سن الإقالة من العمل أم سن الاستقالة عن كل أشكال الإنتاجية والفاعلية؟
كثيرًا ما تعتمل هذه الأسئلة في ذهني وتؤرقني وأنا أحاول أن أجد لها روابطًا منطقية، فالمعنى الاصطلاحي لمفهوم سن التقاعد أو الإحالة إلى التقاعد هو الانتقال الفجائي من حالة الإنتاج إلى حالة البطالة، بحيث يفقد الإنسان بطريقة غير محسوبة لكن بديهية، نشاطًا يملأ فراغه وعادة أدمن القيام بها لسنوات وبنفس الوتيرة، وهو ما سيفضي إلى حدوث فراغ وخمول قد يؤدي إلى حالة صدمة نفسية تتباين نتائجها من شخص لآخر، ويبقى الإشكال الذي يُطرح في هذا السياق هو لماذا لا يتم التمهيد النفسي والاجتماعي وبطريقة علمية لمثل هذا الطور من حياة الفرد في العالم العربي.
كثيرًا ما نسمع الجدل القائم حول سن المراهقة باعتباره الانتقال الطبيعي والنفسي والذهني للإنسان من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الشباب، وما تحوم حوله من صدامات مع القيم المتعارف عليها، وما إلى ذلك من الرغبة الجامحة لدى الفرد في رفض المسلمات باعتبار تطور بنيته النفسية التي لم تعد تتأقلم مع القوالب الجاهزة.
كذلك كثيرًا ما يتداول الناس الحديث عن سن اليأس لدى المرأة وما ينجر عن ذلك من اضطرابات هرمونية تلقي بظلالها على نفسية وجسد المرأة، يترتب عليها شعور مستمر بالأرق والإرهاق، وفي خضم كل هذه النقاشات والموائد المستديرة والبرامج التي تعنى بالمرأة والأسرة في العالم العربي، يتم التغافل عن واحدة من أبرز المراحل التي يمر بها الإنسان بالضرورة، إذ إنَ عدم إثارة هكذا موضوع إلى جانب غياب برامج حكومية لإدماج فئة المتقاعدين عن العمل في الدورة الاقتصادية والإنتاجية بطرق غير مباشرة، ذو أثر وخيم على توازن المجتمع وحتى العلاقات داخل أفراد الأسرة الواحدة.
فرب البيت على وجه الخصوص عندما تلفظه وظيفته يشعر وكأنه على الهامش، فيحاول تلافي ذلك الإحساس من خلال إما إسناد أدوار إضافية لنفسه داخل الأسرة، فمثلا هناك من يتدخل في الأعمال المنزلية إما بالتعليق أو عبر إضافة بعض التوابل للطبخة في أثناء انشغال الزوجة بأعمال أخرى، محاولاً بذلك سد فراغ لم يحسب له حساب وكان خارج حسابات كل الأطراف، وإما بمحاولة قتل الوقت عبر ارتياد المقاهي أو الانشغال بأخبار الكرة أو السياسة.
في الحقيقة لا شيء يدعو للاعتقاد بأن هذه المرحلة وما بعدها هي مرحلة الترهل الفكري والفتور الإبداعي والانكماش الريادي، حتى نرى عزوف شبه كلي عن الإنتاج والتعلم للمحالين إلى التقاعد، وبما أن تعلم مهارات متنوعة ومعارف جديدة لم يكن يومًا حكرًا على فئة دون الأخرى بناءً على مبدأ تعلموا من المهد إلى اللحد الذي يتعارض مع المخيلة الشعبية والرؤية الاجتماعية المحدودة، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد من الأمثلة الشعبية المثبطة لكل العزائم والمتهكمة صراحة على التعلم في سن متقدمة ذلك المثل التونسي الذي كثيرًا ما يثير حفيظتي ”بعد ما شاب هزوه للكتاب”، والذي مفاده السخرية ممن يلتحق بالمدرسة في سن متأخرة وممن يزاول التعلم بعد أن اشتعل الرأس شيبًا وهو ما يتخالف قولاً ومضمونًا مع المنهج الرباني الذي يحض على السعي والعمل دون قيد.
السن لا يرفع التكليف إلا لمن فقدوا مداركهم العقلية، وعليه فإن عملية إشراك فئة العاطلين الجدد عن العمل لهو أمر جد ضروري من خلال مساعدتهم في الانخراط في المجتمع المدني والنشاط الجمعياتي لما له من نتائج سليمة تعود بالنفع على جميع الأطراف، فالشعور بالتقدير والأهمية يعزز الثقة بالنفس ويجدد الطاقة الإنتاجية كما له أثر على التوازن النفسي والذهني للأفراد.
معلوم أن العلم في الصغر كالنقش على الحجر، بيد أن العلم في الكبر ليس هباءً منثورًا، فالعطاء ليس له حدود ووجود ثقافة العمل التطوعي ونقل المهارات والخبرات المكتسبة إلى الأجيال الجديدة المتقلدة لمناصب المتقاعدين لهو أمر بالغ الأهمية لضمان سيرورة الأعمال التي كانت منوطة بعهدة من تركوها بدافع التقدم في السن، لذا أصبح من الضروري التركيز على إشراك ذوي المهرات والخبرات في دورات ريادة الأعمال ودفعهم لأخذ زمام المبادرة نحو تجارب مختلفة مثل التعرف على أماكن ومعالم لم يتسن لهم ولوجها من قبل أو من خلال ممارسة هوايات لم يسنح الوقت للتفرغ لها.