ترجمة وتحرير نون بوست
عندما كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساءً من ليلة الخامس عشر من يوليو/ تموز، سمع رئيس الأركان التركي الجنرال خلوصي آكار، صوت طرق على باب مكتبه الواقع في العاصمة أنقرة، لقد كان الطارق أحد رؤسائه وهو الجنرال محمد ديشليأتى ليخبره ببداية الانقلاب العسكري وقد قال “سنعتقل الجميع” وتابع “الكتائب والفرق في طريقهم إلينا، سترى ذلك بأم عينك”، أصيب الجنرال آكار بالذعر مما سمعه وسأله: “ماذا تقول بحق الجحيم؟”.
في مدن تركية أخرى، أمر ثلة من الضباط المتورطين في الانقلاب وحداتهم العسكرية باحتجاز كبار القادة العسكريين وإغلاق منافذ الطرق الرئيسية والاستيلاء على المنشآت الحيوية مثل مطار أتاتورك الدولي في إسطنبول، وقد أقلعت مقاتلات “إف-16” وفقًا لأوامر هؤلاء القادة، ووفقًا لأقوال أحد المسؤولين المتورطين في الانقلاب، فإن المتآمرين قد حاولوا إقناع رئيس الأركان بالانضمام إليهم لكنه عندما أعرب عن رفضه قيّدوا يديه ونقلوه بالمروحية إلى قاعدة جوية أين تم احتجاز بقية الجنرالات الآخرين وفي تلك اللحظة وجه أحد المتمردين سلاحه في وجه الجنرال آكار مهددًا بقتله.
وبعد حلول منتصف الليل، اضطرت مذيعة في التلفزيون التركي الرسمي إلى بث بيان المتآمرين في أثناء الانقلاب، حيث أطلقوا على أنفسهم اسم اللجنة الرئيسية للسلام تيمنًا بالمثل التي تقوم عليها الدولة، وقد ورد في البيان أن مجلس السلام قد نسف مؤسسات الدولة المشاركة في الفساد ودعم الإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان وأنه “قد تم القضاء على الحكم العلماني والقانون الديمقراطي” ولم تتم الإشارة إلى ما آلت إليه رئاسة الدولة.
لقد بدا مجلس السلام، المتمثل في الهيئة التنفيذية التي أُعلن المتآمرون عن تشكيلها في 15يوليو/ تموز، ممسكًا بزمام الأمور لهنيهة من الزمن، في تلك الأثناء، انضم بعض حكام الأقاليم وقادة المجتمع المدني إلى الانقلاب بينما أُجبر آخرون على الاستسلام والأمر سيان مع فرق الشرطة، وبعد انتهاء أحداث الانقلاب الفاشل، عثرت المخابرات التركية على مجموعة من الرسائل النصية التي تضمنت محادثات بين الرائد مراد شيليبي أوغلو والفرق التي تحت إمرته قال فيها إنه “لقد تم استدعاء نائب رئيس شرطة إسطنبول وإبلاغه بخبر الانقلاب ودعوة بقية المسؤولين للاجتماع”، وكانت إحدى الإجابات للكولونيل أوزان شاهين قال فيها “أخبر زملائي في الشرطة أنني أقبل رؤوسهم”.
لكن على ما يبدو لقد كان مخطط الانقلاب عشوائيًا، فشل فريق المروحيات في القبض على الرئيس أردوغان الذي كان يقضي عطلته في منتجع بمارماريس وقد حدث تبادل نار بينهم وبين الحراس في الفندق الذي كان يقيم فيه، لقد استطاع منفذو الانقلاب أن يحكموا السيطرة على قناة تلفزيونية واحدة ولم يتمكنوا من قطع شبكة الخطوط الخلوية للهاتف.
في تلك الأثناء، كان الرئيس أردوغان قادرًا على تسجيل شريط فيديو ليتم بثه على قناة سي-إن-إن الإخبارية التركية، وقد دعا من خلاله المواطنين الأتراك إلى “الخروج للشوارع ورد الانقلاب”، وقد هب المواطنون بأعداد غفيرة إلى تلبية طلب رئيسهم، وفي ظل مقاومة الشعب التركي، الذي خرج إلى الشوارع على الرغم من تعميم حظر التجوال في البلاد، مشكلاً ضغطًا هائلاً على القوات الجيش التي كان عليها أن تختار بين الاستسلام أو إطلاق النار على تلك الجماهير الغاضبة، ومع انبلاج الصبح، نجح الشعب التركي في إفشال هذه المؤامرة.
أعلن أردوغان عن حالة الطوارئ وفي الأسابيع التي تلت الانقلاب، ظهر الرئيس في جملة من القنوات ليذكر المواطنين بتكلفة الانقلاب الغالية، وعلى خلفية الانقلاب، أطلق بعض المتآمرين النار دون شفقة على المتظاهرين وعلى رفاقهم الذين أعربوا عن معارضتهم للانقلاب، وقد أمر أحد القادة المتمردين، الجنود في رسالة نصية أن “يسحقوا المتظاهرين ويحرقوهم دون ترك أي مجال للتفاهم”، لقد لقي أكثر من 260 شخصًا حتفهم إثر عمليات إطلاق النار بينما جرح آلاف آخرون، علاوة على الخسائر البشرية، قصفت مقاتلات “إف-16” مبنى البرلمان مخلفة ثقوبًا في واجهته وقطع من الخرسانة متناثرة في الممرات.
وكما ورد في تصريحات أردوغان، فإن الانقلاب لم يكتسب أي صبغة شرعية ولم يكن علامة من علامات العصيان المدني أو الحراك الاجتماعي، في الحقيقة، لم تنبع القرارات المتخذة بشأن الانقلاب من مقر سيادي تركي بل صدرت الأوامر من بنسلفانيا، لقد كانت رسالة أردوغان المشفرة واضحة للشعب التركي، فقد قصد بها أن العقل المدبر لهذا الانقلاب كان فتح الله غولن، رجل الدين البالغ من العمر 78 عامًا الذي يعيش في المنفى منذ عقدين ليتخذ من بوكونو (في ولاية بنسلفانيا – الولايات المتحدة الأمريكية) ملجأً له.
فر المفكر الإسلامي والداعية التركي فتح الله غولن، من تركيا سنة 1999 خشية أن يتم اعتقاله من طرف السلطات التركية، وعلى الرغم من بعده عن تركيا، إلا أنه كان بمثابة المرشد الروحي للملايين والمشرف على شبكة من المدارس الخيرية، وقد عرف عنه أيضًا توفير منح دراسية للفقراء، وقد أكدت خُطب غولن وكتاباته على فكرة التوفيق بين تعاليم الشريعة الإسلامية والعلم المعاصر والتشجيع على الأعمال الخيرية، وقد أطلق على الحركة التي أسسها اسم “حركة الخدمة”.
ولقد مثل توجه غولن الفكري أملاً للعديد من القيادات في الغرب الذين أرادوا تطبيق مثل هذا المنظور الإسلامي في تركيا، وقد التقى فتح الله غولن بالعديد من القيادات المهمة في الغرب كالبابا جون بول الثاني وأهم القيادات في مختلف المنظمات اليهودية وتكريمه من قبل الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي أثنى على “أفكار التسامح وحوار الأديان” التي يحملها.
بدت الاتهامات التي وجهها أردوغان، في أعين الكثير من المراقبين الخارجيين للشأن التركي، كأحداث فيلم سينمائي تقوم فيه خلية سرية بالتخفي داخل دولة حداثية منتظرة صدور الأوامر من قائدها الطاعن في السن الذي يقطن في أحد التلال في النصف الآخر من الكرة الأرضية، لكن بالنسبة لأردوغان، لقد كان التصريح الذي أدلى به للرأي العام حقيقة مستمدة من الواقع السياسي، أصبح فتح الله غولن، الذي كان في وقت من الأوقات من أبرز حلفاء أردوغان، زعيم حكومة الظل وكله عزم على الإطاحة بحكومة أردوغان، وفي الأسابيع التي تلت هذا البيان، شملت حملة اعتقالات واسعة عشرات الآلاف من الأفراد الذين أشتبه في مناصرتهم لفتح الله غولن، وفي تصريحات نارية، طلب أردوغان من الولايات المتحدة الأمريكية أن تسلم فتح الله غولن للسلطات التركية ليمتثل أمام القضاء وتأخذ العدالة مجراها.
ومنذ موافقة السلطات الأمريكية على طلب اللجوء السياسي، نأى غولن بنفسه عن العالم الخارجي في أحد أرياف بنسلفانيا، بينما أمطر وسائل الإعلام التركية بوابل من التسجيلات الصوتية ومقاطع الفيديو، لكنه رفض الظهور للملأ في أي مناسبة عامة، لم أكن متفائلاً عندما تقدمت بطلب لقائه سنة 2014، ففي مكتب الحركة الواقع بمانهاتن المسمى “بالتحالف من أجل القيم المشتركة” أخبرني المدير التنفيذي ألب أصلان دوغان، مرارًا وتكرارًا أنني لن أتمكن من لقاء فتح الله غولان أبدًا “لأن حالته الصحية متدهورة وأنه حتى لو وافق على طلبي فسيصاب بوعكة صحية بعد الإجابة على بضع من الأسئلة”.
وبعد مرور سنة على رفضهم لطلبي تم استدعائي دون إعلام مسبق إلى المجمع، وقد قدت سيارتي من نيويورك متجهًا غربًا نحو الأراضي الزراعية في شمال بنسلفانيا ثم جنوبًا على الطريق المتعرج إلى سايلورزبورغ، وهي بلدة يقطن فيها حوالي 1200 شخص، وبعيدًا عن تلك البلدة بعدة أميال، أين كانت تقع كنيسة إيتون، مقر مجمع غولن الذي تضمن دور عبادة الممتدة على حولي 25 فدانًا من الغابات والمروج الخضراء.
عندما ترجلت من السيارة ذكرني المشهد الطبيعي الذي رأيته بريف الأناضول، فقد بنيت المنشأتان على الطراز العثماني بنوافذ مرتفعة وأسقف مائلة، وكانت النساء ترتدي الحجاب الأنيق الذي يميز الطبقات التركية الوسطى وكان الجميع يتحدث اللغة التركية، استقبلني أصلان دوغان وقادني إلى غرفة المؤتمرات المزخرفة والمفروشة بالأرائك المتقابلة التي حجزت مسبقًا للقاء.
دخل فتح الله غولن القاعة بعد دقائق معدودة وكان يرتدي بذلة سوداء شبيهة بالبذلات المعروضة في واجهة المحلات التجارية الأمريكية الرخيصة مثل تارغت أو مارشال، لقد كان محني الظهر ومطأطئ الرأس ومتثاقل الخطوات وقد كانت علامات التوعك طاغية على ملامحه ولم يعكس مظهره غرور وكاريزما زعيم منظمة عالمية، لقد حياني غولن بمجرد تلويح يده ولم ينطق سوى بضع كلمات بالإنجليزية طيلة لقائي معه وكأنه لم يعش قرابة 17 سنة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد قادني في مدخل يؤدي إلى مقر إقامته الذي لم يتجاوز غرفتين صغيرتين قد فرشت إحدى زواياها بسجادة صلاة وفراش على الأرض ومكتب ورفوف كتب.
طيلة الوقت الذي قضيته مع فتح الله غولن لم يكن هناك أي أحاديث جانبية بيننا ولم يبتسم غولن لأي سبب، أثناء اللقاء، سألته عن علاقته برجب طيب أردوغان، فأجابني من خلال مترجم أن أردوغان لم يرد أن يتشارك مقاليد السلطة مع أي طرف، وقال إنه ظاهريا “يريد أن يفرض وجهة نظره باعتبار أنه الشخص الوحيد القادر على تسيير البلاد والسيطرة على زمام الأمور”، كما أضاف أن أردوغان والموالين له متشابهون في العديد من السمات: “ففي بداية مسيراتهم السياسية يحاولون قدر المستطاع إظهار واجهة الحزب الديمقراطية والقيادية ويخرجون أنفسهم للناخبين في صورة أهل الإيمان، وبالتالي فلن يستطيع أحد الطعن أو التشكيك في دوافعهم”.
وكما عهد الجميع فتح الله غولن، فقد تحدث معي بكل إيجاز واقتضاب، وقد حذرني أحد المسؤولين في الاستخبارات التركية من هذا الشخص لأنه لن يمدني بالمعلومات التي أحتاجها ولن أستطيع أن أفهم وجهة نظره. عندما سألت غولن عن اهتمامات حركته السياسية، أخبرني أن له أنصارًا في مختلف هياكل الدولة لكن هذا لا يرقى إلى مستوى التنظيم لانقلاب عسكري ولا يمكن أن يثبت إمكانية وجود مؤامرة ضد أردوغان، وواصل حديثه قائلاً إنه “لا يوجد أي موطن أو مجموعة منعزلة كليًا عن السياسة لأن القرارات التي ستتبعها الحكومة ستؤثر بأي شكل من الأشكال على نمط حياتهم، إن الانخراط في الحياة السياسية نشاط طبيعي لأي منظمة تابعة للمجتمع المدني وهو أمر مرحب به في المجتمعات الديمقراطية وهذا لا يجعل من منظمة الخدمة حركة سياسية”، لقد تجاذبنا أطراف الحديث لبعض الوقت، لكن كما توقع مساعده فإن غولن بدأ يظهره عليه الإرهاق مما جعل أصلان دوغان يعلن عن انتهاء المقابلة.
وعلى ضوء المقابلة التي أجريتها مع غولن، وجدت أن أفضل تجسيد لأفكاره في تركيا كان من خلال شخص رجل الأعمال التركي مصطفى إكسوي، الذي التقيت به سنة 2011 بأحد الفنادق في إسطنبول، (وقد استعملت هذا الاسم تلبية لرغبة رجل الأعمال الذي أراد أن ينسب له اسمًا مستعارًا وذلك بهدف حماية عائلته بعد الانقلاب)، لقد كان هذا الرجل كغيره من أتباع غولن؛ حليق الذقن وجميل المظهر ومنشرح الوجه وذا طلة غربية عصرية، لقد كان شخصًا ناجحًا يدير العديد من المشاريع كشركة مقاولات وشركة خدمات فندقية ومصنع أدوات منزلية، حيث تشغل هذه المشاريع حوالي 600 شخص، عاش أكسوي في إحدى الدول الأوروبية لمدة ثلاثة سنوات ولقد تزوج من إسكندنافية، يتكلم هذا الرجل اللغة الإنجليزية بطلاقة بفضل عمله الذي جعله يزور العديد من البلدان.
أخبرني أكسوي أن اسمه ارتبط بحركة غولن منذ سنة 1993 عندما رافق وفدًا من رجال الأعمال في رحلة إلى تركمانستان، وهي إحدى دول آسيا الوسطى، كما أخبرني أنه عندما كان هناك، اصطحبهم إلى إحدى المدارس الثانوية التابعة لأنصار غولن، وصارحني بإحساس الفخر بالوطن الذي خالجه عندما رأى العلم التركي في الخارج وعلم أن المدرسة تحمل اسم أحد الرؤساء الأتراك السابقين وصورة كبيرة معلقة على جدار المدرسة للرئيسين التركي والتركماني وهما يتصافحان، لقد كانت من المدارس النخبوية التي كان يسعى العديد من الأولياء إلى أن يسجلوا أبناءهم فيها”.
لقد زاد انخراط أكسوي في حركة غولن من خلال التبرعات التي قدمها لجملة من المدارس أثناء سفره لآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا وإفريقيا، وأضاف أن “التبرع لهذه المدارس أصبح بمثابة هواية أمارسها وكلما حللت بإحدى البلدان أقوم بزيارة مدارس غولن”، ووفقًا لما رواه لي رجل الأعمال فقد كان هناك العديد من المدارس حول العالم حتى في الولايات المتحدة الأمريكية كتلك الواقعة في ولاية تنزانيا وكاليفورنيا، وقد لاحظت في الآونة الأخيرة أن هذه المدارس أصبحت وسيلة لتركيا لتحقيق مصالحها في الخارج؛ ففي السابق لم تكن السلطات التركية تعير اهتمامًا لمسألة الاستثمار الأجنبي، لكن الآن بفضل هذه المدارس أصبح هناك المزيد من السفارات التركية وبعث العديد من المشاريع.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن أكسوي قد مدني بمعطيات مهمة، فقد أخبرني أن المدارس شكلت شبكة لتبادل الخبرات والتواصل فيما بينها لمواكبة المعايير المتعاقد عليها مع الإبقاء على دفق المعلومات، وعلى غرار غولن، فقد أصر أكسوي على أن الحركة لم تكن لها أي أجندة سرية، كما قال إن الشكاوى التي ترفع ضد الموالين لحركة غولن لا تعكس سوى أحقاد السياسيين الذين يحنّون لأيام تركيا العلمانية وإلى حقبة زمنية قد ولّت، وواصل قائلاً إن”هذا الطيف السياسي الذي خسر السلطة لا يستطيع أن يستوعب التغيرات الجديدة التي طرأت على المشهد السياسي، إن تركيا تشهد انتقالاً نوعيًا على جميع الأصعدة لكن عدم قدرتهم على مواكبة هذا العصر الجديد تجعلهم يلقون باللوم على الآخرين”.
إن الجمهورية التركية قائمة منذ البداية على مبادئ الدولة العلمانية، فلقد تم تأسيس هذه الدولة العلمانية على يد الثوري القومي مصطفى كمال أتاتورك سنة 1923 الذي آمن بوجوب فصل الدين عن السياسة، وقد ألغى الحكم الملكي في تركيا أو الخلافة الإسلامية عندما وصل أتاتورك إلى السلطة بعد 1300 سنة من النظام الملكي، وتبعًا لهذا النظام الجديد، أصبح رجال الدين موظفين لدى الدولة وذلك كي يضمن حيادهم وعدم انحرافهم عن المسار الذي يريد للجميع أن يسلكه.
وقد انجر عن تأسيس هذه الدولة تسيير الأغلبية التركية تقريبًا طيلة القرن العشرين من قبل النخبة العلمانية، ولقد اعتبر الجيش التركي، الذي يعتبر أقوى مؤسسة في الدولة، بحامي دولة أتاتورك العلمانية، وقد تم استخدام الجيش التركي في مناسبات عدة خاصة في فترة السبعينات والثمانينات لردع الأحزاب الإسلامية من الوصول إلى السلطة وكسب قاعدة شعبية كبيرة قد تهدد وجود العلمانيين، وبالتالي، فإن الحكومة العلمانية في ذلك الوقت كانت تعتبر الأحزاب اليمينية خطرًا يحدق بها لذلك وجب كبح جماح طموحاتهم بتشكيل دولة إسلامية.
مثلت سنة 2001 سنة حاسمة للتيار اليميني الإسلامي، فقد أسست مجموعة من النخبة المثقفة بقيادة أردوغان حزب العدالة والتنمية، أسس رجب طيب أردوغان هذا الحزب بعد خروجه من السجن، وقد تم اعتقال رجب طيب أردوغان وإقالته من منصبه كعمدة إسطنبول بعد اتهامه بالتحريض على الكراهية الدينية بسبب اقتباسه أبيات من شعر تركي شهير أثناء أحد خطاباته يقول فيه: “مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا”.
وفي السنة التي تلتها، أعلن أردوغان عن ترشحه لمنصب رئيس الوزراء، وقد قدم أردوغان نفسه أثناء خطابات حملته الانتخابية على أنه سيكون صوت تركيا لكنه وعد بأن يبقي الدين بعيدًا عن السياسة.
صعد حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في الانتخابات التشريعية وبدأ أردوغان بإعادة صياغة المشهد السياسي في تركيا، شملت الإصلاحات التي قام بها أردوغان، السلك القضائي كما حرر الاقتصاد وحل الخلافات القديمة مع الأقليات المضطهدة منذ فترة طويلة كالأكراد والعلويين، وكنتيجة لهذه الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية، تضاعفت نسبة الناتج الداخلي الخام، أما في الغرب، فقد كان أردوغان بمثابة الجسر الذي يربط الدول المتقدمة والأوروبية بالعالم الإسلامي باعتباره نموذج للقائد الإسلامي الديمقراطي المعتدل.
حاول فتح الله غولن التنظير لتوجه سياسي يتماشى مع هياكل الدولة العلمانية، وتجدر الإشارة إلى أن فتح الله غولن كان واعظًا دينيًا في مدينة إزمير الساحلية لتكون محطته الأولى نحو الطريق الروحي الذي كان ينشده، لقد نسج غولن مسيرته الدعوية على منوال الشيخ سيد نرسي الذي أكد على أهمية التوافق بين الإسلام والمنطق والبحث العلمي، وبينما تبنى الكثير من الإسلاميين الفكر الرافض للغرب والرأسمالية ووجهات النظر المعادية للسامية، كان غولن في خطبه يشجع على الاستثمار والعلم وقد روج للعديد من الأفكار المثيرة للجدل.
بعد الانقلاب العسكري في سنة 1971، اعتقل النظام الجديد فتح الله غولن بتهمة التآمر على الدولة العلمانية وقد حكم عليه بالسجن لمدة سبعة أشهر، وعقب انتهاء فترة سجنه، أصبح غولن نموذج الإسلامي الذي احتفت به مؤسسات الدولة العلمانية التي عبدت له الطريق ليبدأ مشواره السياسي من خلال السماح له بالاجتماع مع جملة من القيادات، وقد أعلن غولن في مناسبات عدة عن دعمه للنظام العلماني من خلال قوله “لقد قلت مرارًا وتكرارًا إنه إذا طبقت مبادئ النظام الجمهوري والعلمانية بحذافيرها في تركيا، فإننا سننعم بالأمن السياسي والاستقرار الاجتماعي”، لقد أثارت تصريحات غولن جدلاً واسعًا في صفوف الإسلاميين لكنهم لم يستطيعوا إلحاق الأذى بغولن الذين كان على ما يبدو محميًا من قبل السلطات العلمانية.
بالنسبة للرأي العام الغربي، كان خطاب غولن الديني المناصر للعلمانية خطابًا غامضًا لم يستطيعوا فك شفراته، فعلاوة على حاجز اللغة التركية التي كانت قلة قليلة تتقنها، فإن الأفكار الدينية التي كان يدعو لها غولن كانت أقرب منها إلى الطوباوية وإلى مبادئ المدينة الفاضلة التي ترفع فيها شعارات ورايات الحب والسلام والتسامح والحوار بين الأديان، وفي تحليل لشخصية غولن من قِبل أحد أتباعه السابقين، فإن كاريزما غولن وحضوره تنبع من مشاعره الفياضة؛ فردات فعله أثناء الخطب لا يمكن توقعها، عندما يتأثر يبكي ولا يخشى التعبير عما يخالجه من أحاسيس ولعل هذا ما يجعله سياسيًا مختلفًا عن غيره، أما بالنسبة للمسلمين عامة وللأتراك خاصة، فإن أسلوب غولن الخطابي يعد أكثر من ساحر أمام ذلك الزخم من الانفعالات، وقد شبه غولن نفسه في خطب عديدة بالنبي محمد لمواجهته العديد من الصعوبات والعراقيل أثناء مسيرته.
عندما تولى رجب طيب أردوغان الحكم، كان عدد الموالين لفتح الله غولن في تركيا يقدر بثلاثة ملايين تابع، كان من بينهم مجموعة من الإسلاميين المعتدلين الذين كانوا يتحدون النخبة العلمانية من خلال تقلد مختلف المناصب في هياكل الدولة، لقد شجع غولن على دعم انخراط الشباب في الدورة الاقتصادية، ووفقًا لهذا المخطط التنموي قام أتباعه في مختلف المؤسسات الحيوية بإنشاء شبكة من مراكز إعداد الاختبارات لتحضير الشباب لمناظرات القبول في الجامعة والأكاديميات العسكرية والخدمة الاجتماعية.
لقد كانت هذه المراكز ذات صبغة نفعية بالأساس وقد تبرع العديد من رجال الأعمال بالأموال لإنجاح مشروع غولن، وفي ظل تنامي شعبية غولن، بدأ أتباع غولن تدريجيًا ببناء إمبراطوريتهم التي قيل إنها تقدر بمليارات الدولارات والتي تضمنت صحفًا وقنوات تلفزيونية ومشاريع استثمارية وجمعيات مهنية، بدأت تنتشر المدارس الممولة من قبل فتح الله غولن والتي يبلغ عددها 2000 مؤسسة تعليمية الموزعة على 160 دولة ناهيك عن وجود 120 مدرسة بالولايات المتحدة الأمريكية.
في سنوات حكم أردوغان الأولى، تشارك كلا الطرفين العديد من الاهتمامات خاصة عندما كان يتعلق الأمر بمحاولة إدراج الدين في الحياة العامة، لكن التعاون بينهم كان شبه متقطع، ثم في ربيع سنة 2007، حدثت مواجهات بين قادة الجيش التركي وأردوغان على خلفية ترشيحه لأحد الإسلاميين المقربين منه لمنصب رئاسة الجمهورية، وعقب احتدام المواجهات بين كلا الطرفين، نشر مكتب رئيس هيئة الأركان العامة مذكرة على موقعه الإلكتروني مفادها أنه “لا يجب أن ينسى أي فرد أن قوات الجيش التركي المسلحة هي طرف فاعل في هذه المشاورات باعتبار أنها المدافع القوي عن العلمانية، وسنعمل وفقًا للقواعد المتفق عليها وستكون ردة فعلنا واضحة وعلنية كلما تطلب الأمر ذلك”.
وعلى ضوء ما حدث بين رئاسة الحكومة والجيش، دعا أردوغان إلى الشروع في انتخابات عامة وقد ندد بردة فعل الجيش بدل الاستدراك، وحتى بعد فوزه الحاسم في الانتخابات، ظل هاجس معاداة الجنرالات له يطارده خاصة بعد إعلانهم عن دعمهم لمقومات الدولة العلمانية، وقد أخبرني أحد مساعدي أردوغان، إبراهيم كالين، أن “الموالين لغولن أرادوا اغتنام هذه الفرصة، فعندما وصلنا إلى الحكم كأول حزب يميني إسلامي، لم نلق سوى الدعم الشعبي ولم نستطع النفاذ إلى هياكل الدولة سواء كانت الأمنية أو القضائية أو العسكرية”، وبما أن غولن كان مدعومًا بشكل ملحوظ من قبل البيروقراطية التركية، فقد كان بمثابة الحليف الأمثل لنا في تلك الفترة، وكان هذا الدافع الرئيسي وراء تحالف أردوغان مع غولن وتعاونهما والعمل بشكل وثيق.
سطع نجم أردوغان في الفترة التي تلت تحالفه مع فتح الله غولن لكن اللغط والإشاعات قد كثرت حول ماهية الثمن الذي دفعه أردوغان مقابل هذا التعاون، وفي أواخر سنة 2011، قدت سيارتي نحو إحدى ضواحي مدينة أنقرة لزيارة القاضي أورهان غازي أرتيكين في مكتبه الذي علقت صورة مصطفى كمال أتاتورك على أحد جدرانه، أخبرني القاضي أرتيكين بتفاصيل حضوره مؤخرًا لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء والادعاء العام الذي يتم على إثره تعيين القضاة الذين سيوزعون على محاكم البلاد، وقد قال القاضي إنه “قد اخترت مسبقًا أسماء المرشحين الذين أريد اقتراحهم على هيئة الانتخابات ولقد كنت مستعدًا لإقامة التحالفات وعقد الصفقات”، وفي أثناء المؤتمر، أحس القاضي أن مجموعة من القضاة التابعين لغولن كانوا يخططون لإقصاء بقية المرشحين، وقال “في البداية لم يكن يملك أدنى فكرة عما كان يدور بينهم لأنهم كانوا يستعملون لغة مشفرة”، وبعد انتهاء التصويت تبين لأرتيكين أن عدة أعضاء من المجلس الجديد كانوا من الموالين لفتح الله غولن، وقال إن “جماعة غولن قد اختاروا مسبقًا أعضاء المجلس الأعلى للقضاء ولم تكن لهم منذ البداية أي نية للتعاون أو التشاور مع بقية أعضاء الهيئة”.
كما أخبرني أرتيكين أن فتح الله غولن كان يسيطر على النظام القضائي في تركيا وأن “أردوغان لن يتمكن من تحقيق مبتغاه دون الالتجاء إلى مساعدة غولن، لقد تدخل التابعون لغولن في كل قرار متخذ بشأن المحاكمات الاقتصادية والسياسية المهمة”، لقد بدا عليه القلق والخوف حول ما ستؤول إليه الأمور إذا حاول أحد ما أن يكشف عن الفساد القضائي داخل النظام العلماني، حيث إنه لا يوجد أي مجال يسمح بحرية انتقاد الموالين لغولن المنتشرين تقريبًا في مختلف هياكل الدولة.
ساورتني بعض الشكوك تجاه إدعاءات أرتيكين ولم أكن متأكدا من إمكانية أخذ أقواله على محمل الجد. لقد كانت تقاليد العلمانية في تركيا في طريقها نحو التقهقر ومن المؤكد أنه كان يحاول حبك نظرية المؤامرة كتفسير وحيد لأسباب هذا الانهيار. لكنني لم أكتفبما قاله القاضي وقررت القيام بجولات في أرجاء تركيا للتزود بمزيد المعلومات وسماع قصص أخرى. ولقد سمعت روايات شبيهة لما سمعته من القاضي، حيث أثارت النخبة المثقفة التساؤلات حول نشاط المدارس التابعة لغولن وتفشيهم في مختلف أسلاك الدولة خاصة في الجهاز الأمني، أدت إلى اعتقالهم وسجنهم، وفي المجالس الخاصة والبعيدة عن أنظار المناصرين لفتح الله غولن، كان المواطنون الأتراك يتحدثون حول تواجد عصابة سرية متخفية وراء هياكل الدولة والتي تتزايد قوتها ونفوذها باطراد في تركيا.
سمع الطالب أحمد كيليش، الذي يقطن في مدينة كيريكيال في الوسط التركي، بأول خطبة مسجلة لفتح الله غولن سنة 1973، لقد كان هذا الشاب منبهرًا بإلقاء غولن الذي كان يتحدث بشغف عن الرسول لدرجة أنه أجهش بالبكاء أثناء سماعه للخطبة، وتجدر الإشارة إلى أن أحمد كيليش ينتمي لعائلة فقيرة تجني قوت يومها بفضل محل صغير لبيع زينة الطاولات الذي كان والده يديره، وبعد سماعه لعدة خطب مسجلة لغولن أحس أن الإيمان قد انبثق في قلبه من جديد، كيف لا وغولن “قد جعل الناس تسأل نفسها عن مهمتها الفعلية وعن الحقيقية كمسلمين”.
في صائفة تلك السنة، سافر كيليش إلى إزمير للقاء فتح الله غولن الذي دعاه إلى الالتحاق بمخيم صيفي دون دفع مراسيم الانخراط، وقد لبى كيليش نداء غولن له وشارك في المخيم مرتين، وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية، طلب منه غولن أن يتولى إدارة “إحدى منارات العلم” حيث قصد بها مهاجع الطلبة، التي تضاعف عددها بتضاعف مراكز النقاش الديني.
لقد كان معظم التابعين لغولن يطبقون مبادئه وأفكاره بجدية كبيرة، وقد تفطن كيليش بعد انخراطه في الحركة إلى أن لأتباع غولن هدفًا سريًا يكمن في اعتبار “الاستحواذ على مختلف هياكل الدولة ودس أتباعهم في مختلف المواقع الريادية الوسيلة الوحيدة لحماية الدين الإسلامي وضمان استمرارية تيارهم السياسي”، وواصل التفسير قائلاً إن “الطريق كان بهدف الوصول إلى هذه الغاية وهي الانتخابات البرلمانية، لكن لم تكن الشرعية وسيلة متاحة لنا بسبب الجيش الذي كان يقف لنا بالمرصاد، لم يكن أمامنا سوى الطرق غير القانونية وذلك من خلال اختراق هياكل الدولة وتغييرها من الداخل”.
ووفقًا لذلك المخطط، أخبرني كيليش أنه منذ ذلك الحين قد كرس جهوده للمحافظة على هذا السر وحمايته مهما كلف الثمن لكنه لم يكن يقحم نفسه في أي مناوشات مع المعادين لغولن كي لا يلفت الأنظار إليه، كما أخبرني أحمد أن “الازدواجية في عملهم تشكل سمة جوهرية في كيان هذه المنظمة، لقد كنت أصعد في سلم الرتب وكانت مهامي تزداد تعقيدًا وأهمية وقد ازداد معها شعوري بالعزة والفخر؛ فابن العامل الفقير أصبح عضوًا هامًا في إحدى أقوى المنظمات في تركيا”.
أطلعني كيليش عن الأسباب التي دفعته إلى الخروج من المنظمة والتي تتمثل بالأساس في شخصية غولن المتناقضة، فبينما يقدم غولن نفسه للناس في صورة رجل الدين التقي المتواضع الذي يعيش حالة نكران ذات، فهو في الحقيقة ليس سوى رجل منافق يعيش حياة مختلفة كليًا في الخفاء؛ فهو رجل مريض بجنون العظمة وسكير ويريد أن يكون الجميع تحت إمرته”، وقد مدني بمعلومات حول التسلسل الهرمي لمنظمة غولن حيث كانت تنقسم إلى سبعة مستويات على رأسها فتح الله غولن وقد حظي أحمد كيليش برتبة من المستوى الثالث لكنه لم يكن ملمًا بجميع المستويات التي كانت تعمل تحت كنف السرية، وبعد أن فتحت الموضوع مع أصلان دوغان أكد لي أن المعلومات التي أمدني بها كيلش مضللة ولا يمكن الاعتماد عليها.
في أثناء اجتماع لهيئة القيادة في الحركة، وصف غولن مخططاته على أنها تنفيذ للأوامر الإلهية، وقال كيليش أن غولن كان يخبرهم أن “الرسول في المنام قد أمره بالمواصلة على نفس هذا المنوال وكان كل الحاضرين يؤمنون إيمانًا قطعيًا بما كان غولن يرويه لهم”، لقد كان أتباع غولن يعتبرون تعاليمه الدينية بمثابة دين جديد، كما صرح كيليش “لقد كان منطلقه الإسلام، لكنه بدأ بتشكيل معالم دين لاهوتي جديد خاص به وقد ظننّا في وقت من الأوقات أن فتح الله غولن كان كسيّدنا عيسى عليه السلام”.
وفي نفس السياق أخبرني التابعون لغولن بنفس الأمور، فغولن ظاهريًا يبدو غير مهتم بالجاه والأموال والنساء وأنه لا يسعى سوى إلى التقرب من الله، كما أخبرني أحد الموالين لحركة غولن، ألبسوي، الذي دام انخراطه في هذه المنظمة لسبعة عشر سنة أن “هدف الحركة يكمن في اختراقها لدواليب الدولة واستيلائها على الحكم لكن حتى إن واجهتهم بهذه الحقيقة، فسيواصلون إنكارها حتى النهاية”.
حرض غولن في إحدى الخطب المسجلة في فترة التسعينات، أتباعه على التخفي داخل مؤسسات الدولة وانتظار اللحظة الموعودة، كما أخبرني ألبسوي أن غولن “طلب منا أن نتخفى تحت أقنعة رجال القانون وهذه الهوية ستسهل عليكم مهمة النفاذ إلى مواقع حيوية في الدولة وتولي مناصب سيادية”، لكنه في الوقت الحالي دعانا إلى التحلي بالصبر والمرونة “إلى حين تسلمهم لزمام السلطة والقوة في جميع مؤسسات تركيا الدستورية، فكل خطوة سابقة لأوانها قد تكلفنا الكثير”، كما وعدهم بضمان استمراريتهم كحزب إسلامي.
وتجدر الإشارة إلى أن أحمد كيليش قد أخبرني أن عملية التغلغل داخل أسلاك الدولة كانت تستهدف بالأساس السلك القضائي والأمني، كما شملت مخططاتهم المدارس ومراكز إعداد الامتحانات، كان المساعدون في المدارس يُنتدبون وفقًا لصغر سنهم وكان يتم إعدادهم في المراكز للتحضير لاختبارات القبول في الوظيفة العمومية، وقد كان التابعون المندسون في الوكالات الحكومية يزودون المرشحين بإجابات الاختبارات وعندما يتم قبولهم لهذه المناصب يساعدونهم في الحصول على ترقيات وتعزيز مسيرتهم المهنية.
لقد أسند لجماعة غولن المندسين داخل مراكز الشرطة أسماء حركية وقد تم تنصيب قائد أو “إمام” على رأس الوحدات الأمنية الذي كان يعتبر أعلى رتبة من رئيس قسم الشرطة نفسه.
أخبرني كيليش أنه أصبح إمامًا لإحدى الوحدات الأمنية في الأناضول، في أوائل التسعينات، ومشرفًا على خمسة عشر مدينة، وقد أقر أن 40% من رجال الشرطة في تلك المنطقة كانوا من التابعين لغولن بالإضافة إلى قرابة 20% من القضاة والنواب العامين، كما ذكر أنهم “كانوا يتحكمون في انتدابات الشرطة واختبارات القبول لهذه الوظيفة العمومية ولم يسمحوا لبقية المرشحين غير التابعين لهم بالدخول لهذا السلك”.
رغم شهرته في الغرب واعتباره نموذج عن رجل الدين المعتدل والحداثي، فإنه في عدة مناسبات قد اتخذ مواقف متشددة من قبيل التنديد بالولايات المتحدة الأمريكية وتشبيهها “بالعدو الذي لا يرحم” واعتماد ضرب النساء “وسيلة لجعلهن أكثر طاعة لأزواجهن”، ونشر غولن كتابًا تحت عنوان “من فصل إلى فصل” تضمن ترّهات تتمثل في مجموعات من التهم وجهها إلى قبيلة يهودية تنشر أفكارًا متطرفة كالشيوعية التي أغرت الشعوب وأودت بها إلى الهاوية، وكما ورد في هذا الكتاب، فإن “هذه الطائفة الخبيثة قد بثت سمومها في العالم على مر التاريخ باسم العلم والفكر، وقد كان ذلك أشبه بعرض عسل مسموم على الشعوب، وسيحاول اليهود الحفاظ على وجودهم واستمرارية كيانهم حتى النهاية مهما كلف الأمر، وسيأتي يوم تكشف فيه خدعهم التي انطلت على الإنسانية وسيعد اليهود محرقتهم بأنفسهم”.
صارحني كيليش أنه لم يشكك يومًا في معتقدات غولن حتى عندما بدأ يطرح مسألة الهيمنة على العالم، وقال إن “أمنية والده كانت تكمن في أن يصبح ابنه موظفًا لدى الدولة” وتابع أحمد “ابنه أصبح الآن رجلاً ذا شأن يخطط للسيطرة على العالم”، أما اليوم فقد أعرب كيليش عن استيائه الشديد كلما تذكر سذاجته وانبهاره بشخص فتح الله غولن، وقال كيليش “هناك خيط رفيع بين العبقرية والجنون، لكن في حالة غولن قد كان الأمر سيان بينهما؛ فقد عكست معارفه ووجهات نظره الدينية ومهاراته التنظيمية مدى عبقريته كمفكر وسياسي، وفي المقابل كنا نحن كقطيع من الساذجين المجانين”.
لقد روي كيليش وألبسوي أمورًا لم أستطع استيعابها تتعلق بما كان يحدث وراء الكواليس، فأثناء اجتماع أعضاء الحركة بغولن كانوا يفقدون أحيانًا صوابهم لدرجة الإقدام على فعل أشياء خيالية، فقد كان أفراد الحركة يدخلون في نوع من الهستيريا أو الطقس النفسي الغريب يفقدهم التحكم في تصرفاتهم، فعند تأثرهم الشديد بخطاب غولن، فإن العديد من القيادات يقومون بتقبيل قدمه، حتى لو كان ذلك رغمًا عنهم، تعبيرًا عن حبهم وولائهم له، وفي بعض الثقافات الآسيوية، يعتبر تقبيل القدم وسيلة لإظهار المودة النقية تجاه شخص ما، فلا يمكن لأحد أن يقدم على هذا إلا إذا أحب فعلا ذلك الشخص، وقال ألبسوي إنه لم يفعل ذلك لأي شخص طيلة فترة انخراطه في الحركة لكنه سمح للآخرين بتقبيل قدميه في عدة مناسبات.
لقد كان فتح الله غولن على علم بهذه الممارسات لكن ردة فعله الوحيدة كانت تتمثل في الضحك، وقد تعددت أشكال ومظاهر التعبير عن الولاء لرئيس هذه الحركة ومن أشدها غرابة نذكر شربهم للماء في الأحذية التي كان يلبسها فتح الله غولن، كما وصلت حماسة التابعين إلى درجة طبخ حذائه وتقسيمه إلى قطع توزع على الحاضرين ليأكلوها تبركًا بالشيخ غولن، كما أن البعض منهم كان يجمع صور غولن ويحتفظ بها ككنز ثمين لا يجب إهداره، بالإضافة إلى العديد من الأمور المشابهة التي تعدّ من المضحكات المبكيات، لقد كان هؤلاء يقدسون غولن إلى درجة تعجز الكلمات عن وصفها.
لقد استغرق أحمد كيليش سنوات ليبتعد عن هذه المنظمة ويقطع صلته بها، وقد مثلت سنة 1997 نقطة تحول بالنسبة لكيليش، الذي تغير مسار تفكيره بعد مهاجمة غولن لرئيس الوزراء الإسلامي، نجم الدين أربكان، علنًا وتوجيه التابعين له في الإعلام إلى الإطاحة به، لكن تحت ضغط الجيش، عاد رئيس الوزراء أدراجه ولم يبد أي ردة فعل تجاه هذا الهجوم، وقال كيليش “هناك أمور عدة قد جمعت بين أربكان وغولن، ألا وهي الدولة الإسلامية، لكن غولن قد نسف رئيس الوزراء لأن السلطة والنفوذ كانت أهم من الدين نفسه”.
وبعد فترة قصيرة، كتب كيليش رسالة إلى غولن عدّد فيها الطرق التي جعلته ينحرف عن الطريق السوي واتباع طريق السلطة وتبعًا لذلك تم طرده من الحركة، وأخبرني كيليش أنه عندما عاد إلى حياته الطبيعية بعد خروجه من الحركة تيقن أنه كان بعيدًا كل البعد عن العالم الواقعي وأن الحركة جعلته يعيش في عالم المثل والخيال.
سنة 2005، أرسل الدبلوماسي الأمريكي، ستيوارت سميث، برقية إلى السلطات التركية يعلن فيها عن زيارة ثلاثة شرطيين للقنصلية الأمريكية لتلبية طلب لفتح الله غولن، وقبل ثلاث سنوات، تقدم غولن للسلطات الأمريكية بمطلب إقامة دائمة لأنه شخصية استثنائية يجب أن تحظى بالاحترام والتقدير الذي تستحقه، لكن الولايات المتحدة الأمريكية رفضت طلبه بتعلة أنه ليس شخصية بارزة قد تستحق كل هذا العناء وأنه بالغ كثيرًا في تقدير مكانته كعلاّمة، ولعل هذا ما يفسر ضغط الشرطة على القنصلية لتلبية رغبة غولن في الإقامة الدائمة بالولايات المتحدة الأمريكية.
كان سميث من المشككين في نوايا غولن وفي دوافعه وقد أشار في برقيته، التي نشرها موقع ويكيليكس، أنه يجب الاحتراز في التعامل مع هذا الداعية المتشدد، فهوس الموالين له بالسلطة والهيمنة على العالم كفيل بجعله طاغية، فضلاً عن تقديسهم له واستحواذهم على العديد من المنشآت التعليمية والإعلامية والاقتصادية، وإذا تم اضطهاد أي مفكر أو سياسي في تركيا فذلك سيكون حتمًا بسبب نقده لحركة غولن، كما تعرض لموضوع اختراقهم لهياكل الدولة ودس التابعين له في كل مكان، ناهيك عن عزوف نسبة هامة من النخبة المثقفين عن التعبير عن آرائهم خشية فضح أمر معارضتهم للحركة وحصول ما لا يحمد عقباه.
وعلى الرغم من انتقادات المسؤولين الأمريكيين اللاذعة لفتح الله غولن، فقد تمكن الأخير من الحصول على الإقامة إثر تدخل عدد من أصدقائه ذوي الشأن في الأمر، وكان من بين الشخصيات التي دعمت غولن مسؤولين سابقين مثل مدير مكتب التوعية التابع لوكالة الاستخبارات الأمريكية، جورج فيداس، والسفير الأمريكي السابق، مورتون أبراموفيتش، ومسؤول بارز في وكالة الاستخبارات الأمريكية، غراهام فولر.
أثناء الحرب الباردة، كان فولر ضابطًا ميدانيًا في تركيا تابعًا لمنظمة الاستخبارات، وقد دعا إلى دعم تنامي وجود الإسلاميين على الشريط الحدودي السوفييتي جنوبًا في أماكن مثل تركيا وإيران لتفعيل ما يسمى بسياسة الاحتواء، وقد شكلت هذه البلدان طوقًا أطلق عليه اسم “الطوق الأخضر”، وأخبرني فولر، الذي يعيش الآن في كندا، أنه لم يلتق بغولن إلا بعد تقاعده من الوكالة عندما كان يبحث عن كتاب حول الإسلام السياسي، كما قال إنه لم يكن يعي بالتنظيم الذي وقع بينه وبين وكالة الاستخبارات الأمريكية، وأضاف أنه “كتب رسالة للمباحث الفدرالية تضمنت تعبيرًا عن إعجابه الشديد بتوجهه الفكري الإسلامي الحداثي وأنه أراد أن يمد يد العون لغولن والحيلولة دون ترحيله إلى تركيا مجددًا”.
وعلى ضوء ما ورد في تلك البرقية، كثر الحديث في تركيا حول نظرية المؤامرة التي تفضي إلى أن حركة غولن كانت منذ البداية مدعومة من قبل وكالة الاستخبارات الأمريكية، وقد تكهنت القيادات في تركيا إلى أن هذا الدعم يعود تاريخه إلى فترة التسعينات عندما أعلنت الدول الإسلامية استقلالها عن الاتحاد السوفييتي وعندما شرعت جماعة غولن في التأسيس للحركة.
كتب مسؤول في الاستخبارات التركية، سنة 2010، يدعى عثمان نوري غنداش، في مذكرته أن مدارس غولن الواقعة في أوزباكستان وقيرغيزستان قد آوت ما يقارب 130 عميلاً تابعًا لوكالة الاستخبارات الأمريكية متخفين بهويات معلمين للغة الإنجليزية، كما أخبرني قائد سابق في الاستخبارات العسكرية التركية، إسماعيل بيكين، أن الوكالة قد حافظت تقريبًا على نفس العدد من العملاء في مدارس بإفريقيا، كما أقر أنه “من الممكن أن يكون العاملون في تلك المدارس غير تابعين للوكالة لكنهم من المؤكد أنهم عملاء أمريكيون مرسلون لجمع المعلومات الاستخباراتية”، ووفقًا لهذه المعطيات، عبّر بيكين عن هذه المخاوف أمام المسؤولين في حلف شمال الأطلسي لكنهم رفضوا مناقشة هذا الموضوع بتعلة أن مسألة حركة غولن تعتبر شأنًا تركيًا داخليًا لا علاقة للحلف به.
وداخل البلاد، رأى الجيش أن حركة غولن تشكل تهديدًا خطيرًا، فقال الزميل في معهد آسيا الوسطى والقوقاز في إسطنبول، جاريث جنكينز، إنه خلال التسعينات طردت القوات المسلحة الآلاف من الضباط الذين اشتبه في وجود صلة لهم بحركة غولن، وفي برقية نشرها موقع ويكيليكس، كتب دبلوماسي أمريكي أن الضباط العلمانيين ابتكروا اختبارًا دعوا فيه زملاءهم الجنود وزوجاتهم إلى حضور حفلة أقيمت على المسبح، وذلك لأنهم ظنوا أن النساء سيرفضن ارتداء “البيكيني” وذلك لتقيدهن بتعاليم دينهن، ووفقا لأقوال الدبلوماسي، فإن زوجات التابعين لغولن أصبحن واعيات بالخطة التكتيكية المتبعة للتمويه وإبعاد الشبهات عنهن، وقد اتخذن التدابير اللازمة، فبدأن بلبس “البيكيني” كغيرهن من الضيوف، عندما شن المتفقدون العسكريون حملة تفتيش على منازل أنصار غولن، استخدموا التمويه عبر ملء ثلاجاتهم بزجاجات الخمر ووضع قوارير جعة فارغة في سلة المهملات.
اعترف أتباع غولن بحاجتهم إلى أعداد أكبر في الجيش، فقد أخبرني العضو السابق لحزب العدالة والتنمية، أمين شيرين، أنه في خريف سنة 1999 زار المركب المتواجد في زالتسبورغ، حيث أخبره غولن أن”الجيل الذهبي” من المساعدين يشقون طريقهم نحو المؤسسات التركية وأنه إذا ما تم تعيين جنرال أكثر لينًا وتسامحًا لقيادة الجيش فهذا يمكن أن “يحقق لي السلام”، كما أشار شيرين أن الجنرال حلمي أوزكوك هو المرشح المرغوب فيه حيث صرح قائلاً: “لقد ظننت أن ما سمعته كان ضربًا من الجنون”، إلا أنه وفي سنة 2002، تم تعيين أوزكوك قائدًا للجيش وهو ما أفضى إلى إلزامية أخذ الحيطة، حيث أفاد جنكينز أن أتباع غولن قاموا بالتغلغل في صفوف الجيش، كما صرّح أن “ذلك ساهم في بروز عدم الارتياح في صفوف سلك الضباط”.
بدأ أردوغان فترة حكمه الثانية سنة 2007، فالزخم المتنامي وصعود الإسلام السياسي في تركيا قرب مصالحه مع غولن، وقد قسم غولن البلاد إلى سبع مقاطعات وكل مقاطعة يرأسها مدير إقليمي، حيث يسافرون بانتظام إلى بنسلفانيا إما للتشاور أو للاستفسار حول مختلف المبادرات، كما أرسل أردوغان أيضًا ممثلين من مستوى عالٍ إلى مركب غولن وهو ما أكده جنكينز بقوله “نحن لا نقوم بالسفر كل شهر، ولكن نذهب متى يقتضي الأمر ذلك”، ولذلك كان غولن يعرف بثاني أقوى رجل في البلاد.
ساعد هذا التحالف في تعزيز مكانة أردوغان لمواجهة منافسيه من النخبة العلمانية والجيش، ففي سنة 2007، اعتقلت الشرطة أول 100 شخص اتهمتهم الحكومة بتشكيل منظمة سرية مكرسة لتتبع تطور هذه الحركة، ويطلق الأتراك على هذه الشبكة اسم “ديرين ديفلات” أو”الدولة العميقة”، وكما قيل إن لها علاقات في الجيش ووسائل الإعلام والأوساط الأكاديمية والسلط التشريعية.
وقد تنازع الأتراك حول مدى كبر حجم وطبيعة هذه “الدولة العميقة”، وشكك البعض منهم أن شيئًا من هذا القبيل قد وجد في فترة زمنية سابقة ووفقًا للعلماء والمسؤولين السابقين، فإن شبكة من الجنود والمخبرين بدأوا خلال الحرب الباردة في السيطرة على المعارضة الداخلية وذلك للإبقاء على الحكومات المنتخبة ديمقراطيًا تحت السيطرة، ومن المرجح أن يكون الجنود والمخبرون مسؤولين عن العديد من الاغتيالات التي طالت الإسلاميين واليساريين وخاصة الناشطين الأكراد.
عندما بدأت عملية الاعتقالات، أعلنت الشرطة أنها وأخيرًا استطاعت التوغل في الدولة العميقة، وتعرف هذه المنظمة السرية باسم أرجينيكون، والتي سميت تيمنًا باسم مكان أسطوري في آسيا الوسطى، والذي تم استدعاؤهم من قبل القوميين المتطرفين، وفي مدة قصيرة بدأت تحقيقات ثانية تهدف إلى البعث وراء معظم أكبر الجنرالات في الجيش التركي، الذين زعموا أنهم كان وراء حياكة المؤامرة، والذين عرفوا باسم “المطرقة”، كانوا يعملون على الإطاحة بحكومة أردوغان. وقد شملت القضايا ليس فقط ضباط ورجال شرطة سابقين بل طالت الأكاديميين والصحفيين والعاملين في مجال المساعدات الأساسية المعارضة للنظام الإسلامي الجديد.
ووفقًا للمسؤولين الأتـراك والغرب، ترأست جميع التحقيقات أطراف مناصرة لغولن سواء في الشرطة أو في القضاء، ومنذ سنوات، احتفت كل من صحيفة زمان، أكبر صحيفة في البلاد، وتلفزيون سامنيولو المواليان لغولن بالتحقيقات وشيطنة كل من يشكك في صحة الأدلة، وكما صرح السفير الأمريكي لدى تركيا، من سنة 2008 إلى سنة 2011، قائلاً “وفي بعض الحالات كانت تذم النقاد وفي حالات أخرى يتم القبض عليهم فورًا”، كما دعم أردوغان التحقيقات الجارية مفيدًا أنها كانت ضرورة لا بد منها لإزالة سطوة الجيش من الحياة العامة فقال في خطاب ألقاه لأعضاء حزبه سنة 2009″: كيف ولماذا سيحاول أي شخص وقف هذا؟ فهذه الجرائم تنتهك دستورنا وقوانيننا، لذلك علينا ترك نظام العدالة يقوم بعمله”.
حين بدأ الدبلوماسيون والصحفيون المستقلون بمراجعة المحاكمات تفطنوا إلى أن جميع الأدلة الواردة ملفقة، فبالنسبة للتحقيقات التي قمت بها في الحالتين تفطنت إلى حالات عديدة من التزوير واللبس، فالأدلة المتعلقة بمجموعة “المطرقة” بنيت بالرجوع إلى أقراص كمبيوتر والتي تضمنت لمخطط عسكري واسع النطاق، ولكن أعضاء النيابة العامة زعموا أن الخطة وضعت منذ سنة 2003 وكتبت باستخدام نسخة ميكروسوفت أوفيس والتي لم تصدر إلا سنة 2007، وبالمثل، فإن العديد من تفاصيل أرقام لوحات الترخيص السيارات المراد احتجازها والتي تتبع المستشفيات لم تكن موجودة سنة 2003.
أخبرني قائد الشرطة لمقاطعة أسكيشهير، حنفي أفجي أنه شاهد رجال شرطة والمدعوين العامين والقضاة يلفقون الأدلة المتعلقة بالتحقيقات الأساسية ولكن عندما نبهت رؤسائي بما اكتشفت تجاهلوني فقال “لقد تحدثت مع العديد من الوزراء وكتبت العديد من المذكرات ولكنني لم أحصل على أي رد”.
في سنة 2009، بدأ أفجي سرًا يؤلف كتابًا يفصل فيه أنشطة أتباع غولن التي قاموا بها في الشرطة والقضاء، ووصف قابلية الحركة على التكيف والتقلب والتي تشبه أساليبهم أساليب الجماعات الإرهابية والمنظمات الإجرامية، فقد أطروا معارضيهم إما عن طريق زرع أدلة أو ابتزازهم بالمعلومات التي جمعوها عن طريق التنصت على المكالمات الهاتفية، وذكر أفجي أن “ما جعل حركة غولن مختلفة هو أنها كانت داخل الدولة”، كما أشار أن المتسللين في وزاراته استطاعوا تخريب المسيرة المهنية لحوالي 10 من زملائه، وأصبح الكتاب الذي يحمل عنوان “سيمونز يعيش على القرن الذهبي” (والعنوان هو تعبير مجازي يفيد بصعوبة ملاحظة ما هو على مرأى من الجميع) من أكثر الكتب مبيعًا ويوعز ذلك إلى المصداقية التي يحظى به أفجي رجل الدين المحافظ الذي لديه طفلان يدرسان في مدرسة غولن.
بعد أسبوع من إصدار الكتاب، اعتقل أفجي ووجهت له تهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية شيوعية التي كانت آنذاك تسمى “بالمقر الثوري”، ولكن أفجي أصر على براءته وقال في التحقيقات: “أنا لست حتى بليبرالي” وعلى الرغم من ذلك، ادّعت النيابة العمومية عليه واعتبرت أنه كتب الكتاب بأوامر من أرغنكون وقد تم الحكم عليه بحوالي 15 سنة سجنًا
كما أدين نحو 600 شخص في محاكمة أرغنكون والمطرقة والتي ضمت العشرات من كبار الجنرالات في الجيش التركي وعددًا من الصحفيين البارزين، وقد حُكم على 200 منهم بالسجن لفترات طويلة، وقد ترأس العديد من الحالات قضاة يشك في ولائهم لغولن، بعد المحاكمة، تم إبطال النخبة العلمانية التركية.
وهو ما جعل كلا من أردوغان وغولن يسارعان في الإطاحة ببعضهما البعض، فالسلطة القضائية بتشجيع من “أرغنكون” و”المطرقة” كانتا أقرب من أي وقت مضى لأردوغان، وفي مطلع سنة 2012، أصدرت الشرطة مذكرة جلب في حق رئيس المخابرات الوطنية، هاكان فيدان، وأحد المقربين من رئيس الوزراء، كما تم القبض على أعلى ضابط عسكري في البلاد، إيلكر باشبوغ، وفي هذا السياق صرح جاريت جنكينز: “لقد ظنوا أن بإمكانهم اعتقال أي شخص”، لقد قام أردوغان بالتصرف على نحو يريد فيه تقييد مناصري غولن؛ لذلك أغلق العديد من المدارس والتي تعتبر مصدر دخل هام لهم والعمل على كبح جماح الشرطة، ثم أردف قائلاً: “بالنسبة لأردوغان كان ذلك بمثابة إعلان حرب”.
مساء يوم 1 يناير/ كانون الثاني سنة 2013 شحنت طائرة من آكرا، غانا، متجهة نحو مطار صبيحة كوكجن الدولي في إسطنبول إلا أنه وبسبب الضباب الكثيف حولت وجهتها نحو مطار أتاتورك الدولي وعندما هبطت الطائرة تفطن موظفو الجمارك إلى وجود شحنة مصنفة “عينات معدنية” والتي في الواقع تتضمن أكثر من 3000 جنيه من سبائك الذهب، وتعود هذه السبائك إلى رجل الأعمال التركي الإيراني رضا ضراب البالغ من العمر 29 سنة والذي يعد أصدقاؤه من بين أقوى السياسيين في تركيا، والتي كان من المرجح أن تتحول إلى طهران، فبالرجوع إلى مكالماته الهاتفية التي تم التنصت عليها، توصل مجموعة من الباحثين إلى أنه كان بصدد تحويل كميات ضخمة من الذهب إلى إيران وذلك يأتي تحت خطة بعيدة المدى لمساعدة النظام الإيراني للتهرب من العقوبات الاقتصادية كما صرح أنه في ذروة العملية، كان يحول 2000 رطل من الذهب يوميًا.
لقد بدت في البداية كما لو كانت قضية محدودة الإتجار بالتراث داخل تركيا، فلذلك قال رئيس دوائر الشرطة ووحدة الجريمة المنظمة بإسطنبول، نظمي أرديش: “لم نكن نتوقع أن هذا التحقيق البسيط سيفسح لنا المجال إلى تحقيق واسع النطاق”، كما قال المحققون إنهم سمعوا محادثة مسجلة تفيد بأنه قد رشى مسؤولين في حكومة أردوغان، ولذلك وفي غضون أيام، صرح أرديش أن الشرطة والنيابة العامة تثبتوا من دفع ضرّاب لملايين الدولارات لأربعة وزراء في الحكومة التركية على الأقل، ووفقا للوثائق التي قدمت للمحكمة الجنائية الأمريكية بمانهاتن، فإن وزير الاقتصاد، ظافر كجليان قد تلقى أكثر من 45 مليون دولار نقدًا، بالإضافة إلى الأحجار الكريمة والسلع الفاخرة، وعندما داهمت الشرطة منزل الرئيس التنفيذي لبنك هالك الذي تعوّد ضراب استخدامه لغسل الأموال، سليمان أصلان، وجدوا صناديق أحذية محشوة بمبلغ مالي يقدر بأربعة ملايين دولار ونصف نقدًا.
ولقد ساهمت مزاعم الرشوة في شحن الأوضاع في تركيا، ضراب كان مركز التحقيقات، كما أصبح الشغل الشاغل للصحف الصفراء ومحطات الأخبار المختصة بالنميمة، فهو رجل أعمال شاب متزوج من إحدى أكبر نجوم البوب في البلاد، إيبرو غونديش، كما كانت له علاقة طيبة مع أردوغان، فلقد سانده في العديد من الوظائف العامة وتبرع لصالح المؤسسة الخيرية التي تديرها زوجته أمينة بحوالي 4.6 مليون دولار
وأتت هذه المزاعم في الوقت الذي كان فيه أردوغان محاصرًا بشكل متزايد وهو ما جعله عدوانيًا، ففي ربيع سنة 2013، فككت الشرطة مظاهرة سلمية في حديقة غيزي بإسطنبول مما أثار احتجاجات في صفوف المشاركين في المظاهرة، حيث فقد أردوغان التحكم في الشرطة وهو ما أسفر عن مقتل 11 مدنيًا وإصابة أكثر من 8000 شخص، كما تم طرد أكثر من 100 صحفي بسبب انتقادهم لأردوغان.
في 17 من ديسمبر/ كانون الأول سنة 2013، ألقت الشرطة القبض على ضراب فضلاً عن 88 آخرين بما في ذلك 43 مسؤولاً حكوميًا، وعلى الرغم من عدم اعتقال أي من وزراء أردوغان فقد اعتقلوا أبناء ثلاثة منهم بدعوى أنهم كانوا يمثلون قنوات نقل للرشوة، كما بلغت وطأة الاتهامات بلال ابن أردوغان، خاصة إثر عملية التنصت على الاتصال الهاتفي الذي دار بين الابن ووالده، ولكن أردوغان أصر على أنه تم التلاعب بالشريط المسجل ولكن ادعاءه أتى متأخرًا، فالتسجيل عمم على وسائل الإعلام على نطاق واسع كما أدعى الأتراك التعرف على صوته.
رجب طيب أردوغان: في الوقت الراهن يتم تفتيش منازل 18 شخصًا بسبب عملية الفساد الكبرى التي جدت، لذلك أنا أحذّرك أنه يجب عليك إخراج كل ما لديك من المنزل، حسنا؟
بلال: يا أبي، ماذا يمكن أن يكون معي في المنزل؟ هنالك أموالك وهي في مأمن.
أردوغان: نعم، هذا ما أقوله.
وإثر فترة وجيزة عاود الاتصال مرة أخرى
أردوغان: هل نتخلص من كل ذلك أو…؟
بلال: لا يا أبي، لن نتخلص من كل شيء، فلقد بقي حوالي 30 مليون يورو التي لم نقم بتصفيتها.
وقد قال لي مسؤولون غربيون إنهم وبالرجوع إلى التحقيق الذي أجرى في محاولة أنصار غولن بالإطاحة بحكومة أردوغان وبدت لهم الأدلة ذات مصداقية خاصة وأنه عندما تقدمت الأبحاث استقال 4 وزراء من حكومة أردوغان ومن بينهم أردوغان البيرقدار، والذي دعا أردوغان إلى الاستقالة قائلاً: :على رئيس الوزراء أيضًا أن يستقيل”.
بدلاً من ذلك، طعنه أردوغان في الظهر، ووصف التحقيقات بأنها تمثل “انقلاب قضائي” وطالب بإعادة النظر في نظام العدالة الجنائية في البلاد؛ مما أجبر آلاف من رجال الشرطة والمدعين العامين والقضاة الذين ارتبطت أسماؤهم بقضية ضراب على الخروج بالقوة، كما تم التخلي عن قائد الشرطة الذي يترأس التحقيق، أرديش، ثم سجنه في وقت لاحق، في نهاية المطاف، تم إسقاط التهم المتعلقة بالرشوة.
شن أردوغان في خطاباته، هجومًا عنيفا ضد حليفه السابق، متحدثًا عن”الهيكل الموازي” الذي يسعى إلى حكم تركيا قائلاً “أيها القائد العظيم، إن لم تقم بأي شيء خاطئ، فلا تبق في بنسلفانيا”، كما أضاف في خطاب ألقاه أمام حشد سنة 2014: “إذا كانت تركيا بالنسبة لك وطنك الأم، فعد إليها، عد إلى وطنك الأم، وإذا كنت ترغب في خوض غمار المعترك السياسي والمضي قدمًا في الساحات العامة، فتفضل ولكن من دون أن تعيث فسادًا في هذا البلد، ولا تسلبه سلامه، فالهيكل الموازي متورط في الخيانة العظمى”.
بعد انهيار قضية الرشوة، واصل أردوغان ملاحقة أنصار غولنبلا هوادة وقد دفع الثمن الآلاف من موظفي القطاع العام الذين فصلوا من أعمالهم بسبب الاشتباه في وجود صلة لهم بحركة غولن، كما شن وكلاء في الحكومة حملة شرسة ضد رجال الأعمال المناصرين لغولن وهو ما دفع كبار قادة الحركة إلى الفرار من البلاد.
وفي يوم عيد الميلاد سنة 2015، خرقت المخابرات التركية تطبيقًا للرسائل المشفرة والذي يطلق عليه اسم “باي لوك” وهي شبكة محلية الصنع متكونة من 200 ألف مستخدم، ووفقًا لمسؤولين أتراك، فإنه لم يمض وقت طويل على إعداد التطبيق، حيث صمم إثر انطلاق حملة التطهير التي شنها أردوغان ضد أتباع غولن المشتبه بهم في الحكومة، عندما تم اكتشاف الشبكة قام الخادم في ليتوانيا بإغلاق التطبيق وبالاستغناء عنه وتعويضه بتطبيق آخر للرسائل المشفرة يدعى “إيغل” ولذلك أعلمني مساعد في الحكومة التركية “إنهم يعملون في كنف السرية”.
كما قال مسؤولون في المخابرات إنهم كانوا قادرين على فك تشفير التبادلات، فقد صرح لي أحدهم “كل نقاشاتهم كانت حول حركة غولن”، ومن خلال التحقق من أسماء مستخدمي “باي لوك” في سجلات الحكومة، وجدوا أن 40 ألف شخص على الأقل كانوا موظفين مدنيين ومعظمهم إما من سلك القضاء أو من قسم الشرطة، ففي مايو/ أيار وقبل شهرين من الانقلاب بدأت الحكومة بإيقافهم عن العمل.
في يوليو/ تموز، أَشعَرت المخابرات العسكرية أنها قد حددت 600 ضابط من الجيش التركي ذوو مراتب عالية تم رصد استخدامهم لتطبيق “باي لوك”، وكان من المزمع طرد المسؤولين العسكريين خلال اجتماع لكبار الجنرالات الذي كان من المقرر انعقاده في وقت مبكر من الشهر القادم، وكما صرح مساعد أردوغان، إبراهيم كولين “إننا نعتقد أن الانقلاب قد وقع في يوليو/ تموز وذلك لحاجتهم إلى التحرك قبل أن يتم طردهم”.
ولكن تبقى تفاصيل الانقلاب غامضة وفي كثير من الأحيان مليئة بالتناقضات، وما يبدو واضحًا هو أن المحاولة قد نظمت على عجل، فقد اعترف عدد من الضباط الذين اعتقلوا أن الانقلاب كان من المفترض أن يتم بعد 6 ساعات أي مع الساعة الثالثة فجرًا، ولكن تم تغيير موعده لأسباب غير واضحة، فبينما سارع الضباط إلى الأخذ بزمام الأمور، لم يقم أي قائد بتحمل مسؤولية القيادة، حيث إنه في بعض الحالات، لم تكن القوات التي تلقت أوامر من القادة المتمردين على علم بأنهم كانوا يشاركون في عملية انقلاب ضد نظام الحكم ولذلك رفضوا المواصلة بعد أن أدركوا ماهية الأمر.
في الواقع، يبدو أن المتآمرين راهنوا على أسر أو قتل أردوغان وإقناع الجنرال خلوصي آكار بالانضمام إليهم، ولذلك قال كالين “إن نجحوا في تحقيق هذه الأمور لكُلّل الانقلاب بالنجاح”، ولكن لم يتم إقناع أي أحد من كبار جنرالات القوات المسلحة التركية وهو ما ترك المتآمرين دون قائد عسكري، فبحلول الساعة الـ 4 فجرًا، كان مدبرو الانقلاب يحاولون الفرار وذلك للظفر بحياتهم.
ولقد سأل أحد الضباط في رسالة نصية “هل تم تأجيل العملية يا مراد؟”، فأجابه اللواء سلبي أوغلو “نعم يا قائد”، وعندما سأله ضابط آخر هل يجب التراجع والهروب أجابه اللواء “البقاء على قيد الحياة، يا قائد، الخيار لك الآن”.
عقب الانقلاب، تم تسريب عدة بيانات للصحافة يزعم أنها للمتآمرين، ولكن يصعب التثبت من صحتها لأن لا أحد من المعترفين وافقوا على التحدث علنًا ذلك لأن أغلب اعترافاتهم تم تنقيحها، خاصة وأن صور الضباط التي تم توزيعها بيّنت وجود جروح وكدمات على وجوههم وهو ما يوحي أنهم قد تعرضوا للضرب.
صرح لي دبلوماسيان غربيان، وهما اللذان قررا التحدث بشرط عدم الكشف عن هويتهما، أن اتهامات الحكومة لحركة غولن تبدو مقنعة بالنسبة لهما، فقال أحدهما “مما لا شك فيه أن حركة غولن لعبت دورًا مهمًا في الانقلاب، ولكن تجدر الإشارة إلى عناصر عسكرية انتهازية معادية لأردوغان شاركت هي الأخرى فيه”، حيث إنه هناك العديد من الناس في القوات المسلحة، والمجتمع المدني التركي الساخطين على حكم أردوغان الذين يعتبرونه استبداديًا، وفي هذا السياق، قال العميد جوغانسون ميزاتس، وهو أحد المتمردين الذين ذهبوا إلى مارماريس للقبض على أردوغان هذا حسب الاعتراف الذي أدلى به “أنا بكل تأكيد لست من مناصري حركة غولن” ولكن عندما دعا أحد المتمردين خط الأمن للتجنيد ظن أن الأوضاع في البلاد سيئة بما فيه الكفاية لذلك وافق دون تفكير على الانضمام إليهم”.
وقال بعض المسؤولين الأمريكيين السابقين أنه من المرجح أن حركة غولن قد لعبت دورًا قياديًا في الانقلاب خاصة إثر عمليات التطهير التي جدت في العقد السابق، فقد جادلوا أنه لا توجد أي مجموعة عسكرية كبيرة بما فيه الكفاية أو متماسكة بذلك القدر، وفي هذا السياق صرّح جيفري أن “مناصري حركة غولن هم الوحيدون الذين يستطيعون القيام بذلك” ،كما اعترف أحد الضباط الذي يعرف باسم “المقدم أ. ك.”، أنه كان على علم بمؤامرة الانقلاب قبل أسبوع كامل من قبل الرجل الذي كان يظن أنه أحد قادة غولن، وتحدث الرجل أيضًا عن المصاعب التي كانت تواجه الحركة وقال إن قرابة 3000 ضابط كان من المتوقع فصلهم من العمل أثناء اجتماع كبار الجنرالات في أغسطس/ آب، وأضاف الرجل أن “غولن لم يرغب في انعقاد هذا الاجتماع، فنحن لا نستطيع خسارة حصننا الأخير”.
قدمت حكومة أردوغان عشرات الآلاف من الوثائق إلى الولايات المتحدة التي تتّبع تاريخ حركة غولن في تركيا، ووفقًا لمسؤوليين أمريكيين، فالقليل من تلك الوثائق تدين حركة غولن لصلتها المباشرة بالانقلاب، وقال الجنرال آكار ورئيس هيئة الأركان العامة في بيان أصدره عندما كان قيد الاحتجاز إن أحد المتمردين أخبره “إذا كنت ترغب، يمكننا أن نصلك بأحد قادة الرأي لدينا، فتح الله غولن”، كما أخبرني أحد الدبلوماسيين الغربيين الذي اتبع آكار طوال مسيرته المهنية “لقد كان آكار، منذ توليه المنصب، رجل يعرف بنزاهته”.
وأتى الحساب الأكثر إلحاحًا من المقدم، لفنت تيركان، أحد ضباط الذين قاموا بأسر آكار وهو ابن مزارع فقير طالما حلم بالانضمام للجيش إلا أن أسرته لم تستطع التكفل بمصاريف إرساله للقيام باختبار القبول في المدرسة ولذلك بدأ دراسته في منزل أحد “إخوة غولن”، وعشية امتحان الوصول إلى مدرسة النخبة العسكرية قدم له الإخوة الإجابات مع حرصهم على إدراج بعض الإجابات الخاطئة لتجنب إثارة الشكوك ومنذ ذلك الوقت وهو أحد أتباعهم، وقد اعترف عندما كان يدلي بشهادته للمحققين”كنت أومن أن فتح الله غولن كان كيانًا إلاهيًا”، كما حدد 17 زميلاً له على أنهم أنصار غولن على غرار المساعد العسكري الشخصي لأردوغان، العقيد علي يازجي.
وفي سنة 2011، تمت ترقية تركان ليصبح مساعدًا لقائد الجيش التركي، الجنرال نجدت أوزيل كما قال “لقد بدأت في تنفيذ المهام المسندة إليّ من قبل الطائفة”، لمدة أربع سنوات، كنت أزرع “جهاز استماع” صغير في مكتب أوزيل في النهار وأزيله في الليل، ثم أردف قائلاً: “شحن البطارية لا يتجاوز يومًا واحدًا، كنت أحمل الجهاز إلى إخوتي في الطائفة، مرة في الأسبوع وأتسلم منهم آخر فارغًا”.
في الليلة التي سبقت الانقلاب، قال تيركان إن زميلاً له وهو أحد أتباع غولن أيضًا طلب منه أن يتمشيا خارجًا لتدخين سيجارة، وعندما أصبحوا وحدهم، وصف لي الخطة قائلاً: “إن كلاً من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء ورئيس هيئة الأركان العامة وقادة آخرين من الموظفين والجنرالات سيتم تصفيتهم واحدًا تلو الآخر، وكل شيء سيتم في هدوء”، وكانت مهمة تيركان تتمثل في أن يساعد في تحديد مكان آكار ومحاولة “تهدئته”، وكما ذهب تيركان وهو في حالة اضطراب تامة لمقابلة “أخوه” في حركة غولن والذي يقطن في منزل يقع خلف محطة وقود مجاورة ولكنه لم يجده بل وجد جماعة أخرى هنالك وهم من أكدوا له العملية.
لقد عانى تيركان منذ الانقلاب، ففي صورة نشرت له مع شهادته ظهر فيها وهو ملفوف في ثوب المستشفى مع الكدمات البارزة التي طغت على معالم وجهه وكما كان قفصه الصدري ويداه ملفوفتان في ضمادات، وفي تصريح له أعرب تيركان عن ندمه الشديد قائلاً: “عندما علمت من التليفزيون أن البرلمان تعرض للقصف وأن العديد من المدنيين قتلوا بدأ الندم يدب في صدري، فما كان يحدث كان شبيهًا بالمجزرة وكل هذا حصل من قبل الحركة التي اعتقدت أنها تعمل من أجل تحقيق الإرادة الإلهية”.
بعد ثلاثة أسابيع من الانقلاب، في كلمة وجهها رجب طيب أردوغان لمجموعة من المسؤولين المحليين في أنقرة والتي اعتذر فيها عن المرة الوحيدة التي ساند فيها غولن فقال: “لقد ساعدنا هذه المنظمة عن حسن نية”، كما أكد أنه منح ثقته لغولن بسبب تقديره الواضح للتعليم وأعمال الإغاثة التي تقوم بها منظمته، ولذلك قال “إنني أشعر بالأسف الشديد لأنني فشلت في الكشف عن الوجه الحقيقي لمنظمة الخونة هذه منذ وقت طويل”.
بالنسبة لأردوغان، على الرغم من أن القصاص دائمًا يأتي أسهل بكثير من الاعتذار، فحالة الطوارئ التي أعلنها إثر الانقلاب أعطته قوة دكتاتورية والتي استغلها لتنفيذ حملة واسعة النطاق والتي بدأت بأنصار غولن ولكنها توسعت لتشمل أي شخص يشكل خطرًا على سلطته الممتدة، لكن الإحصائيات التي نُشرت مؤخرًا مضللة جدًا؛ حيث إن حوالي 40 ألف شخص تم اعتقالهم وأعدادًا هامة من المتبقين تم فصلهم من أعمالهم بما في ذلك 21 ألف ضابط شرطة و3000 قاضٍ وأعضاء من النيابة العامة و21 ألف عامل في المدارس العامة و1500 موظف في وزارة المالية، إضافة إلى 6000 جندي، كما أغلقت الحكومة حوالي 1000 مدرسة تابعة لغولن وعلقت نشاط 21 ألف معلم.
إنه لمن الصعب معرفة ما إذا كان المستهدفون هم حقًا أتباع غولن أو فقط من المتعاطفين معه أم لا علاقة لهم البتة بالحركة، هذا هو ما ساهم في إحباط الانتقاد العلني الذي طال أردوغان والذي كان إما عن طريق تدفق الدعم الذي أعقب الانقلاب أو الخوف من التعرض للسَجن، فأردوغان قام بإغلاق ما يقارب 130 وسيلة إعلام واعتقل 43 صحفيًا على الأقل إلى حد الآن، وحملة التطهير ما زالت جارية، وكما صرح لي مساعد الرئيس، كالين أن “حركة غولن تعتبر منظمة إجرامية ومن الطراز الرفيع، وأنت تعرف أن قرابة 11 ألف شخص قد شاركوا في الانقلاب ووفقًا للتقديرات الحالية لدينا، فإننا نقوم بتتبع أي شخص له صلة بأنصار حركة غولن، هنا وهناك، في القضاء، في القطاع الخاص، في الصحف، وفي أي مكان آخر”.
والمفارقة المتأتية من محاولة الانقلاب هي أن أردوغان أصبح أقوى من أي وقت مضى، فالأشخاص الذين قادوا الانتفاضة الشعبية التي أحبطت المؤامرة كانوا في الأصل لا يساندون أردوغان ولكنهم أيضًا لا يضاهون عدد الأشخاص الذين لا يطيقون فكرة وجود النظام العسكري، ولكن النتيجة كانت استلام كل من أردوغان وحزبه لمقاليد الحكم ولكن مع سلطة مطلقة تقريبًا والتي لطالما طمح لها، وكما أضاف كالين “حتى قبل محاولة الانقلاب، كانت لدينا مخاوف من أن الحكومة ورئيس الجمهورية كانا يقتربان من سياسة وطريقة حكم، نوعًا ما، صممت من أجل تحقيق مزايا تنافسية”، أو كما قال دبلوماسي آخر “لضمان حكم الحزب الواحد”.
لم يقم أردوغان فقط بتعزيز سلطته بل وضع نفسه في موقف محرج من خلال التنديد بالرجل الذي ساهم في وصوله إلى الحكم، كما قال في خطاب ألقاه أمام حشد من الناس سنة 2014، وعلامات الحزن بدت ظاهرة على وجهه”: لقد جاؤوا يطلبون 17 جامعة وأنا وافقت على ذلك، ثم طلب أرضًا من أجل بناء مدارس فقدمناها له وبالتالي فإننا قدمنا لهم كل أنواع الدعم”. ولكن ما نلاحظه أنه من النادر جدا أن يذكر أردوغان اسم غولن في خطاباته ولكن في هذا الخطاب نلاحظ أن التصدي له ولأتباعه كان مباشرًا، فهل هذا يعد خيانة؟ ما الذي طالبتمونا به ولم تحصلوا عليه؟”.
عقب يوم من الانقلاب، ظهر غولن من منفاه ليستدعي مجموعة من الصحفيين لمقره لعقد مؤتمر صحفي، والذي نفى فيه أن تكون له أية صلة بما يحدث، وأتى ذلك إثر مشاهدته للاعتقالات التي طالت مناصريه وأتباعه، وقد قال بصوت متحرج “الآن أصبحت شخصية منبوذة وطنيًا”، كما أَعلمَ أتباعه أن أردوغان هو الذي قاد الانقلاب وأنه لا أحد خارج تركيا صدق بأن غولن هو المسؤول عنه، وفي خطاب سجله بعد عدة أيام صرح غولن قائلاً: “دعوا هذه المجموعة من الأغبياء يظنون أنهم نجحوا، ودعوهم يحتفلون بنصرهم، دعوهم يعلنون للعالم عن الحالة المثيرة للسخرية التي وصلوا إليها والتي يحتفلون بها، ولكن العالم في حقيقة الأمر يسخر من هذه الوضعية، للأسف كُتُبُ التاريخ ستَحفظ هذه الواقعة كما أرادوا هم”، ثم أردف قائلاً “كونوا صبورين، فالنصر قادم”.
قد بلغ غولن من العمر عتيّه ولذلك من غير المحتمل أن يستطيع مواصلة الكفاح لمدة أطول من ذلك، وإثر استماعي لخطابه، تذكرت لقائي معه السنة الماضية، فحتى ذلك الحين كان أتباعه في حالة فرار، فسألته كيف سيبقى خالدًا في ذاكرة الناس؟ فقدم لي إجابة لم أعهدها مسبقًا من أي قائد في السياسية أو في الدين، “قد يبدو لك غريبًا ما سأقوله، ولكنني أتمنى أن أُنسى بعد موتي، أتمنى ألا يُعرفَ قبري، وأود أن أموت في عزلة من دون أن يعلم أي أحد بموتي، وبالتالي لا أحد سيقوم بحضور مراسم دفني، فقط أتمنى ألا يقوم أحد بتذكري”.
المصدر: نيويوركر