ترجمة وتحرير نون بوست
بدأ الحصار على سراييفو سنة 1992 واستمر لمدة ثلاث سنوات و10 أشهر وثلاثة أسابيع وثلاثة أيام. أي كان الحصار على سراييفو أطول من الحصار العسكري الذي فُرض على لينينغراد. وهي فترات تحول فيها عدد كبير من الناس إلى آكلي لحوم البشر كوسيلة للعيش.
أنا لا أتذكر أكلي لحوم البشر في سراييفو، لكنني أتذكر يوما كئيبا جدا في شتاء سنة 1993 عندما مر كلب حامل ليد بشرية. كان ذلك مشهدا بشعا للغاية. وكان معظم سكان البوسنة قد أصبحوا متعبين نفسانيا في تلك الفترة. وأتذكر أن صديقتي البوسنية جوردانا قالت لي بينما كانت تأكل شطيرة متكونة من خبز شبيه بنشارة الخبز إلى حد كبير “ذلك الكلب … كانت له يد في فمه”
هذه المشاهد البشعة تحدث بصفة يومية في حلب الشرقية. فهناك ما يقارب 250 ألف شخص يعيشون تحت صراع الحكومة السورية منذ أيلول/سبتمبر الماضي. كما يعاني هؤلاء من خمس سنوات متواصلة من الحرب. وهي نفس المعاناة التي عاناها أهالي مدينة داريا، والتي عاش فيها حوالي 8000 شخص تحت الحصار لمدة أربع سنوات متواصلة. وقد انتهى هذا الحصار مع سقوط المدينة في نهاية شهر آب/أغسطس الماضي.
في سراييفو، شَهدت على مشاهد أبشع من سقوط القذائف ومن رصاصات القناصة التي تستقر في أجساد الناس. وشاهدت أيضا الجراحين الذين يعملون بجد في المستشفيات في مناطق الصراع. لكني شاهدت أبشع من ذلك. وأبشع ما شاهدته كان محاولة تدمير معنويات الناس. فالحصار دائما ما يدمر الجسد، مثلما حصل في البوسنة وما يحصل الآن في سوريا، ولكن الحصار يسبب ضررا أكبر من ذلك بكثير، فهو قادرا على أن يكون أداة لإبادة الروح.
انتهى جحيم حصار سراييفو بعد أن توفي حوالي 11.541 شخص، 500 منهم من الأطفال. وبإمكاني الجزم أن السنوات بين سنة 1992 و1995 كانت أهم سنوات في حياتي، على المستوى المهني والشخصي والعاطفي أيضا. وكنت هناك مع زملائي الذين نقلوا أخبارا عن الحرب، أخبارا أصبحت كشهادات تجعلنا غير قادرين على نسيان ما حصل أثناء السنوات الطويلة من الصراع.
وقد تعاهدنا أنا وأصدقائي أننا سنبقى حتى النهاية. وقد كان جزءا من ذلك القرار مرتبط بكوننا صحفيين. لكن بعكس الحرب في سوريا، التي لا يوجد فيها أي شهود عيان مستقلين، فإنه في سراييفو بإمكانك الوصول إلى أي خط جبهة، كما بإمكانك السفر مع الجنود لكن شرط أن تتحمل مسؤوليتك بالكامل. وقد جعلت مثل هذه العوامل المأساة البوسنية في طليعة اهتمام الرأي العام. وهو ما دفع مارغريت تاتشر، رئيسة الوزراء السابقة للمملكة المتحدة، لاتخاذ موقف حازم لإنهاء الحرب مستشهدة بقصة كَتَبتُها في صحيفة الصنداي تايمز البريطانية. وتحدثْت في تلك القصة عن طفل أصيب بالعمى بسبب شظايا في سربرنيتشا التي أصبحت تشتهر في تلك الفترة بالقتل الجماعي، خاصة منها مقتل 8000 رجل وصبي سنة 1995.
لكن كان هناك سبب آخر دفعنا للبقاء في سراييفو رغم الحصار، وكان هذا السبب الأهم بالنسبة لي ولأصدقائي: كان هناك حصار يعزل سكان سراييفو عن بقية العالم. لذلك فقد أردنا أن نُظهر لبقية العالم ما يقوم به زملائنا في البوسنة، فضلا عن المقاتلين الذين كانوا يدافعون عن مدينتهم في ظل حظر ومنع لاستعمال الأسلحة. حتى الأناس العاديون كانوا يحاولون الدفاع عن المدينة. وكان لسكان سراييفو أمل متواصل في أن يأتي شخص ما لإنقاذهم مما هم فيه. لذلك فإننا كنا مؤمنون أن مغادرتنا للبوسنة قد تعطيهم إشارة واحدة: أنه قد تم هجرهم.
أما الآن فإن العالم يشاهد حلب تحترق، ويشاهد سقوط داريا ويشاهد أيضا معاناة إدلب والمدن السورية الأخرى. وفي الحقيقة، بعد المأساة التي حصلت في البوسنة، كنت متأكدا من أن العالم لن يقف مكتوف الأيدي مرة أخرى إذا ما تعرض مئات الآلاف من الناس للقصف والتجويع والضرب والصدمات النفسية، وإذا ما تم حرمان شعب كامل من حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك التعليم والمرافق الطبية.
وفي ذروة المأساة التي حصلت في سراييفو، أي بين سنتي 1992 و1994، بإمكانك تخيل “مد وزجر” الأمل الذي يخيم على المدينة في تلك الفترة، فقد كان الأمل في تلك الفترة شبيه بتدفق نهر الميجاكا، والذي كان علينا عبور جسوره بحذر كي لا تصيبنا رصاصة من أحد القناصة.
ثم نفذت الإمدادات الغذائية، وكان الجنود يتعرضون للذبح في الجبهات، وتوقفت مولدات المستشفيات. وكانت هذه إحدى “أفضل” هولات الحصار. لكن من السهل أن ننسى هذه الهولات، فبالنسبة لمن يعيشها، فإن عدم القدرة على أن تعيش حياة عادية قد يكون أمرا مؤلما أيضا. فقد أخبرني صديق لي في حلب إنه لم يعد بقدرته الاجتماع مع عائلته لمشاهدة مباراة كرة قدم على شاشة التلفزيون، لأنه لم يعد يملك لا تلفازا ولا عائلة. وأخبرتني امرأة أنها لم يعد بقدرتها مشاهدة تفتح أشجار الفاكهة التي قامت بزراعتها. ولم يعد بقدرتها الخروج إلى الشارع لاقتطاف الخوخ والتفاح في الطقس الحار دون أن تخاف من أن تصبح أشلاء. أما محمد، وهو صديق لي يقطن في داريا، فقد كتب لي يوما يسألني بأدب إذا ما كان بإمكاني أن أرسل له بعضا من مقالاتي التي كتبتها خلال سنوات عملي في سراييفو، وقال لي “لكي نفهم كيف تمكن الشعب البوسني من النجاة، يمكننا أن نتعلم منه“
وألهمني ذلك… فكنت أعرف أن أصدقائي في البوسنة متعاونون وبإمكانهم أن يقدموا الدعم النفسي حول كيفية التعايش مع الأيام الصعبة. وعندما طلبت المساعدة من أصدقائي في البوسنة، سألتني صديقتي عايدة شيركيز “هل يريد أن يعرف كيفية صنع مصابيح زيت أو كيفية تجنب الجنون؟ فبإمكاننا مساعدته على تعلم الاثنين” وكانت عايدة قد عاشت خلال سنوات الحصار وتعمل الآن كمراسلة لآسوشياتد براس في سراييفو.
خلال هذه الصائفة، قمت بإنشاء قناة سراييفو/داريا على “الواتس آب”. وكنا في البداية ثلاثة فقط، أنا ومحمد وعائدة. ثم انضم إلينا مزيد من الناس. بدأ الجميع بتقديم أنفسهم ثم حاولوا تقديم اقتراحات ملموسة قد تكون ناجعة كمحاولات للبقاء على قيد الحياة ولتجنب الجنون. وكانت عايدة قد أرسلت رسالة صوتية لمحمد، الذي لم يلتقي بعائلته منذ عدة سنوات، ودعته إلى جمع قوته وتشكيل حكومة موازية داخل منطقة الحصار. وأرادت عايدة بذلك التأكيد على ضرورة مساعدة السكان لبعضهم البعض عندما لا تقوم الحكومة بذلك، وهو ما فعله سكان سراييفو خلال الحصار. في تلك اللحظة، تذكرْت عايدة عندما كانت تجلس في مكتب أسوشياتد براس في الشتاء مرتدية معطفا وقفازات. وكانت عايدة قد أرسلت ابنها الرضيع على متن حافلة إلى زغرب ليكون في مكان أكثر أمانا. أما سمير فقد تشاركت معه بعضا من أسعد لحظات تواجدي في سراييفو (شاهدنا معا فيلم كلينت إيستوود “أي فيست فول أوف دولارز” عندما اشتغل الكهرباء لبعض الدقائق سنة 1994)، وكان سمير دائما ما يذكرنا بأن الحفاظ على روح الدعابة أمر مهم للغاية.
اقتراحات أخرى لتجنب الجنون
اقترح زوران الذي كان عنصرا من عناصر الجيش في البوسنة أن يقوم محمد بلعب الورق، وتذكر زوران الليالي التي سقط فيها عدد كبير من القذائف. وقدم نهاد، الذي كان طفلا أيام الحصار، قائمة من الأفلام التي قد يتمكن محمد من مشاهدتها إذا ما اشتغلت الكهرباء، وقال إنه من شأن هذه الأفلام أن توفر الثبات العقلي والعاطفي.
وكنا دائما ما نتفقد أحوال داريا، حتى بعد أن أصبح واضحا في أواخر يوليو/تموز أن داريا على وشك السقوط.
ـ “هل وصلتكم أي أخبار من محمد؟“
ـ “هل كان القصف عنيفا اليوم في داريا؟“
ـ “مرحبا محمد، هل أنت في الطابق السفلي كالعادة؟“
وكنا دائما ما نخبر محمد أننا نفكر فيه وفي أصدقائه دائما وأوصيناهم بالشجاعة وأخبرناهم أن السلام سيعم يوما ما. كان أمرا بسيطا جدا، لكننا أردناه أن يدرك أن الحصار لم يجعله في قطيعة كلية مع العالم الخارجي، وأردناه أن يدرك أيضا أننا نسانده وأنه لم يتم التخلي عنه.
عندما سقطت داريا، التي كانت بمثابة رمز للمقاومة السورية منذ بداية الحرب، لم نتلقى أي رسائل من محمد لفترة من الزمن. ثم راسلنا مرة أخرى خلال تواجده في إدلب، ثم في مدينة أخرى في داخل سوريا.
في بداية الحرب السورية، كنت أفكر في بعض المقارنات. ثم، وكما هو الحال الآن أيضا، كان هناك فوضى داخل الأمم المتحدة، وكانت هناك لامبالاة من قبل مسؤوليها. وقد ذكرني ذلك في شعورنا بالاشمئزاز عندما قال الأمين العام آنذاك بطرس بطرس غالي إنه هناك 10 أماكن في العالم أسوأ حالا من العاصمة البوسنية. وعندما أصبحت سوريا أخيرا محور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر الماضي، كانت محاولات فرنسا والولايات المتحدة لإيقاف جرائم الحرب التي ترتكبها روسيا شحيحة وغير ناجعة. وكوني طالبا في العلاقات الدولية، تم تلقيني دروس عن كيفية بداية الحروب وكيف تنتهي أيضا. وعادة ما تنتهي الحروب عندما يصبح المقاتلون منهكون. أو عندما يكون للدبلوماسية دعم قوي من أعتى قوة على وجه الأرض أي الولايات المتحدة، وهو ما حصل في البوسنة. وشأنها شأن البوسنة، كانت بداية الحرب سهلة، لكن الخروج من الأزمة لم يكن أمرا سهلا.
لكن الولايات المتحدة في فترة انتخابات الآن. وحتى إذا ما سمع الناس أخبارا عن حلب، فإنه من المستحيل أن يفهموا حقيقة ما يحصل. فكيف يعقل أن يفهم شخص ما معنى الحصار إذا لم يجرب فرحة رؤية صنبور فيه مياه بعد أن حرم من ذلك لسنوات عديدة؟
أخبرني صديق يعمل في المجال الديبلوماسي إنه يعتقد أن الحرب في سوريا توشك على الانتهاء، وقال “لأن الحروب تنتهي عندما يسيطر المنتصرون على الأراضي التي يريدونها وعندما يحصلون على القوة التي يريدونها”. فالأسد، بمساعدة من روسيا وإيران، والذين تلطخت يديهما بالدماء شأنهما شأن الأسد، أصبح الجانب الأقوى، وسيطر على مناطق عدة، الأمر الذي أسفر على مقتل أولئك الذين يقاومون، أو أولئك الذين تواجدوا في المكان الخطأ في الوقت الخطأ.
سألت معظم معارفي في سوريا “ما الذي تريدونه الآن؟” وكان الجواب نفسه “السلام” وغالبا ما تكون أيضا “أريد العودة إلى وطني/منزلي مرة أخرى”. لكن سوريا التي عهدوها لن تعود كما كانت عليه، ومن المستحيل إعادة إيجاد منازلهم. فمثل البوسنة، كان من السهل بدأ الحرب في سوريا، لكن إيجاد مخرج للأزمة لم يكن أمرا سهلا. فالبلد المحبوب والذي تم التخلي عنه لا يسعه إلا العيش على الأمل الآن.
المصدر: أتلانتيك