في بداية هذا الأسبوع دشن رئيس الحكومة التونسي السيد يوسف الشاهد، المكلف حديثًا من قبل الرئيس والمصادق عليه من البرلمان، أول زيارة له خارج الوطن إلى العاصمة الجزائر، في تقليد يبدو جديدًا منذ نجاح الثورة التونسية في 14-01-2011، إذ باستثناء السيد حمادي الجبالي رئيس أول حكومة منتخبة، الذي استهل زياراته الرسمية بالمملكة العربية السعودية، كانت قبلة باقي رؤساء الحكومات الجهة الغربية الجزائر.
إن هذه الزيارة تتطلع إلى مجموعة من الأهداف يرسمها صانعو القرار في الدولتين الجارتين نأتي عليها لاحقًا، لكن أي مسار اتخذته العلاقة بين الدولتين الجارتين مع ملاحظة أنه قبل الاستعمار الفرنسي لكليهما كان الحكم في تونس ملكيًا بيد العائلة الحسينية، هذا النظام الملكي الذي أنجز أول دستور في المنطقة وهو ذات النظام الذي بدأ يترك الحداثة قبل دخول الحماية، فألغى الرق وبدأ يأخذ مسافة عن سلطة الباب العالي، بينما ظلت الأخت الكبرى الجزائر تحت سلطة “الداي” وهو منصب عسكري وليس نظامًا ملكيًا.
وإذا كان المستعمر الفرنسي قد قرر وضع يده على تونس بمعاهدة الحماية وهو يريد أن يحمي مصالحه وديونه، فإن الجزائر وحتى قبل دخول الاستعمار كانت تمول فرنسا وأوروبا باستحقاقاتها من الغذاء والحبوب خاصة، وفي لحظة من سوء التفاهم بين الداي وسفير فرنسا اتخذت السلطة الفرنسية القرار بأن تضم الجزائر للأبد لرقعتها الجغرافية.
ولئن خرجت من تونس والمغرب باتفاق ومفاوضات، فإن فرنسا استماتت في البقاء بالجزائر ولولا عامل الإنهاك للجيش الفرنسي في الحرب الهندية الصينية وشراسة المقاومة الجزائرية لما استسلمت فرنسا وخرجت من الجزائر في 1962 مخلفة وراءها أكثر من مليون شهيد.
لقد مثلت تونس منذ استقلالها سنة 1956 البوابة التي ينفذ منها الساسة الجزائريون؛ الأمر الذي رأت فيه فرنسا عدوانًا، فحاولت تأديب الطرفين في واقعة ساقية سيدي يوسف حيث اختلطت دماء التونسيين بإخوانهم الجزائريين.
لقد احتضنت مدينة بنزرت التونسية (مدينة الجلاء أي آخر نقطة خرج منها المستعمر الفرنسي) لقاء ثلاثة زعماء تاريخيين:
1- بورقيبة المتطلع لدور سياسي بارز في المنطقة رغم ممانعة الجغرافية (صغر حجم تونس).
2- عبد الناصر المتطلع لزعامة المنطقة والمتوجس خيفة من توجهات بورقيبة المنتصر حديثًا على خصمه بن يوسف (حليف عبد الناصر).
3- بن بلة السياسي الثائر والذي أجمع عليه الشعب الجزائري باعتباره رمز الوحدة والانتصار على فرنسا.
زعيمان فرقت بينهما الرؤى والطموحات وزعيم هو بن بلة ما زال يمارس الطهورية الثورية، لذا وبسرعة فائقة أزيح من مسرح السياسة بانقلاب عسكري جاء ببومدين رئيسًا للجزائر، محولاً إياها لجمهورية شعبية ديمقراطية عربية رافعة للواء الاشتراكية في الداخل وخيار عدم الانحياز في الخارج ظاهريًا والانحياز الكامل للمعسكر الشرقي حقيقة.
هذه السياسة الجزائرية في الداخل وتوجهاتها في الخارج، مع إمكانيات مادية وطبيعية هائلة جعلت بورقيبة يتوجس منها خيفة، لذا أنبنت الدبلوماسية التونسية وتحركت في اتجاهين اثنين:
أ- بناء علاقة استراتيجية مع الضفة الشمالية وخاصة فرنسا.
ب- تمتين العلاقة مع المملكة المغربية وهي الدولة العدوة للجزائر.
ومع ذلك حرص بورقيبة على عدم توتير العلاقة مع الشقيقة الكبرى، لكن من سوء حظه أنه في سنة 1969 دخل لاعب جديد هو العقيد القذافي الذي بسرعة بسط نفوذه وسيطرته على طرابلس، معلنًا الولاء التام للمعسكر الاشتراكي رافعًا لواء القومية العربية.
أدرك الزعيم بورقيبة أن تونس في وضع لا تحسد عليه فهي بين كماشتين كبيرتين: دولتين يلعب فيهما الجيش كل الأدوار وهما يحوزان على ثروات طاقية (بترول وغاز) هائلة تمكن الجيشين من ترسانة من الأسلحة لا قبل لتونس بها، فجغرافيتها الصغيرة وجيشها ضعيف العتاد والعدة وانخراطها منذ الملكية يجعل موارد الدولة تتجه نحو التعليم والصحة.
لعب الزعيم بورقيبة السياسة باقتدار، فحاول مجاراة القذافي في لعبة الوحدة، مؤكدًا في الآن ذاته أن لا قيام لها إلا بالوحدة الاقتصادية كشرط للوحدة السياسية، وبقيت الجزائر بومدين تراقب عن قرب المد والجزر في العلاقات التونسية الليبية، إلا أن الدولتين الكبيرتين التقت مصلحتهما في إحداث تغيير بالقوة، فهما لن يسمحا للغرب وخاصة فرنسا بأن يكون لها نفوذ في المنطقة.
خصوصًا وأن الجزائر تعلم يقينًا أن غربها وجنوبها مستعمرات فرنسية، وهي لن تقبل بالتالي بنفوذ فرنسي في الضفة الشرقية، بينما شعر القذافي بإحباط من السياسيين التونسيين وتيقن أن الوحدة لن تأتي بها السياسة طالما أن صانع القرار في تونس ليس حرًا وإنما يستمد قراراته من باريس، لذا أعلن من الجنوب التونسي في بداية الثمانينات اندلاع الثورة بدعم لوجيستي وعسكري من ليبيا وبصمت وتأييد من الجزائر، فالتونسيون المغرر بهم دخلوا قفصة من البوابة الجزائرية وهم تدربوا وتسلحوا في معسكرات ليبية، كان المشهد أقرب إلى الانقلابات التي تقع في إفريقيا (عسكري يسلح طائفته وتقدم له إحدى البلدان المجاورة كل الدعم ثم يحتل العاصمة ويسقط النظام).
كانت الخطة الليبية وربما بموافقة جزائرية تتوقع هبة شعبية تؤيد نهاية حزب حكم البلاد منذ الاستقلال ومارس التمييز والتفرقة بين الساحل وبقية مناطق البلاد الداخلية منها والحدودية، لكن المفاجأة هي صمود الزعيم بورقيبة وهو البالغ من العمر عندها أكثر من سبعين سنة، والكاريزما التي يتمتع بها جعلت هذه المحاولة الانقلابية تفشل.
أدرك بورقيبة أنه لا بد من تغيير في الحكم، فجاء بالسيد محمد مزالي رئيسًا للوزراء ودشن مرحلة سياسية جديدة وتوجه نحو بناء علاقات ثقة وود مع الدول العربية وخاصة الخليجية، وحاولت الدبلوماسية الجديدة طمأنة الجزائر بأنها الأخت الكبرى، وأن ما يجمع بينهما أكثر مما يفرق، وصادق كل هذا تغيير في هرم السلطة في الجزائر مع بن جديد الذي بدأ يبتعد نسبيًا عن تقاليد بومدين، وبذلك أحس العقيد القذافي بأنه عزل واتخذ قرارًا، وهذه من المفارقات الغريبة التي لا تحدث إلا لدى الساسة العرب، فقد أعلن القذافي الوحدة مع المغرب، فأعداء الأمس أصبحوا حلفاءً، وبذلك اتجهت العلاقة التونسية الجزائرية نحو الوئام والسلام.
طوال فترة الثمانينات شهدت المنطقة مدًا للحركة الإسلامية، خاصة في الأوساط الطلابية والنقابية، بالنسبة لتونس لقي هذا التيار صدى واسعًا لدى التيار الطلابي وسمي هذا التيار بالإسلام الاحتجاجي، راقبت الجزائر عن كثب هذا التيار ولم تعدم قنوات الاتصال معه ربما لأنها رأت فيه قطعًا لباب الاستعمار الثقافي والذي تعاني منه كل المنطقة، حتى إذا انتقلت الحركة الإسلامية إلى الجزائر غضت البصر في البداية عنه، إلى أن فلت القمقم عن السيطرة، عندئذ التقت إرادة صانعي القرار في الدولتين على ذات الهدف، ألا وهو ضرب هذا التيار بقوة.
في تونس جيء ببن علي على رأس الحكومة، وهو عسكري مخابراتي، وفي الجزائر عجزت السلطة على مجابهة الاحتجاجات الشبابية والاجتماعية، فلم تجد بدًا من السماح بحرية نشأة الأحزاب والإعلام والوعد بخوض تجربة ديمقراطية إلى منتهاها.
كان عنف الدولة قويًا في تونس، مات العشرات وسجن الآلاف وشرد المئات نحو ليبيا أو الجزائر، وغضت السلطتان الطرف عن هؤلاء الفارين بينما أتت الانتخابات بفصيل الجبهة الإسلامية واستطاع بن على أن يزيح الرئيس بورقيبة بسلاسة في انقلاب أبيض سنة 1987، بينما دخلت الجزائر في نفق مظلم من العنف والعنف المضاد ما زالت آثاره إلى اليوم، وتوجت أخيرًا بمصالحة على يد الرئيس الحالي بوتفليقة عرفت تحت مسمى الوئام المدني.
إذا كان الوضع في الجزائر قد استقر، فإن استقرار تونس لم يدم طويلاً، فبعد سنوات الجمر طوال حقبة التسعينات، حيث تحالف اليسار مع السلطة وتم تجفيف منابع التدين ورفع شعار لا حرية لأعداء الحرية، وبدت السلطة مسيطرة في الظاهر، ولكن كما يقول الشاعر التونسي تحت الرماد اللهيب، إذ لم تنته العشرية الثانية إلا بثورة فاجأت السلطة كما العالم الخارجي.
هرب بن علي تحت أسواط المحتجين “ارحل”، وسقط حاجز الخوف وتردد صدى هذا الشعار في كل مكان من الرباط إلى الجزائر إلى طرابلس فالقاهرة ثم صنعاء وأخيرًا في دمشق.
إن نجاح الثورة في تونس مثل تحديًا لقوى ثلاثة:
– فرنسا الحليف الاستراتيجي والتي تعلم أن الديمقراطية تجلب الإسلاميين.
– الجزائر الأخت الكبرى والتي كلفها مطلب الحرية أكثر من 300 ألف قتيل.
– ليبيا الجارة الشرقية التي طالما رفعت شعار من تحزب خان.
أخذت الدبلوماسية الجزائرية تراقب عن كثب مآلات الأوضاع في تونس تمامًا كفرنسا التي دخلت في مواجهة مع سلطة القذافي حتى قضت عليه.
استثمرت الجزائر كل علاقاتها القديمة مع اللاعبين الجدد وخاصة حركة النهضة، فالجزائر في أيام الجمر لم تسلم القادة الإسلاميين رغم إصرار بن علي على استجلابهم، إلا أن اللاعبين الجدد كانوا متعددي المشارب تنقصهم الخبرة والوعي بتعقيدات الملفات وخاصة ما زالت تتملكهم عاطفة ثورية طهورية، كلها لعبت دور العوائق أمام هذه الدبلوماسية الجديدة.
كان ساكن قرطاج الحقوقي المنصف المرزوقي غير مطمئن للجزائر ويعتبرها تنتمي للمنظومة القديمة التي لا تصلح ولا تصلح، واقترب المرزوقي أكثر من ملك المغرب باعتباره مثل لوالده ملاذًا آمنًا أيام الصراع البورقيبي اليوسفي.
دخلت الجزائر في خط من العلاقات مع الإسلاميين واليساريين وخاصة المنظومة القديمة ورجال الأعمال الفاعلين، ولم تلبث أن تغيرت الأوضاع بعد الانتخابات، إذ رحل المرزوقي وجاء الباجي قائد السبسي بحزبه الجديد الذي يجمع داخله كل التيارات المناهضة للإسلاميين، إلا أن التيار الإسلامي ممثلاً في حركة النهضة لم ينتصر ولكنه لم ينهزم، إذ احتل المرتبة الثانية مما جعله حائزًا على الثلث المعطل، هنا تدخلت الجزائر لتلعب دور الوسيط بين الطرفين، ولتقتنع قيادتا الحزبين بضرورة الائتلاف، وقبل الانتخابات وبعدها ذاقت تونس الويلات من أعمال إرهابية تحت مسمى أنصار الشريعة مرة والقاعدة أو داعش مرة أخرى، وكانت تضاريس المنطقة على الحدود الجزائرية التونسية من التعقيد ومن الصعوبة بحيث كانت ملاذًا آمنًا للإرهابيين سواء كانوا تونسيين أم جزائريين.
اقتنعت الجزائر بأن استقرار المنطقة لا يتحقق إلا باستقرار ليبيا وتونس، خصوصًا وهي تواجه في حدودها الصحراوية قوى إقليمية اختارت الإرهاب والعنف منهجًا، بل توجد فصائل أعلنت ولاءها داعش، لذا فتحت الجزائر مطاراتها للفاعلين السياسيين في تونس، فزارها السبسي ثم الغنوشي وبعض زعماء الأحزاب، ولم تفوت الجزائر مناسبة أو فرصة إلا وحاولت تلطيف الأجواء ونسج علاقات أخوية مع كل الأطراف، فاستقرار تونس لصالح الجزائر واستقرار الجزائر قوة لتونس، غير أن قطار الديمقراطية الحقيقية يقلق قليلاً الجزائر لخصوصية الوضع الداخلي.
لهذه السباب ولدقة الوضع تأتي زيارة يوسف الشاهد راسمة الأهداف التالية:
1- التعاون الأمني والمخابراتي المشترك لمحاربة الإرهاب.
2- تنمية المناطق الحدودية.
3- التعاون الاقتصادي المشترك.
4- توحيد الرؤية والمنهج في الملف الليبي.
5- عدم الدخول في أي حلف مضاد لأحد الطرفيين.
6- التشاور وتبادل المعلومات بين الحزبين الحاكمين باعتبار كونهما يعيشان موجة انشقاقات.