ترجمة وتحرير نون بوست
مثلت الخيانة نقطة تحول بالنسبة “لنصر الدين”، الجهادي الأمريكي الذي اتبع طريق التصوف، لقد انتقل أهله من أفغانستان إلى أمريكا ولكنهم عاشوا حياة علمانية، كما لم تخطر ببال نصر الدين أسئلة حول الإيمان حتى مقتل عائلته في حادث سير عندما كان عمره 14 سنة، وقد أعلن حينها أنه ملحد ثم عاش حياته في السنوات اللاحقة على النمط الأمريكي – يشرب الخمر، ويحضر الحفلات ويواعد الفتيات -.
ولكن خلال التسعينات، وبالتحديد في هيوستن بولاية تكساس كان المجتمع المسلم الذي ينتمي إليه نصر الدين ينمو بسرعة، في ذلك الوقت كانت السلفية، الفكر المحافظ النابع من الإسلام التي تدافع عن عدم الاختلاط بين الرجال والنساء، وتدين التعايش مع بقية المعتقدات، هي الفكر الإسلامي المسيطر والمتبع في المساجد الأمريكية بفضل الدعم المالي الكبير الذي تقدمه المملكة العربية السعودية، وكان هذا الدعم كبيرًا جدًا في هيوستن.
تعرف نصر الدين على السلفية من خلال مهندس سعودي كان قد اشتغل مع أخيه، فأصبح ورعًا في فترة وجيزة ونمت لحيته، وتوقف عن حضور الحفلات الماجنة، وبدأ يواظب على الصلاة في المسجد، أخيرًا تعرف على إيراني أمريكي متعلم ويتحدث عديد من اللغات، يفقه علم الأحياء، ومتمسك بالفكر السلفي، أقنعه بأن يمارس الجهاد، الذي يمثّل بالنسبة له الحرب المقدسة.
وقد قال نصر الدين “أحب الجهاد فهو عنوان الشجاعة، والشرف، والكرامة، والتضحية بالنفس، شيء أكبر من نفسك التي بين جنبيك”، وبعد أن أصبح مهندسًا في منتصف العمر ويعيش الآن في هيوستن، قُدم نصر الدين للتجنيد في “لشكر طيبة”، وهي منظمة جهادية تتخذ من باكستان مقرًا لها وتقاتل الهند في إقليم كشمير، قدم له المجند شرائط بها محاضرات لفقهاء سلفيين، ثم عمل فيما بعد على تلقينه الفهم المتشدد للإسلام، بعد أشهر قليلة، كان عمره حينها 18 سنة، سافر عبر الطائرة إلى باكستان لمواصلة الإعداد البدني والتدرب على استخدام السلاح قبل أن يتجاوز الحدود نحو إقليم كشمير وهو على أهبة الاستعداد لأن يكون مشروع شهيد.
بعد مرور أربعة أشهر تحت درجات الحرارة المنخفضة في جبال الهملايا، قابل نصر الدين شيخًا متصوفًا من الولايات المتحدة، وأخبر الشاب المتحمس أن القتال في كشمير ليس جهادًا وإنما هو ببساطة نتيجة لعبة دولية بين الهند وباكستان، كما أخبره الشيخ الصوفي بأن يعود إلى أمريكا وأن يصبح مسلمًا طيبَا من خلال مساعدة المتشردين هناك، صدم نصر الدين بما سمعه، خاصة وأنه توجه إلى أفغانستان من أجل الالتحاق بحركة طالبان، ولكنه لم يقاتل معهم بل عاد إلى موطنه سنة 1997 بعد مرور ستة أشهر من الغربة.
عند عودته أجرى معه مكتب التحقيقات الفيدرالي تحقيقًا موجزًا للتأكد من عدم عودته بأي “شعور معادٍ لأمريكا”، ولكن بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، عادت السلطات للتحقيق معه وهددت باعتقاله لمشاركته القتال مع ميليشيات أجنبية، وهو ما دفع هرب نصر الدين إلى الهروب رفقة عائلته إلى إفريقيا، ولكن مكتب الاستخبارات السنغالي تعرف عليه وأمر بعودته إلى الولايات المتحدة.
ومع هبوط الطائرة التي كانت تقله طلب منه مكتب التحقيقات الفيدرالي أن يصبح مخبرًا عن زملائه من السلفيين في هيوستن ولكنه رفض ذلك، في المقابل، عامله السلفيون آنذاك على أنه مخبرًا لدى المكتب – حتى إن أصدقاءه ومعارفه من الأئمة أصبحوا يتجاهلون مكالماته ويرفضون دعوته لجلساتهم، وقد انفرط عقد الأخوة، حتى قال نصر الدين: “شعرت أنهم جبناء”.
بعد استبعاده من مجتمع السلفيين، شعر نصر الدين بأنه حر وبدأ يستكشف مجال الفكر والروح، قرأ الإنجيل وكتب الحديث والتوراة، ودرس البوذية والهندوسية – ليس لأنه أراد الارتداد عن الإسلام ولكن لأنه أراد أن يدرك عمق علاقة الإنسان بربه – وتغير أيضًا أسلوب حياته، بدأ يجلس مجالس مختلطة وشجع زوجته على نزع غطاء الوجه الذي تضعه عند الخروج من المنزل، وأصبح يرتاد مقاهي “النارجيلة” بهدف التعرف على مجتمعه، وتوقف عن قص الوجوه عن صور علب المنتجات – تعد الصور في المنازل من بين المحرمات لدى السلفيين – وبدأ يتأمل الحياة.
بدأ نصر الدين أيضًا في التعرف على سلفيين مثله وحتى على جهاديين سابقين يحاولون الابتعاد عن هؤلاء المشايخ المتشددين، وأصبحوا يتحدثون عن الصوفية ويصلون في مساجد تنتهج شكلاً آخر من الإسلام وهو الصوفية، لم يكن وحيدا – وكانت تلك خطوة رائعة بالنسبة له.
تغذية الجانب الروحي
ليست الصوفية فرقة أو فرعًا من الإسلام، ولكنها على العكس تقليد صوفي يدعو إلى الزهد، موجود بشكل واسع لدى السنة والشيعة على السواء، وهو ما يؤكد الجانب الروحي للفرد المؤمن ويعزز علاقته الداخلية بربه، كما يطلق على الصوفية مصطلح “التصوف” في العالم الإسلامي، حيث كان أول ظهورها في القرن التاسع وازدهرت بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، عندما انتشرت الطرق الصوفية في العالم الإسلامي وبلغ منتسبوها حالة التوحد مع الله من خلال الموسيقى، والشعر، والدعاء، لم تكن كل طرق الصوفية مسالمة، فالصوفية هم من يسيّرون الحياة في أفغانستان اليوم والهند وباكستان، ولكن في العالم المعاصر، تدعو الصوفية إلى ضرورة إرساء مبدأ التسامح والتحلي بالعقلانية مع باقي المعتقدات.
على الرغم من أن العديد من مساجد الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت تنتهج منهج الإسلام المحافظ، إلا أن أجيالاً من المسلمين والمتحولين للإسلام اتجهوا نحو الصوفية. فالتصوف في نمو تدريجي وصامت، بسبب تعاليم الصوفية التي تدعو إلى الكتمان.
يفضل المتصوفة في الولايات المتحدة أن يشار إليهم بمصطلح “المسلمين الروحانيين” نظرًا لتآلفهم، بعضهم تنازل عن اللحية وغطاء الرأس بينما ما زال بعضهم متمسك باللباس الإسلامي التقليدي، ولكن الصوفيين الذين تحدثت معهم في الولايات المتحدة كانوا كلهم غير مهتمين بفكرة الجهاد بصفته قيمة مرادفة للحرب، بل يرونه صراعًا داخليًا شخصيًا.
وقد قال نصر الدين، وهو يقلب ناظريه في الساعة ليتثبت من وقت صلاة الظهر: إن “الشيء الأكثر أهمية في الصوفية هي علاقتك بربك، وأي شيء غير هذا فهو وهم، فالسلفية تتمحور حول الكتب ومعرفة المصطلحات الشرعية، فهي رائعة من ناحية المستوى الأكاديمي وليس من الناحية الدينية، في السلفية لا وجود لعلاقة الإنسان بربه، فقط، إن كنت طيبًا كفاية يمكن الاقتراب منه، فقط إن كنت رحيمًا وشاكرًا كفاية يمكنك رؤيته في الآخرة”.
يقول العلماء ليس كل صوفي متسامح وليس كل سلفي عنيف، فالصوفية يقدمون التنازلات لإيمانهم بقيمة التنوع ويتجنبون قدر الإمكان الفهم الحرفي للدين، كما قال لي مارسيا هرمانسون، بروفسور في الدراسات الإسلامية بجامعة لويولا بشيكاغو إن “كل شخص لديه رغبة روحية ولا يمكنك إجبار النفس على القيام بشيء ما لا يناسبها، فحكمة الصوفية تتمثل في فهم التنوع”.
يصعب تقييم نسبة ازدهار الصوفية، لسبب بسيط وهو أن عدد المسلمين في الولايات المتحدة ما زال غير محدد، ومحل اختلاف، فحسب الدراسات يوجد في أمريكا بين 2.5 و7 مليون مسلم، وفق زين العابدين من معهد الدراسات الصوفية الإسلامية وجمعية البحوث، فإن النمو ظاهر في عدد خلوات ومناسبات الصوفية، التي انتقلت من حفنة قليلة في السنوات ما قبل 11 أيلول/ سبتمبر إلى 300 مناسبة في السنة الماضية، ولأن عدد المجتمعين في خلواتهم للاستماع لخطابهم وأداء الموسيقى مرتفع بعض الشيء، تمت ترجمة الكثير من أدبيات الصوفية إلى اللغة الإنجليزية وأصبحت مدارس التصوف ومواقع الواب التابعة لهم ظاهرة للعيان، على سبيل المثال في سنة 2010، أصبحت كلية زيتونة بركيلي ذات الميول الصوفية أول كلية إسلامية معتمدة في الولايات المتحدة الأمريكية، وأبرز مؤسسيها حمزة يوسف، وهو أحد الوجوه البارزة في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى إن معهد المغرب الموجود بهيوستن، وهو مركز سلفي سابقًا يديره ياسر قاضي، أصبح أكثر تقبلاً لتعاليم الصوفية.
حرب العصابات
بالطبع ليس الجميع هنا يرحب بصعود الصوفية، فالمتشددون من السلفيين يرون في الصوفية هرطقة ويرفضون الموسيقى وترتيل واحتفالات المولد النبوي، الذي يحتفل به العديد من الصوفيين وغيرهم من المسلمين، قال الشيخ نعيم عبد الوالي، شيخ صوفي ومتبع للمنهج السلفي سابقًا إنه منع من التحدث في مساجد هيوستن، التي تجمع قرابة 100 ألف مسلم، فالبعض يتهم الصوفية بالاعتقاد وبممارسة السحر وأنهم يعبدون مشايخهم ويؤلهونهم.
يعود سبب جزء من ذلك إلى أن الصوفية “أكلوا من وليمة السلفية”، ووفقًا لما قالته نعيمة مجددي، التي تبلغ من العمر 43 سنة، والتي اتبعت المنهج السلفي في كاليفورنيا خلال الفترة الممتدة بين 1980 و1990، فإن السعودية دعمت جمعيات الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تعليم السلفية بصفتها الشكل الوحيد للإسلام، كما قالت إن “المنظمين كانوا يوزعون أدبيات السلفية ويستدعون شيوخهم للتحدث في الجامعات”.
وأضافت مُجددي قائلة: “كان هذا مدرجًا في نظام الجامعة في ذلك الوقت، ذلك ما اعتقدته عن الإسلام لأني تعلمت من جانب واحد، أومن بصدق أني كنت سأدخل النار إن لم أتبع القواعد، تُصبح متعصبًا مع مرور الوقت، كما وضعني هذا الفكر في حالة من الذعر”.
كما صرح نصر الدين أيضًا أنه من بين مسلمي هيوستن الذين يعرفهم، كانت ردود فعلهم حول أحداث 11 أيلول/ سبتمبر متفاوتة، فقد “كانت هناك جماعات صغيرة تدعم بن لادن، وكانت الأموال السعودية تدعم هذه النقطة، كما قالوا إن أمريكا جنت هذا على نفسها وأن هذه هي بداية النهاية”.
ولكن من بين السلفيين سابقا الذين تحدثت معهم، صرح أغلبهم أنهم تحولوا بعيدًا عن السلفية بسبب التشدد المفرط والتشبث الحرفي بفهم النص، ولا يعترفون بالعواطف والروحانيات، وقالوا إن الدين يجب أن يداعب مشاعرهم وأرواحهم وأن الصوفية تشمل الاثنين.
يقول علماء المسلمين إن هذا التحول سببه التغير الميداني بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فالدعاية السعودية للجهاد العنيف نضبت في الولايات المتحدة بعد هذه العملية الإرهابية وأصبحت السلفية والحركات الأكثر التزامًا بفهم الإسلام مرادفة للعنف المتطرف بين الشباب المسلم الذي أراد تجنب هذه الروابط.
والجدير بالذكر أن الصوفية لاءمت مسلمي أمريكا الذين لم يعانقوا من جديد هويتهم الإسلامية ولكن أيضًا تفاعلوا مع العقائد الأخرى، والاختلاط بين الجنسين وأصبحوا أكثر تقبلاً للمثلية والإلحاد، فالمسلمون المتحولون للإسلام، في الأثناء، يفضلون الصوفية بسبب تسامحها مع محيطها الخارجي ورغبتها في جعل الناس يتمسكون بهويتهم القديمة.
منشوريا الصوفيين؟
لم يكن نمو الصوفية، وفق عدد من المحللين السياسيين، طبيعيا، كما دعمت الحكومة الأمريكية الفهم المتشدد للإسلام خلال الحرب الباردة بهدف محاربة الشيوعية/ لذالك، فإنه وفقا لحاتم بازيان، من جامعة كاليفورنيا، فإن هذه الحكومة لازالت تدعم الصوفية إلى اليوم، في سنة 2007، دعمت حكومة الولايات المتحدة دراسة قامت بها “راند كوربورايشن” تتلخص نتائجها في تقرير (الرابط موجود في التقرير الأصلي) “بناء شبكة من المسلمين المعتدلين”، قدم فيه الكاتب نصائح لصانعي السياسة بوضع الصوفية في خانة الإسلام المعتدل ودعا إلى دعم أتباعها من خلال الإعلام والمعاهد الدينية، الآن تتلقى الجماعات الدينية، من بينها العديد من الجماعات الصوفية، أموالاً من الحكومة وتغطية إعلامية كبيرة.
كما انتقد بازيان دعم الصوفية من أجل مصالح سياسية، مما يعزز مفهوم “المسلم الجيد والمسلم السيء” وهذا ما يزيد من فرقة المسلمين بين “معتدلين” محسنين و”سيئين” متطرفين، وقد أشار أوميد صافي، أستاذ العلوم الإسلام في جامعة ديوك إلى أن الصوفية لا تُفهم على أنها قوة سياسية منذ أن كانت تاريخيًا “ضالعة في كل من تحدي القوى السياسية والبحث عن شرعية داخل استخدام القوة السياسية”.
كما أن رد الفعل السلبي نتيجة الدعم الذي تقدمه الحكومة الأمريكية للمجاهدين خلال الحرب السوفيتية في أفغانستان، يجب أن يكون أكثر من مُذكر لخطر النتائج غير المتوقعة لمثل هذه الممارسات، وقد كان ألان غودلاس، أستاذ العلوم الإسلامية وملتزم بالفكر الصوفي من جامعة جورجيا، أكثر حذرًا، وقال إن “وزارة الخارجية اتصلت به بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر ولكن ليس من أجل أغراض دنيئة”، وأضاف؛ “على الولايات المتحدة أن تدعم القيم التي من شأنها أن تساهم في تحقيق التعايش السلمي في عالم متعدد، ليس فقط من أجل مصالحها الاقتصادية والسياسية”، وواصل حديثه قائلاً “فقط صادف أن كانت الصوفية مركز الثقافة الأولى لثقافة التعدد ونمو البشرية”.
على الرغم من هذا، فإن ازدهار الصوفية لم يقم أساسًا على الدعم الحكومي، وقد رأى الشيخ محمد اليعقوبي، الصوفي السوري صاحب عديد الخطابات في الولايات المتحدة، أتباعه يزدادون بشكل سريع منذ صعود تنظيم الدولة، وخلال الخريف الماضي في سان خوزي، اجتمع أكثر من 300 رجل من أجل الاستماع إلى محاضرة في فضاء نزل “دابل تري” لهذا الشيخ حول أهمية التصوف، كما استمع على الأقل 800 شخص لخطابه في شيكاغو في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2014.
الشيخ محمد اليعقوبي يخطب في ولاية إنديانا بعد مقتل عامل إغاثة أمريكي على يد داعش، في نوفمبر 2014
وقد قال اليعقوبي، الشيخ المنحدر من الصوفية السنية ويعيش في المنفى بالمغرب: “لقد انتشر التطرف، في حين أن الناس يحاولون العثور على بديل، والصوفية هي العمود الفقري التقليدي للإسلام”.
بعد خطاب اليعقوبي في سان خوزي، تحدث إليّ عدد من المسلمين قدموا لي أنفسهم على أنهم سلفيون سابقون اختاروا اعتناق الصوفية، وقد أفادوا أنه اختيار شخصي وله علاقة طفيفة بتدخل الحكومة، حتى بالنسبة لنصر الدين، فإن دراسته للكتب السماوية ورغبته في اعتناق نوع مختلف من الدين، قاده إلى الصوفية فقال: “هناك ضعف كبير بين المسلمين عمومًا من الذين يتساءلون ويبحثون عن إجابات، والذين يفضلون الحب والرحمة في الإسلام عوض أي شيء آخر، فالحب والرحمة من التصوف”.
المصدر: فورين أفيرز