دائمًا ما نصحت الأصدقاء بضرورة البحث عن علاج لما أعتبرها “حالة مرضية” يعيشها الجمهور الرافض للانقلاب وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، حالة لا تخفى أعراضها على كل ذي عين وقلب، تتمثل في قناعته بحياة “المظلومية” وما يعتريها من فقدان الثقة في أي أحد وكل أحد.
آخر تجليات هذه الحالة كانت في ردة فعلهم على “سائق التوكتوك” الذي وجد فرصته أخيرًا ليتنفس أو يُنفّس عما يعترك في صدره، لدرجة أنه استطاع خلال أقل من 3 دقائق أن يعرّي النظام العسكري ويفضح خيبته، وشاء الله أن ينتشر الفيديو الذي خرج فيه – قدرًا – من الشارع (مع الإعلامي عمرو الليثي) كالنار في الهشيم، ووصل صدى كلماته خلال ساعات قليلة إلى الملايين، بل تبنى أبناء جيله الدرجة التعليمية التي ألقاها في وجه “الليثي” عبر وسم #انا_خريج_توكتوك، حين قاطعه بالسؤال عن تعليمه ولسان حاله يقول: “دعك من تعليمي أنا خريج توكتوك، القضية قضية وطن بكل أهله وناسه”.
خرجت الرسالة واضحة، شديدة اللهجة، وأحرجت النظام بلا شك ومن دون أي تدخل، فقرر “عرّابوه” تشتيت الانتباه عنها، وهي طريقتهم المعهودة في قيادة الجماهير، حيث لا يجدى التجاهل نفعًا، بل من طريق الحدث نفسه، أخبار تتابع الحالة قرعًا لأبواب الفضول لدى جمهور يعشقه، من عينة: “رئاسة الوزراء تستفسر عن صاحب الفيديو”، و”عمرو الليثي يروي كواليس التصوير مع صاحب التوكتوك”، .. وغيرها.
لكن آخرين بإمكانهم تشتيت الانتباه أكثر، سيحققون أمل النظام هذه المرة – ككل مرة -، وإن كانوا في الأصل معارضيه، فقادة الرأي لدى جمهور “المرضى والمظلومين” يجيدون قرع أبواب التخوين والمؤامر: “ماطلعش سواق التوكتوك”، “طلع مدرس”، “طلع مخابرات”، وهلم جرا.
لعلك تسأل في النهاية: لماذا تركنا رسالة الرجل وصرخته وذهبنا نفتش وراءه؟ سأقول لك: “سل النظام ومعارضيه لماذا أنتم في عالمنا؟
التفتيش في ذمة الناس وتصنيفهم، وجهان لعملة رائجة ينتهجها الإعلام المصري الموالي للانقلاب والمناوئ له، تشتري في النهاية مزيدًا من الولاءات وتبيع الذمة والمنطق والحكمة.
لا أساوي أبدًا بين الظالم والمظلوم، ولا أدّعي أن الإعلام الرافض للانقلاب يخوّن الناس فيذهب إلى التحريض على قتلهم كمجرمي الإعلام المصري المؤمم من جانب السلطة، إنما يتفق معهم في التصنيف والتفتيش في الذمم، حتى في صفوف جمهوره، بل صار يبحث في نوايا الناس فيحجب هذا ويرفع ذاك، فقط لإرضاء مانحيه، يتخلى قليلًا عن أهدافه التي يتمنى كوادره تحقيقها – وهم أنزه الناس في فضاء الإعلام المصري – حفاظًا على بقائهم في هذا الفضاء.
لا تستغرب حين تعلم أن سجالًا دام لعدة أشهر بين هذه الكوادر مع مانحيهم، في محاولة لإقناعهم بألا يتحدثوا باسم فصيل سياسي يصيب ويخطئ، بأن يجمعوا شتات ثورة سقطت من أيديهم بفعل أنانيتهم السياسية وسذاجتهم أيضًا، فانتهى السجال إلى وجهة النظر “الأنانية” و”الساذجة”.
ألا تجد أن عبارات من عينة: “حكومة السيسي”، “وزير الانقلاب”، “يقبع في سجون العسكر”، وغيرها، تمنعك حتى من مواصلة الاستماع أو القراءة في قضايا مهمة تود استقاء معلوماتها بشكل نزيه، لأنها تشعرك بالانحياز؟ ألا ترى أن واقع مصر المأساوي لا يحتاج إلى مثل هذه “البهارات” الحريفة التي يحبونها ويبغضها غيرهم؟ هذه هي السذاجة.
هو انقلاب بلا شك، أحال البلاد إلى حكم عسكري لا ريب، لكنه في الواقع أقام نظامًا جبريًا راسخًا وأصبح له حاشيته ومنتفعوه وحتى شعبه في وقت كان ينتظر فيه الشعب الآخر عودة الرئيس مرسي يوم الثلاثاء العصر، ومن بعده كل ثلاثاء، ولا يعني هذا أن يتخلى رافضو الانقلاب عن وصفه بالانقلاب أو وصف نظامه بالعسكري، لكن أما وقد أقام نظامه – وهم في غيبوبتهم – وصرّح يومًا في لقاء عبر شبكة “بي بي سي” بأن الإخوان جزء من الشعب المصري والشعب هو صاحب القرار في عودتهم إلى الحياة السياسية، فتلقفوه بمزيد من السخرية والتهكم، فليس لسلطة الانقلاب ولا منتفعيها ولا حتى شعبه حاجة في الاستماع إلى هذا الآخر، لتبقى محنة رافضى الانقلاب ودائهم ومظلمتهم أكثر ما يرضيهم فيواقعهم فيركنون إليه، ويظل إعلامهم وقادة الرأي في عالمهم لا يحدثون إلا أنفسهم.