على مدى ما يقرب من ستة أشهر كاملة، ومنذ زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان لمصر في إبريل الماضي، والدولتان الكبيرتان تحاولان إقناع نفسيهما والعالم، أن ما بينهما تحالف استراتيجي، في محاولة لتجاهل ما بينهما من خلافات في ملفات إستراتيجية، وعلى رأسها الملف السوري،
ومنذ ذلك الحين باستثناء وصول الشريحة الأولى من الوديعة المالية المقدمة لمصر من المملكة في أغسطس الماضي، لم تف المساعدات بتعهدات المملكة لمصر في إنقاذها من أزماتها، أو حتى ضمان استمرارها بوتيرة ثابتة، حسب ما هو متفق عليه، ومن ضمنها حزمة المساعدات البترولية ودفعاتها الشهرية، التي أوقفتها شركة أرامكو الشهر الجاري.
لا شيء دون مقابل
المعادلة المصرية – السعودية كانت تقضي – وفق اتفاق السيسي – سلمان، على أنه لا شيء ولا مساعدات دون مقابل، فكلا الدولتين تعاني من أزمات ربما تكون حيثياتها مختلفة لكنها في النهاية أزمة لكل منهما، فمصر لديها أزمة اقتصادية طاحنة، وليست في وضع الاستغناء عن السعودية، والمملكة تعاني من مشكلات أيضًا بسبب سوريا واليمن، وليست في وضع إملاء شروط على أحد، وليس بمقدرة أي من الطرفين الاستغناء عن الطرف الآخر، والخلاف في وجهات النظر بخصوص القضية السورية بعد اعتراض الأخيرة على تصويت مصر على القرار الروسي، لن يؤدى إلى أزمة كبيرة، أو قطيعة كما يتصور البعض، فالبلدين تعملان منذ سنوات لإيجاد حل لهذه الأزمة المعقدة بإقرار الحلول السياسية، واختيار البلدين الآن بين السييء والأسوأ، فمصر أرادت أن تأخذ موقفا يضمن في الدرجة الأولى سلامة المدنيين السوريين، والسعودية بكل تأكيد ترغب أيضًا في الحفاظ على الدم السوري.
أمر غير وارد
التصور السابق بصعوبة القطيعة بين مصر والمملكة يتوافق مع طرح الكاتب والمحلل السياسي أسامة الهتيمي، الذي يرى أن الحديث عن استبدال مصر المملكة العربية السعودية بالبحرين، كما أشيع مؤخرا بعد قرار منح ملك البحرين أحقية التملك بشبه جزيرة سيناء، حديث غير منطقي أو واقعي، فالاقتصاد البحريني كما هو الحال في بعض بلدان الخليج اقتصاد أحادي الجانب، يقوم على مورد واحد هو النفط والذي يمثل نحو 85 : 90% من الإيرادات في مملكة البحرين، ومن ثم فإن الاقتصاد البحريني يعاني نفس الأزمة التي تعانيها أغلب البلدان النفطية، نتيجة للتراجع الشديد في أسعار النفط العالمية، الأمر الذي يدفع هذه البلدان إلى ضرورة تطبيق سياسات تقشفية لتقليل الإنفاق، ومن بينها بطبيعة الحال البحرين، التي يبدو أنها تتجه في الوقت الحالي إلى مراجعة سياسة الدعم فضلا عن الاتجاه إلى الاقتراض لتمويل العجز الشديد في الموازنة للدولة، وهو ما حذر منه الكثير من الخبراء الاقتصاديين في البحرين، بل اعتبروه أمرا مقلقا.
علاقة قوية
وحول السعودية قال الهتيمي إنه فضلا عن كونها الشريك الاقتصادي الأول لمملكة البحرين، فإنها تعد واحدة من الدول المانحة للاقتصاد البحريني، فالعلاقات السعودية – البحرينية وثيقة إلى درجة كبيرة جدا، ليس على المستوى الاقتصادي فحسب بل، وعلى المستوى السياسي أيضا، إذ يمكن أن نشير إلى أن ثمة علاقة ارتباط بين البلدين في موقفهما السياسي، الأمر الذي يحول بين محاولات إحداث تباين شديد في هذا الموقف بينهما، فمثل هذا يتجاوز حدود واقع العلاقة الذي يكفي أن نلفت النظر إلى طبيعته بالتذكير بجسر الملك فهد الذي يربط بين البلدين، وكان الوسيلة الأسرع الذي عبره تدخلت قوات درع الجزيرة لإجهاض التمرد الشيعي في البحرين.
تقارب مشروط
الهتيمي يؤكد على أن ما سبق لا يعني بالضرورة أن ترهن البحرين علاقتها بمصر، بالتوتر الحادث في العلاقات السعودية – المصرية، إذ تدرك البحرين وغيرها، أن هذا التوتر ليس إلا سحابة صيف سيحرص كلا البلدان على أن تمر بهدوء، وبأقل خسائر ذلك لأن معطيات الحالة الإقليمية والدولية لا تسمح لأيهما بتوسيع الفجوة، بل وتدفع إلى أن يعمل كل منهما بأقصى جهده من أجل احتواء أسباب التوتر، حتى ولو كان ذلك بتقديم تنازلات، ومن ثم فإن المملكة السعودية ربما لن تلجأ إلى ممارسة ضغوط على البحرين بشأن مسار علاقتها بمصر، إذ يجب أن تبقى هناك قنوات للتواصل عبر أطراف تحظى بثقتها، ويمكن أن تعمل على احتواء هذا التوتر.
توقعات الهتيمي إذا تصب في خانة تقارب مصري – بحريني بمباركة سعودية، لافتا إلى أنه من المتوقع أن نشهد قريبا جهودا مكثفة لرأب الصدع في العلاقات السعودية المصرية، التي شهدت توترا نتيجة لتراكم خلافات في التوجهات بشأن بعض الملفات بين الدولتين خلال الشهور الأخيرة، ومنها الحرب في اليمن ومشاركة شيخ الأزهر الشريف ومعه عدد من قيادات المؤسسات الدينية المصرية في مؤتمر جروزني، الذي استبعد السلفية والوهابية من تصنيف أهل السنة، وحصر هذا التصنيف على الأشاعرة والماتريدية والصوفية وأتباع المذاهب الأربعة، ورد فعل الخارجية المصرية على قانون جاستا حيث اكتفت بإبداء التحفظ على القانون، ولم تعلن رفضا قاطعا له كما فعلت عدد من الدول الأخرى، ثم أخيرا موقف مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة من التصويت لصالح المشروع الروسي، الذي سبب صدمة للمملكة بل إن مندوب المملكة في الأمم المتحدة عبد الله المعلمي اعتبره أمرا مؤلما.
ابتزاز وهيمنة
خلافا للرؤية السابقة يفند محللين آخرين أسباب تغيير المملكة مساعداتها الأخيرة لمصر من المنح والمساعدات التي لا ترد، إلى القروض والودائع والصناديق الاستثمارية، باعتبارها رغبة ملكية لتحويل تلك المساعدات من معناها الاقتصادي إلى السياسي؛ لفروض الطاعة والولاء على القاهرة، على صعيد السياسة الخارجية، والتي تجلت بشكل واضح في تنازل مصر عن دورها ومكانتها على الصعيد الإقليمي والدولي لصالح المملكة، وهو ما ظنته المملكة أنه يمكن تطبيقه على الأزمة السورية، متجاهلة دور لاعب فاعل آخر في الداخل المصري وهو روسيا ، الأمر الذي جعلها تعاقب القاهرة على قرار بمجلس الأمن، تراه القاهرة وفق رؤيتها مناسبا عكس رؤية المملكة، ما يعني من وجهة نظرهم أن المملكة ربما تبتز مصر بالتبعية الكاملة أو أن يكون البديل أزمة اقتصادية؟.
تراجع مصري
السؤال هنا لماذا قررت القاهرة فجأة التملص من هذه التبعية؟.. بعدما كانت منصاعة بشكل كامل إقليميا ودوليا للموقف السعودي ، حتى أن القاهرة تحدت الرأي العام الداخلي في اتفاق ترسيم الحدود مع المملكة، وقررت – بعيدا عن موافقة البرلمان – أن تهبها جزيرتي تيران وصنافير، الإستراتيجيتان المتحكمتان في الملاحة في خليج العقبة، واللتان بانتقال ملكيتهما إلى السعودية، أصبح لها ولأول مرة منذ نشأتها تحكم في ممرات البحر الأحمر الإستراتيجية، بشكل يخدم أهدافها وتطلعاتها وتطوير علاقاتها مع إسرائيل بشكل حيوي، وهو ما يمثل أولوية مطلقة حالياً للسياسة الخارجية السعودية.
تحول الموقف المصري هنا برؤى المحللين جاء نتيجة توقف الدعم السعودي المباشر اقتصاديا، وتلويحها بورقة “المحور الإخواني”، بالإضافة للضغط بأوراق إستراتيجية تمثل تهديد للأمن القومي المصري، ممثلة في دعم الرياض لكل من أديس أبابا والخرطوم في ملفي النهضة ومثلث حلايب وشلاتين، في مقابل لا شيء على الأرض من الاستفادة لمصر، ما يعني أن القاهرة هي الأخرى تبتز المملكة، فيما بدا أن زيارة سلمان للقاهرة كانت نوعا من التسكين المؤقت فقط للخلاف بين الجانبين، كما أن اتفاق ترسيم الحدود، كانت مضاره على النظام المصري أكثر من منافعه، بعدما صاحبته هبة شعبية رافضة لبيع الجزيرتين أو كما أعلن التنازل عنهما، مقابل المساعدات السعودية، وأضحت بعدها شرعية النظام في مأزق كبير.
البيع مستمر
الرؤية السابقة مردود عليها بأن النظام المصري لا يعول على شرعيته داخليا، طالما تسانده كافة مؤسسات الدولة العدلية والأمنية والإعلامية، ويجد مناصروه حجج كثيرة للرد على أي هجوم يستهدفه سواء من الداخل أو الخارج، وكل ما يعول عليه هو من يدفع أكثر، ما يعني أن تملص المملكة من التزاماتها الاقتصادية، كان سبب تراجع السيسي وليس الضغوط الشعبية، والدليل على ذلك قراره بمنح ملك البحرين حق التملك في سيناء، ما يعني أن أزمة تيران وصنافير لم تكن المحرك في الأمر.
وجهة جديدة
هل معنى ذلك أن مصر توجه بصلتها صوب البحرين بعدما فرغت من السعودية؟.. الأمر غير مستبعد، خصوصا وأن استثمارات البحرين في مصر تبلغ 2.7 مليار دولار، وارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى 320 مليون دولار خلال عام 2014، مقابل 181 مليون دولار في 2013، و127 مليون دولار في 2012، حسب تصريحات سابقة لوزير التجارة والصناعة المصري طارق قابيل، لكن رد فعل البحرين سينتظر الإشارة السعودية بمنطق “لا تحرق كل الجسور فقد تضطر لعبور النهر مرة أخرى”.