية من تلك الفترة.
أيًا كانت دوافع برادبري في كتابة هذه التحفة الأدبية، فهو من خلالها قد عبر بوضوح عن أحد أكثر الهواجس والكوابيس المؤلمة لأي شخص محب للقراءة وهي “حرق الكتب” أو اندثار كتب ومخطوطات عن طريق أيادٍ بشرية وعن عمد، كما فعل أول أمبراطور للصين تشين شي هوانج اتباعًا لنصيحة وزيره بأن يقوم بحرق كل الكتب الفلسفية والتاريخية التي تخص الممالك الخمس المهزومة، مرورًا بحرائق مكتبة الإسكندرية المتعددة، وبيت الحكمة في بغداد، والنصوص العربية والعبرية بعد سقوط الأندلس.
الواقع أن حوادث حرق وإتلاف الكتب كثيرة جدًا، ولا يختص بها عصر بمفرده، فالكتب إلى الآن ما زالت تحرق وتدمر سواء خوفًا من محتوياتها أو كمغالاةٍ ونفاقٍ للتقرب من السلطات الديكتاتورية، ويبقي السؤال الذي لن نعرف له إجابة يقينية أبدًا: كيف كان ليكون العالم اليوم لو لم تحرق كل هذه الملايين من الكتب والمخطوطات؟!
إن كانت عملية حرق الكتب بواسطة السلطات القمعية هو السيناريو الأكثر عمومية، فهناك سيناريو آخر أكثر إفزاعًا وهو أن تكون رغبة الحرق والتخلص نابعة من الكاتب والفنان صاحب العمل نفسه، هنا لا أتحدث عن أعمال تنتمي لفئة الأدب الرخيص أو فنانين معدومين، بل هي من المفترض أن تكون نقاط ثابتة في تاريخ الأدب والفن العالمي.
وهنا نستعرض 5 من الفنانين والأدباء الذين قاموا بحرق أعمالهم أو أوصوا رفاقهم بذلك.
كلود مونيه (1840-1926)
“هذا الرجل سوف يصبح أكبر مكانة منا جميعًا، فاشتروا لوحاته”
قبل أن تتحقق مقولة شارل فرانسو دوبيني، كان مونيه كحال جميع الفنانين والأدباء لم تفتح لهم الأبواب بسهولة.
عند عودة مونيه لفرنسا من الجزائر مريضًا، قامت عمته ماري جان برعايته، وما إن استعاد عافيته حتى عاود الرسم مجددًا، وبالرغم من أن عمته كانت من لاحظت نبوغه الفني في صغره واقترحت عليه أخذ دروس في رسم الطبيعة حينما كان صغيرًا، إلا أنها في تلك الفترة كانت علي يقين بأن لوحاته لن يكتب لها النجاح؛ وهو ما جعله يقرر محاولة أن يصبح فنانًا محترفًا، وحتى عند التحاقه كدارس في إستوديو شارل جليير، فإن والده أدولف مونيه شعر بخيبة أمل لعدم تعلمه للفن في إيكول دي بوزار في باريس مما دفعه ليقطع المعونة الشهرية عنه وهو ما سبب أزمة مادية لكلود مونيه طيلة ستينات القرن الـ19.
وفي عام 1874 قام مونيه وأصدقاؤه بعمل معرض مستقل لهم بعد أن رفضوا من قبل صالون باريس، الذي لم يكن معرضًا نجاحًا بدوره، بل كان يذهب إليه الناس في الأساس للضحك، وهو المعرض الذي عرضت به لوحة “انطباع – غروب الشمس”.
في عام 1908 قام كلود مونيه بتدمير 18 لوحة له من ضمن مجموعة “زنابق الماء” قبل أن تعرض مباشرة في معرض دوراند رويل بالرغم من أنه عرض 48 لوحة في العام ذاته في المعرض، لكن أغلب الظن أن كلود مونيه لم يكن سعيدًا وراضيًا عن تلك الأعمال.
روبرت لويس ستيفنسون (1850 – 1894)
كتب ستيفنسون عدد من القصص والروايات الرائعة والتي لا زال الجميع يستمتع بها إلى الآن، ويعاد تقديمها للسينما والتليفزيون، فرواية جزيرة الكنز تحولت للعديد من الأفلام السينمائية والأنيميشن، كما تم استلهام جذورها والشخصيات الأيقونية مثل بيلي جونز وكابتن فلينت وجون سلفر في مسلسل جديد وهو Black Sails.
بالإضافة إلى جزيرة الكنز، هنالك رواية علامة أخرى وهي “دكتور جيكل ومستر هايد”، والتي استوحي منها ستان لي شخصية The Hulk الشهيرة.
عندما قرأ ستيفنسون المسودة الأولى لزوجته فاني، قامت بنقد الرواية نقدًا حادًا مما دفع ستيفنسون لإحراقها، وفي خطاب حديث كشف عن رأي فاني ستيفنسون بخصوص الرواية، فقالت إنها ملزمة ممتلئة بهراء مطلق، وأنها سوف تقوم بإحراقها بنفسها.
لم يدم إحباط ستيفنسون كثيرًا، فقام بإعادة كتابة الرواية مرة أخرى.
حققت رواية دكتور جيكل ومستر هايد نجاحًا ساحقًا فور صدورها عام 1886، فقد باعت 40 ألف نسخة خلال فترة ستة أشهر، بالإضافة إلى 250 ألف نسخة مزورة في أمريكا الشمالية وحدها.
فرجيل ( 70 ق.م – 19 ق.م)
يعد فرجيل واحدًا من أعظم الشعراء الذين أنجبتهم روما، وتعد ملحمته “الإنيادة” بمثابة ملحمة شعبية تعبر عن جزء من تاريخ الإمبراطورية الرومانية، والحضارة الأوروبية بصفة عامة، تعرض الملحمة حكاية البطل الطروادي “إنياس” الذي وصل إلى إيطاليا بعد أن هام لعدة سنوات بعد سقوط طروادة ليقاتل اللاتينين، ليصبح في آخر الأمر هو المؤسس للإمبراطورية الرومانية.
كانت الإنيادة تعد العمل الأخير في حياة فرجيل، فقد استغرق 11 عامًا في كتابتها، وفي أثناء ذهابه في إجازة طويلة لليونان لكي يتمكن من تنقيح الإنيادة – وهو الأمر الذي قدره بـ 3 سنوات – سقط مريضًا، وفي فراش المرض طلب من أصدقائه أن يقوموا بحرق عمله غير المكتمل، إلا أن ما أنقذ المخطوطة من لهيب النيران هو الإمبراطور أوغسطوس والذي كان يعد بمثابة صديق لفرجيل والذي أشار إلى فرجيل بكتابة ذلك العمل في بادئ الأمر.
فلاديمير نابوكوف (1899- 1977)
في نهاية حياته، قام فلاديمير نابوكوف صاحب الرواية الشهيرة “لوليتا”، بتسليم مخطوطة رواية “أصول لورا The Original of Laura” لزوجته فيرا مع تعليمات أنه يجب تدميرها بعد موته.
لم تستطع فيرا تنفيذ وصية زوجها، إلا أنها تركت بطاقات المخطوطة كما هي، لينتقل ذلك العبء إلى الابن ديميتري نابوكوف والذي بدوره شعر بصعوبة تدمير عمل والده ومع ذلك فقد أبقى عليه إلى أن قرر بعد فترة طويلة بأن يخالف وصية والده وينشر الرواية الأخيرة في عام 2008.
فرانز كافكا (1883- 1924)
” كل شيء تركته خلفي.. يحرق، ولا يقرأ”
كانت هذه هي الكلمات التي تركها كافكا لصديقه ماكس برود، لكن صديقه لم يتبع وصيته وفي عام لاحق نشر المحاكمة 1925، ثم القلعة 1926، وأمريكا 1927.
هناك الكثير من الأقاويل حول تلك الوصية، فمثلًا بورخيس يقول معلقًا على ذلك الأمر “لو أراد شخص أن يحطم كتاباته، فبوسعه أن يلقيها بنفسه إلى النار، فينتهي أمرها، أما حينما يقول لصديق مقرب: إنني أريد تدمير جميع مسوداتي، فهو يعرف أن صديقه لن يفعل هذا أبدًا، أيًا كان الدافع الحقيقي لكافكا وراء ذلك، فما نعرفه أنه لم يكن راضيًا عن مسوداته، بل إن بعض تلك المسودات لم تكن مكتملة.”
وللمفارقة فقد أُحرقت أعمال كافكا عند وصول النازيين للحكم مما حد من انتشارها في تلك الفترة.