للمرة الأولى تقريبًا في تاريخ الانتخابات الأمريكية يشغل موضوع متعلق بالسياسة الخارجية اهتمامًا لدى الناخبين الأمريكيين أهمية توازي أو ربما تفوق كل ما عداها من قضايا داخلية، كذلك يبدو أن الإعلام الأمريكي منذ عامين ما زال يتغذى بشراهة ليس على كل ما يتصل بداعش وحسب، بل كذلك على ما قد يمت بصلة إلى داعش، أو ما يجب نفي صلته بداعش أيضًا.
طيلة عامين مضيا، لم يتوقف لحظة واحدة تناول داعش المفرط والمكرر في جميع قنوات ووسائل الإعلام الأمريكي، من الكوميديا إلى الدراما إلى برامج التوك شو إلى المقالات والدراسات النظرية والبحثية، لكن من الناحية الإيديولوجية لم يقترن ذلك بأي بحث تفكيكي لجذور الإرهاب الحالية وتحليل سياسات التعاطي المتراكمة تجاهها منذ العام 2001 تحديدًا، كل هذا التضخيم والتهويل لمسائل الإرهاب وإرهاصاتها لم يساهم إلا في جعل داعش مجرد “فيل آخر في الغرفة”.
الإعلام الأمريكي وداعش
خصوصًا مع وصول الخطاب السياسي الأمريكي إلى غايته الأخيرة حاليًا، عرض عضلات المرشحين الرئاسيين، يتحول العقدان الأخيران من التاريخ الأمريكي القريب ضربًا من “التفاصيل” بالنسبة للإعلام الأمريكي، إعلام اللحظة والأخبار الساخنة والشريط المتحرك في أسفل الشاشة.
اقتصر الإعلام الأمريكي طيلة العامين الأخيرين على وجه الخصوص في الدوران حول اتجاهين ساذجين في تأطير دور الولايات المتحدة في ظهور ورسوخ داعش، كلاهما يضع الولايات المتحدة في موضع “المسؤولية التقصيرية” لينتهي الأمر بمزيد من “الحث” و”المطالبة” بتحوير سياسة التعاطي مع الشرق الأوسط، أي النفي الضمني لأي علاقة مباشرة للولايات المتحدة وسياساتها بصعود داعش.
أول هذين الاتجاهين هو الاتجاه الناطق بلسان الحزب الأمريكي الجمهوري، وخصوصًا التصريحات المستمرة والباكرة للسيناتور الأمريكي والمرشح الرئاسي السابق جون ماكين الذي واظب على جلد إدارة أوباما بسبب عدم تدخلها العسكري في سوريا، ومطالبته بإجراءات فورية تبدأ بالحظر الجوي وإقامة مناطق آمنة وقد تنتهي بالمشاركة الفعالة في الحرب.
ذلك الاتجاه بالطبع اكتسب شهرة أوسع في الداخل والجوار السوريين، بعد أن سارعت المعارضة السورية في الائتلاف الوطني والمجلس الوطني إلى تبنيه أسطوانة مشروخة رسمية تتحدث باسم المعارضة السورية ككل، ويتجاهل هذا الاتجاه كليًا التجربة الفاشلة لإدارة الحزب الجمهوري – الذي يمثله ماكين – في حرب العراق، ونتائجها الفادحة التي ما تزال ماثلة.
لقد أثار الاحتلال الأمريكي للعراق انتشارًا واسعًا للدعوة إلى “مقارعة المحتل” و”الجهاد في وجه المعتدين” في عموم الدول العربية والإسلامية
أما الاتجاه الثاني الذي بزغ في الآونة الأخيرة، فهو يتناول بشجب وامتعاض مسألة تسليح الإدارة الأمريكية لفئات محدودة من المعارضة السورية، مدعيًا أن هذه الأسلحة سرعان ما تنتهي مباشرة في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية بشكل أو آخر، بهذا فهو يستنبط أن اللائمة تقع فقط على عاتق الإدارة التي كان عليها عدم تسليح فصائل “الجيش السوري الحر” في ظل وجود تنظيم مهول قادر على الاستيلاء على مقدرات جميع الفصائل الأخرى.
مع أن هذا الدفع المنطقي والواقعي قد يكون مبررًا ومعتبرًا، إلا أنه يتجاهل تمامًا أسباب صعود التنظيم إلى هذه الدرجة من القوة بهذه الوتيرة، كما أنه لا يمتلك – ولن يمتلك – أي معلومات حقيقية عن حجم المساعدات التي قامت الولايات المتحدة بتقديمها، أو التي وقعت في أيدي داعش فعليًا.
إذًا فإن داعش بالنسبة للإعلام الأمريكي هي وحش ضخم ظهر فجأة دون سابق إنذار، وتضخم حتى بات يأكل كل ما حوله جغرافيًا وبشريًا ولوجستيًا، ما من عرض محترم يتحدث عن آليات وجودها وظهورها وجذور تشكلها، إلا حين يتم الإغراق بتفاصيل تافهة عن أسماء وجنسيات قادتها منذ أبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر وصولًا إلى أبي بكر البغدادي، مع محاولة إبعاد أي حقائق أو تفاصيل تؤكد المشاركة الأمريكية المباشرة في صناعة داعش عمليًا.
إدارة جورج بوش الابن
بعد إقرار مشروع قانون الحرب على الإرهاب (WOT) في العام 2001 إثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، لم يمض عامان على هذه الحادثة إلا وكانت الولايات المتحدة قد احتلت بلدين معًا: أفغانستان في 2001 والعراق في 2003، تلك الأخيرة كلفت ما يزيد عن حياة 5000 جندي أمريكي، مليون عراقي وأكثر من 3 تريليون دولار أمريكي.
في العام 2004، أكد تقرير اللجنة الخاصة بتحقيقات الحادي عشر من سبتمبر أن ما ادعته الإدارة الأمريكية من دعم عراقي لتنظيم القاعدة في تخطيط الهجمات غير موجود، إضافة إلى ما سبق ذلك من تأكيدات عن عدم وجود أي أسلحة دمار شامل في العراق، إذن لم تكن تلك الحرب زائفة وحسب، بل كذلك خلقت الأعداء أنفسهم الذين ادعت الولايات المتحدة دخول الحرب لمواجهتهم.
لقد أثار الاحتلال الأمريكي للعراق انتشارًا واسعًا للدعوة إلى “مقارعة المحتل” و”الجهاد في وجه المعتدين” في عموم الدول العربية والإسلامية من شمال إفريقيا إلى إندونيسيا مرورًا بالعراق وسوريا أيضًا، في العام 2001 كان تعداد تنظيم القاعدة لا يتجاوز 1000 شخص في أغلب التحليلات، لكنه بعد احتلال العراق تصاعد بشكل مطرد إلى ما يقارب 18000 عضو في نهاية العام 2004، يمكن القول بأن هذه الحرب أعطت الدافع لكثيرين للانضمام إلى المقاومة، والتي حملت لواءها القاعدة آنذاك.
وبينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربها النفطية في الأراضي العراقية، ظهرت حالة من الفراغ الصادم والمفاجئ أعادت الأغلبية الساحقة من العراقيين إلى انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وأطلقت العنان للتناحر السني الشيعي في ظل نظام وليد مشوه متهالك، لم يكن الأمريكيون يمتلكون أي خطة تجاه ذلك، لذلك أدى الارتجال إلى ما هو أسوأ بكثير.
مع تعيين بول بريمر مسؤولًا عامًا عن الإدارة المدنية لإعادة الإعمار في العراق عام 2003 بدأت سياسة “اجتثاث البعث” في تجريد الدولة الوليدة من أي مصادر ذات خبرة، في الثالث والعشرين من أيار 2003 قام بول بريمر بإصدار قرار يعفي أفراد قوات الأمن العراقي وخدمات الدولة المدنية والجيش العراقي دفعة واحدة، مسرحًا حوالي 350 ألف شخص بين ليلة وضحاها، مستبدلًا إياهم بنظام متهالك طائفي النزعة استمر في الصمود بصعوبة بمعونة الوجود الأمريكي المفروض لكنه سرعان ما تهالك فور الخروج الأمريكي من العراق في 2011، لم يسهم هذا فقط في إضعاف نموذج الدولة وإدخالها في فوضى عارمة، بل إن عملية “اجتثاث البعث” بهذه الطريقة أدت إلى تحويل هؤلاء جميعهم إلى أعداء للولايات المتحدة وللنظام الجديد الذي يمثل “سلطة انتدابها”.
طيلة عامين مضيا، لم يتوقف لحظة واحدة تناول داعش المفرط والمكرر في جميع قنوات ووسائل الإعلام الأمريكي، من الكوميديا إلى الدراما إلى برامج التوك شو إلى المقالات والدراسات النظرية والبحثية
تم تسويق هذه السياسة على أنها محاولة “لاجتثاث السنة” وتسليم مقاليد الحكم للأقليات “المدعومة من إيران”، ولذا كان من الطبيعي كما اتضح لاحقًا أن يشغل كثير من هؤلاء البعثيين – من عناصر وقادة عسكريين ومسؤولين أمنيين – مناصب معتبرة في كلا تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، أما القوى الأمنية الجديدة التي حاولت الولايات المتحدة إحلالها، فقد أثبتت عجزًا وفشلًا كبيرين رغم التمويل الضخم (حوالي 41 مليار دولار في الفترة 2011 – 2014 وحدها)، يدل على ذلك اقتحام داعش شمال العراق في عام 2014، حيث سقطت مباشرة خمس مراكز للشرطة والأمن (الثلث تقريبًا) بدون جهد يذكر.
إدارة باراك أوباما
في سياق الحملة الانتخابية الديمقراطية التي قادها باراك أوباما، كان قرار سحب الجنود الأمريكيين من العراق وأفغانستان وإعادتهم إلى أوطانهم جزءًا أساسيًا ومفصليًا، قدمت إدارة أوباما نفسها كإدارة إنقاذ من الأزمات المتلاحقة الأخيرة التي تسبب بها الديمقراطيون، أزمة العقارات من جهة، وأزمة حرب العراق من جهة أخرى، اتخذ أوباما موقفًا يعتمد على إثارة عاطفة الناخب الأمريكي، وتعهد أن يبدأ ولايته بسحب الجنود الأمريكيين من العراق، وأن ينهيها بسحب الجنود الأمريكيين من أفغانستان.
والحق أنه عمل جاهدًا خلال العامين الأولين من ولايته على تحقيق تعهده الأول، رغم التناقض الضخم بين تبريرات سياسة الدخول إلى العراق وسياسة الخروج منه، لم يكن هناك أي مؤشرات تدل على الاستقرار في العراق آنذاك، بل إن الوجود الأمريكي في العراق كان قد خلق كمية من الفوضى والتشدد السلفي الجهادي أكبر بكثير مما خلقته هجمات الحادي عشر من سبتمبر نفسها.
اعتقد باراك أوبامًا آنذاك أن الكارثة الاقتصادية الأمريكية يمكن أن تحل بشخطتي قلم فقط، قرار بسحب الجنود الأمريكيين من العراق دون استراتيجية خروج فعالة، وقرار آخر برفع سقف الدين العام الأمريكي، بعد ذلك بعدة سنوات كانت قد بدأت فداحة درس العراق تظهر، ودفعت أوباما إلى التريث قبل ارتكاب الخطيئة نفسها في أفغانستان، بغض النظر عن مدى لا شرعية الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، فإن ذلك لا يعني أبدًا أن السياسة الأمريكية في إدارة شؤون العراق أو أن سياسة الانسحاب المفاجئ منه كانت قرارًا صائبًا.
في خطابه الذي ألقاه في آذار/ مارس 2008 في أثناء حملته الانتخابية، صرح أوباما: “إن خطتي لإنهاء الحرب في العراق ستضع المسؤولية على قادة العراق الجدد في تحديد مستقبلهم”، لكن في العام 2009 (أي العام ذاته الذي تولى فيه أوباما سدة الرئاسة) أكد التقرير الصادر عن مكتب شؤون الشرق الأدنى أن “حوادث الخطف والنزاعات الطائفية في العراق سائدة بشكل غير مسبوق”.
بينما كانت الولايات المتحدة تخوض حربها النفطية في الأراضي العراقية، ظهرت حالة من الفراغ الصادم والمفاجئ أعادت الأغلبية الساحقة من العراقيين إلى انتماءاتهم الطائفية والمذهبية
لماذا إذن انسحاب الولايات المتحدة من العراق في هذا التوقيت لتتركه ليس كما كان، بل أسوأ بمراحل؟ إن السياسة الداخلية الأنانية التي اتبعتها إدارة أوباما وجدت في إعادة تأهيل أو إعمار العراق عملية طويلة وصعبة للغاية، لذلك قررت الولايات المتحدة وبريطانيا تنفيذ انسحاب تكتيكي لتفادي المزيد من الخسائر، وهكذا بين ليلة وضحاها أصبح العراق بالنسبة للإدارة الأمريكية شيئًا من الماضي، فيما بعد يصرح أوباما في خطاب له عام 2012 أنه “يريد التركيز على بناء الوطن في الداخل”، ورغم أن أوباما ليس الوحيد الملوم على تردي الوضع الحالي للعراق والآثار المدمرة للسياسة الأمريكية تجاهه، لكن الانسحاب الذي تعهد به في حملته الانتخابية الأولى كان له الأثر الأضخم في هذا التردي فيما بعد 2011.
سياسة أوباما تجاه الربيع العربي
يعلق بعض المحللين السياسيين على السياسة الأمريكية الخارجية أنها تتأرجح كبندول الساعة بين كل إدارة والإدارة التالية، إدارة تبالغ في “الفعل” كما كان حال إدارة بوش الابن، وأخرى تبالغ في “انعدام الفعل” كما هو حال إدارة أوباما.
لقد حاول أوباما التعلم من درس الإدارة الجمهورية، لكنه في نفس الوقت كان بالغ البطء في التفاعل مع ما يجري في الشرق الأوسط، وبينما كانت البلاد العربية تشتعل بلدًا تلو الآخر، كانت الإدارة الأمريكية تراقب بصمت متمنية أن تحافظ على ستاتيكو علاقاتها في الشرق الأوسط دون أن يتغير شيء، صحيح أن الولايات المتحدة تحاول التحرك في الشرق الأوسط الآن، لكن يمكننا القول بثقة أنها كانت آخر الواصلين.
هذه السياسة في تجاهل وتسويف قضايا الشرق الأوسط جنبًا إلى جنب مع الانسحاب الفادح من العراق في 2011، قادا معًا إلى خلق بؤرة ضخمة من الميليشات والكتائب والتنظيمات السلفية الجهادية التي يقودها لاعبون مختلفون ومتباينون، استفادت جميعها من الوضع الأمني والسياسي المتردي في العراق الذي صنعت منه الولايات المتحدة لقمة سائغة للتطرف والحروب المذهبية.
ليس أدل على سياسة التجاهل الأمريكي والتغاضي عن الشرق الأوسط من تصريح أوباما الخاص بكون استخدام الأسلحة الكيماوية “خطًا أحمر” في سوريا، حينئذ توقع الكثير من المحللين أن الولايات المتحدة ستفرض ثقلًا أكبر بعد الهجوم الكيماوي على الغوطة في 2013، أو ربما تتدخل بشكل مباشر، لكن بعد استيعاب صدمة من هذا الحجم على هذه الدرجة من اللامبالاة، كان من المتوقع والمفهوم أن يتصاعد إيمان الكثيرين بصدقية الحركات السلفية والجهادية مقارنة بمصداقية الولايات المتحدة.
وحينما تقدم أوباما إلى الكونغرس الأمركي بطلب نصف تريليون دولار لتمويل “تدريب معارضة معتدلة في سوريا” عام 2014، كان الوقت قد تأخر للغاية على التدخل، بينما كانت أغلب التنظيمات الجهادية المتشددة كالقاعدة وداعش قد أسست أرضيتها الصلبة على الأرض، لذلك ليس من المستغرب أن أغلب هذه القوات والهيئات التي حاولت الولايات المتحدة دعمها بالأموال والأسلحة قد انهارت أو تراجعت لضعف خبرتها وتنظيمها مقارنة بنظيرتها الجهادية، وخسارتها معاركها الأولى مع الخصوم العتيدين، وتكبد خسائر سهلة في بعض الأحيان، مما أدى – بالفعل – إلى تحويل هذه الجهود إلى طريقها المعاكس: تمويل القاعدة وداعش.
مع تعيين بول بريمر مسؤولًا عامًا عن الإدارة المدنية لإعادة الإعمار في العراق عام 2003 بدأت سياسة “اجتثاث البعث” في تجريد الدولة الوليدة من أي مصادر ذات خبرة
خاتمة
كما كان حال السياسات الغربية في القرن العشرين، التي ساهمت بشكل مباشر في تثبيت التوازن القلق في الشرق الأوسط وبسط سلطة الديكتاتوريات العسكرية في المنطقة، كذلك كان دور الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين جليًا في خلق جذور وأصول داعش وأخواتها من التنظيمات السلفية الجهادية.
لقد كان مشروع الحرب على الإرهاب واحتلال العراق في 2003 الكارثة الأكبر والأعمق في تاريخ المنطقة، لكن السياسات التي كللت بها هذه الحرب جعلت من المنطقة جحيمًا مشتعلًا، بدءًا باحتلال العراق، فالسياسة العشوائية لـ “اجتثاث البعث” مرورًا بالانسحاب التكتيكي الاعتباطي في عام 2011، لا شك أن احتلال العراق غير شرعي بالمطلق ولا يمكن لأحد تبريره حتى صانعيه، إلا أن الولايات المتحدة تخلت عن مسؤولية تنظيم الفوضى التي خلفتها وراءها، ثم استقالت من المنطقة بأسرها وتراجعت عن تحمل أي ثقل تجاه نتائج سياساتها، لا بد من الاعتراف بأخطاء الماضي على الأقل، قبل المضي في تخيل سيناريوهات حلول لا علاقة لها بالسياق الذي خلق داعش في المقام الأول.