عاشت حركة النهضة مسيرة مرهقة منذ تأسيسها إلى غاية سنة 2011، مسيرة عانت فيها ويلات السجون والمنافي فقدت خلالها الكثير وحرمت وطننا وشعبنا من مناضلين أحرار صادقين في بناء تونس وتحقيق نهضتها بأيادٍ نظيفة وعقول مستنيرة.
دون التطرق لأسباب ذلك فهي معلومة للبعيد قبل القريب، وضعت الثورة حركة النهضة أمام فرصة لتدارك ما فات والإسهام إلى جانب القوى الوطنية وبتوافق معهم في بناء تونس الجديدة تونس الحرية والعدالة الاجتماعية، وكذلك فعلت، حيث ومنذ الوهلة الأولى أدركت الحركة أن بناء تونس يستوجب توحيد جهود الجميع.
في مناخ سياسي واجتماعي رافض لعودة رموز النظام السابق بسبب ما ارتكبوه من أخطاء تجاه الوطن والشعب مدة 60 سنة، توجهت الحركة إثر فوزها في انتخابات أكتوبر 2011 إلى باقي العائلات السياسية عارضة عليهم الحكم معها، فمنهم من رفض ومنهم من قبل، وشكلت الترويكا جامعة بين العلمانيين والإسلاميين كتجربة فريدة في الحكم.
تجربة الترويكا في بداياتها كانت فكرة متميزة أخرجت البلاد من فكرة حكم الحزب الواحد والزعيم الأوحد إلى الحكم التشاركي والإدارة التوافقية للبلاد بين أكثر من طرف، تجربة انتهت بالفشل ودليل الفشل مآلاتها والقطيعة الحالية بين الأطراف الثلاثة التي كونت تلك التجربة، والتقييم هنا للتجربة السياسية لا لمنجزات حكومتيها.
انتخابات أكتوبر 2014 سبقها استقطاب حاد بين النهضة وخصومها، وتشكلت إثرها خارطة سياسية جديدة احتل فيها حزب نداء تونس المرتبة الأولى وحلت حركة النهضة في المرتبة الثانية.
كان رئيس الجمهورية الحالي ومؤسس نداء تونس بين خيارين: إما الحكم مع حركة النهضة وضمان حزام برلماني قوي يدعم الحكومة ويمرر القوانين والإصلاحات المطلوبة من الجهات المانحة والدائنة خاصة وبالتالي تشكيل حكومة مطمئنة لجميع القوى الداعمة لمسار الانتقال الديمقراطي، أو الحكم بأطراف تختلف جذريًا مع منهج نداء تونس اقتصاديًا وحاضنتها الشعبية ضعيفة، وبالتالي تشكيل حكومة لا تطمئن أطرافًا فاعلة في دعم تجربة تونس.
حركة النهضة أيضًا كانت مخيرة بين أمرين: إما الوفاء للشعار الذي رفعته منذ 2011 والمساهمة في الحكم مع بقية الأطراف في استكمال بناء المسار الديمقراطي باعتماد منهج توافقي، أو القيام بلعب دور المعارضة والاكتفاء بالدور البرلماني.
للأسباب المذكورة وأسباب أخرى منها المعلن ومنها الخفي قبل الطرفين منطق التوافق.
ما المقصود بالتوافق؟
التوافق السياسي هو مصطلح في العلوم السياسية يقصد منه تعاقد طرفين مختلفين أو أكثر على تسوية قضية سياسية أو إدارة الحكم بأسلوب تشاركي على أساس التعاون والاحترام ودون نفي خصوصياتهم، انطلاقًا من الاتفاق على السياسات العامة للحكومة بعد نقاشها، وصولاً إلى تنفيذها، مرورًا بالمصادقة عليها عبر البرلمان وقد عرفت عدة دول خاصة أثر الحروب أو في فترات عدم الاستقرار الحكم بهذه الشاكلة.
ومبطلات هذا التوافق أو عناصر تشويهه عديدة وأساسها تغول طرف على حساب طرف أو أطراف آخرون أو أن يتحول هذا التوافق من توافق لمصلحة الشعب والدولة إلى توافق على حسابهما كما حصل بين العمال والمحافظين في بريطانيا في 1979.
واقع التوافق في تونس
مسيرة التوافق بين النهضة والنداء انطلقت منذ 15 أوت 2013، إثر لقاء باريس بين زعيميهما، لقاء ساهم في نجاح الحوار الوطني وإنجاز دستور 2014 وإخراج البلاد من أزمة خانقة كانت تمر بها حينها.
بالعودة للتاريخ نجد أن التوافق جمع طرفين الأصل أنهما متناقضان سياسيًا، حيث يمثل أحدهما النظام القديم، ويمثل الآخر النظام الجديد، والأول متهم بالتنكيل بالثاني فترة الاستبداد، والثاني متهم بالثورة على الأول وتهديد مصالحه، كما أن الطرفين يمثلان مشروعين اجتماعين مختلفين.
وهو ما تسبب بأن يكون التوافق في الحكم ومنذ البداية “شر لا بد منه ” بالنسبة للطرفين.
ظهر هذا خاصة عند نداء تونس بالتهرب من مفرد التوافق والتحالف والحرص على إبراز معنى التعايش وفق تصريحات السبسي نفسه، هذا الحرص لم يكن من خلال المصطلح فقط بل من خلال الممارسة وانطلقت متاعب حركة النهضة مع “شريكها” منذ الوهلة الأولى من تشكيل الحكومة في البداية من خلال تشكيل حكومة بدون النهضة ثم التعديل بإضافة وزير واحد في وزارة التشغيل في حكومة السيد الحبيب الصيد ثم 3 وزراء في وزارات التشغيل والتجارة والصناعة وتكنولوجيا الاتصال في حكومة السيد يوسف الشاهد.
بالرغم من أن الوزارات الممنوحة لا تتماشى مع وزنها الانتخابي كما أنه لم يترك لها اختيار وزاراتها ومنحت لها وزارات متعبة متعلقة بها أزمات عويصة الحل خلال هذه الفترة فإن النهضة تفهمت “شريكها” المتخوف من غضب قواعده من هذا التقارب خاصة بأنه جاء بعد حملة انتخابية شحن فيها أنصاره سلبًا ضد النهضة وقبلت حكمه غير العادل تجاهها متعسفة على قواعدها وانحيازًا للمصلحة الوطنية.
لم يتوقف تعسف النداء تجاه النهضة عند الحكومة، بل تعداها لحظة التغيير الأول والثاني في سلك الولاة ثم في المعتمدين، أيضًا في قرار تغيير رئيس الحكومة دون سابق إنذار أو مشورة والاستحواذ على رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان.
مجموعة من السلوكيات الأخرى تسببت في الحكم على هذا التوافق بأنه توافق مختل.
نتائج التوافق المختل
قد يكون التقارب مع حركة النهضة جزءًا من أسباب الأزمة التي مر بها نداء تونس وإن كان السبب الرئيسي كما صرحت قيادات ندائية منهم من انتسب لاحقًا لحركة مشروع نداء تونس لا علاقة لها بالنهضة بل إشكالات داخلية تتعلق بأسلوب إدارة الحزب
والأكيد بأن حركة النهضة قد استفادت من خلال هذا التوافق، حيث ساهم في مواصلة تطبيعها مع مؤسسات الدولة، إضافة إلى الخروج النسبي من دائرة العزلة والاستهداف السياسي والإعلامي الذي كانت عرضة له فترة الترويكا.
لكن الواضح والثابت أيضًا أنه أدى إلى تغول نداء تونس على الحكم والاستحواذ على أغلب التعيينات في مختلف مفاصل الدولة، تعيينات قد تقبل إن كانت على أساس الكفاءة والنزاهة لكن خطرها يكمن في أنها على أساس ترضيات لحل أزمة الحزب بما يعنيه من إضرار بمصلحة الوطن والعودة لمربع ما قبل الثورة الذي عربد فيه حزب تحول شيئًا فشيء إلى لوبي فساد بمصالح الوطن.
نتيجة أخرى لهذا التوافق المختل هو المس من قاعدة النهضة الانتخابية والتسبب في مشاكل داخلية لها بما قد يؤدي إلى تقليص دورها الوطني في المرحلة القادمة، النتيجة الأخطر لهذا التوافق المختل هو ضعف الحاضنة الشعبية الداعمة للحكومة والدولة
هل الحل في نقض التوافق؟
حتمًا إن التوافق في هذه المرحلة التاريخية الصعبة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وفي ظل التحديات الإقليمية هو الحل الأمثل لتونس إلى حين تحقيق الاستقرار ليصبح التنافس الديمقراطي ضمانًا لتقدمها والتحاقها بركب الدول الديمقراطية، ولكن حتى يكون التوافق فعالاً ورافعة حقيقية للتنمية والديمقراطية دون أن يكون لحساب طرف على آخر وجب أن يكون قناعة مشتركة بين الجميع وأن يكون متوازنًا.
أي أن يستوعب كل الأطراف السياسية من نداء تونس والنهضة وحتى الجبهة الشعبية والحراك بأن ما يجمع التونسيين شعبًا وسياسيين أكثر مما يفرقهم، وبأن تونس لا تزال في مرحلة عدم استقرار، وأن مسيرة الإصلاح لا تزال طويلة ولا بديل لتونس غير النجاح في هذه المسيرة، ولا آلية لنجاح هذه المسيرة غير التوافق أو ما أسماه محمد عابد الجابري ومن قبله غرامشي بالكتلة التاريحية أي التوافق الموسع على أرضية المصلحة الوطنية.
وأن يستوعب نداء تونس بأن وزنه الانتخابي قد يجلب له مصالح حزبية ضيقة في المرحلة الحالية، ولكنه سيتسبب في اختلال المشهد السياسي بما يستدعي تشكيل جبهة سياسية على أساس الضدية له في المرحلة القادمة، بما يضيع على شعبنا ودولتنا وقتًا وجهدًا وفرصًا للبناء ويفسح المجال أمام الفوضى.
وأن تستوعب حركة النهضة بأن المواصلة بالقبول بمسار التوافق المختل سيكون على حساب دورها في المرحلة القادمة خاصة وأن رئيس الجمهورية رأس التوافق في نداء تونس المتقدم حاليًا في عمليات سبر الآراء والمتعافي تدريجًيا من أزمته الداخلية، صرح بأن التوافق مع حركة النهضة مرده وزنها الانتخابي لا غير.
ما البديل عن التوافق المختل؟
جواب عن سؤال ما الحل في حال واصل نداء تونس مسيرة ضرب مبادئ التوافق وتهميش دور حركة النهضة؟
أتساءل ما الحل في حال تواصل هذا الاختلال في منظومة التوافق وأدى إلى تقليص الوزن الانتخابي لحركة النهضة في المرحلة القادمة وتشكل مشهد سياسي جديد على حسابها أي بين الجبهة الشعبية وحلفائها والنداء؟
والجواب على السؤالين بين أيادي النهضة وقيادتها، فهي المطالبة انطلاقًا من وزنها البرلماني المهم وما تبقى لها من حاضنة شعبية محترمة، بإعادة التوازن للتوافق في هذه المرحلة من خلال الدفاع بصوت عالٍ عن قاعدتها الانتخابية، المتنافس على القضم منها حزبي الحراك والجبهة الشعبية، وما حصل في جمنة من ولاية قبلي الجنوبية والمعلوم عنها ارتباطها انتخابيًا بالنهضة خير دليل,
وهذا الدفاع له ضوابط؛ الأول أن يكون من داخل الحكومة لا من خارجها، أي التعبير عن مواقفها السياسية وخياراتها الاقتصادية والمجتمعية من خلال وزرائها لا من خلال التصريحات الإعلامية، وأن تحسن التفاوض على مصالحهم تحت سقف المصلحة الوطنية لا على حسابها، أيضًا من خلال الوقوف الواضح لكل مس لخصوصياتها أو النيل من قياداتها من قبل النداء أو غيره من الشركاء.
بهذه الخطى فقط نضمن الاستقرار والتوازن في الحياة السياسية، وبالتالي نجاح التجربة ودونها سقوط جديد في الاستقطاب الحاد المهدد للمصلحة الوطنية.