لماذا هذا الإصرار العجيب على قرض صندوق النقد، لماذا تتمسك به مصر وكأنه هو النجاة ولا سبيل للنجاح بدونه، لماذا هم مستعدون للتضحية بالغالي والنفيس حتى يحصلوا على هذا القرض أيا كان الثمن، هل هو بهذا القدر من الأهمية؟ هل حقا لن يصل الاقتصاد المصري إلى بر الأمان بدون هذا القرض؟ وهل فعلا سيحقق الفارق؟!
ربما سألت نفسك كل هذه الأسئلة أو بعضها، في ظل الأخبار اليومية التي تقرأها عن لهث الحكومة بكل ما تملك لإرضاء النقد الدولي للحصول على القرض، هذا اللهث وتنفيذ الشروط القاسية التي يعاني منها المصريين الآن وسيعانون منها في المستقبل، كون لدى البعض فكرة أن هذا القرض هو طوق النجاة، هكذا صورت لنا الحكومة هذه الخطوة التي يعتبرونها فارقة، ولكن هل هي حقا فارقة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال وما قبله من أسأله، لعلنا نتذكر جميعا الفترة ما قبل مشروع قناة السويس والمؤتمر الاقتصادي، فقبل تدشين مشروع قناة السويس كنا نعيش نفس هذه الحاله وكذلك قبل انطلاق المؤتمر الاقتصادي، لقد كان يسيطر على البعض فكرة أن تفريعة القناة هي السبيل الوحيد للنهضة وأن المؤتمر هو فقط الطريق للازدهار والتقدم، نعم، كانت هذه الأحلام تمثل واقعا حينها، كانت هذه الأماني تمثل ثمرة واضحة قريبة النضج.
بالطبع عندما ننظر إلى قناة السويس والمؤتمر الاقتصادي الآن، وبعد مرور أكثر من عام لا نتخيل أن هناك احد توقع للحظه أن هذه الفقاعات كانت أمل الاقتصاد المصري، ولكنها فعلا كانت الحقيقة، وفي الحقيقة لدى البعض منهم عذرا قد يكون مقبولا، فقد بث الإعلام هذه الأفكار حتى ظن البعض أنها واقع، ولكنها في الواقع كانت مجرد أوهما لا أكثر.
الوضع فيما يخص قرض صندوق النقد قد يكون متطابق للمثالين السابقين، فكما وجدنا وقتها خبراء كبار رفضوا هذه المشاريع وتحققت بالفعل توقعاتهم، نجد الآن نفس هؤلاء الخبراء يرفضون قرض النقد، في المقابل نفس المهللين للتفريعة والمؤتمر هم من يؤيدون القرض، ولكن لماذا لم يتعلموا الدرس ويستمعوا للخبراء هذه المرة؟.. الإجابة ببساطة هي أن تفريعة قناة السويس قد تحقق هدفها بنظرهم وكذلك المؤتمر الاقتصادي، وقرض النقد يشترك معهما في نفس هذا الهدف، لكن ما هو؟.. هذا ما سنعرفه في نهاية هذا المقال.
وافق صندوق النقد من حيث المبدأ في أغسطس على منح مصر قرضا قيمته 12 مليار دولار مدته 3 سنوات لدعم برنامج الإصلاح الحكومي –تحت رعاية الصندوق- الهادف إلى سد عجز الميزانية وإعادة التوازن إلى أسواق الصرف، الصندوق كان له عدة شروط حتى يوافق على إقراض مصر، وكل الشروط بمثابة جلد للمصريين بداية من قانون الخدمة المدنية، ومرورا برفع الدعم، بالإضافة إلى قانون القيمة المضافة، وانتهاءً بتدبير 6 مليارات دولار دعما ثنائيا قبل إحالة الاتفاق إلى مجلس الصندوق لإقراره.
لكن لماذا هذه الشروط القاسية هل هي حقا لمصلحة الاقتصاد، أم أنها مجرد ضمانات سداد. عندما نتكلم عن الاقتصاد فبلا شك هذه الشروط لن تحقق مصلحة الاقتصاد لأنها تؤدي لإفقار أغلب المصريين فأي مصلحة ستتحقق!، بالطبع من المستحيل أن تتحقق المصلحة من هذا الطريق، قد يكون لهذه الشروط أسبابا أخرى لكن المؤكد أنها ليست اقتصادية.
وبعيدا عن الاقتصاد، لم أجد أمريكا تؤيد شيء وفيه الخير، فقد قال مسؤول كبير بالخزانة الأمريكية، أمس، إن الولايات المتحدة ترى برنامج صندوق النقد الدولي لإقراض مصر 12 مليار دولار “ضروريا” وتعمل مع دول مجموعة السبع للتحقق من تمويله بالكامل، وتعتقد أن الإصلاحات التي يشترطها الصندوق ستكون صعبة لكن ضرورية لزيادة القدرة التنافسية لاقتصاد مصر وإطلاق طاقات سكانها الذين ترتفع فيهم نسبة الشبان.
هذا هو الموقف الأمريكي وبعد هذا الموقف قد لا نكون في حاجة لتوضيح أضرار أكثر لقرض الصندوق، لا نحتاج أيضا أن نتحدث عن تجارب النقد الدولي في تخريب اقتصادات الدول ويكفي ما قاله عالم الاقتصاد الشهير، ميشيل تشوسودوفيسكي إن “النقد الدولي” يمكن أن يترك الدولة أفقر مما كانت عليه من قبل، ولكن مع ديون أكبر ومجموعة حاكمة أكثر ثراءً.
عموما لكي نعرف لماذا الإصرار يجب أن نعرف الهدف، والهدف ليس له علاقة بالاقتصاد، فكما كانت قناة السويس لتثبيت أركان النظام داخليا بمشروع عملاق بعيدا عن الجدوى الاقتصادية، كان المؤتمر الاقتصادي لتثبيت أركان النظام إعلاميا والحصول على الاعتراف الدولي الواسع بغض النظر عن الفائدة الاقتصادية، كذلك قرض النقد الدولي هدفه الحصول على ثقة المؤسسات المالية وهي الأهم، حيث أنها من تحرك العالم، والحصول على ثقتهم ليس سهلا.
على أي حال لا تهتم الحكومة بمعاناتك الاقتصادية، لا تهتم بارتفاع الأسعار، لا تهتم باختفاء السلع الأساسية إنها تهتم فقط بالحصول على شرعية الاستمرار، تحتاج فقط للأمان للحصول على الشرعية من المؤسسات المالية التي تتحكم في هذا العالم، فلا تكن واهما وتظن أن ما يحدث هدفه تحقيق مصلحتك الاقتصادية، أتوقع إلا تصدر الموافقة من صندوق النقد قبل ما تسمى بثورة الغلابة 11\11، حتي تقرر المؤسسات هل تعطي الضوء الأخضر للدعم أم أن لديها بديلا أخر؟ هذا ما سنعرفه قريبا.