“نحن لسنا عنصريين أو معادين للآخر ولا نضطهد المرأة أو الرجل”٬ هكذا بدأت ندوة “إسطنبول تتحدث” أو “Spoken word Istanbul”٬ وهى إحدى الفعاليات التي تسمح لكل من يريد أن يحتل خشبة المسرح ويتحدث كيفما أراد وعن أي موضوع يختاره لمدة 6 دقائق يؤدي فيها كيفما شاء.
يميل الحدث إلى كونه ملتقى ثقافي حر٬ يعرض مختلف الأفكار من مختلف الجنسيات حول العالم٬ يميل البعض فيه على عرض تجاربهم الشخصية سواء المضحك منها٬ أو الجاد٬ أما البعض الآخر فيميل إلى قراءة بعض من الأشعار المختارة٬ أو القصص القصيرة٬ أو بعض من كتاباتهم الشخصية٬ في حين يستغل الفريق الآخر ساحة المسرح لعرض أفكاره السياسية الخاصة٬ وإما لعرض مواهبه الفنية سواء بالرقص أو الغناء أو التمثيل.
بدأت العروض تتوالى٬ يظل عنصر المفاجأة سيد العرض٬ أنت لا تعرف من سيقدم العرض التالي وعن ماذا سيتحدث٬ لذا تبقى الآذان صاغية في أغلب الوقت٬ بدأ العرض الأول تعريفيًا بغرض تنظيم لقاء كلقاء “إسطنبول تتحدث” حيث تم وصفه من قِبل إحدى المتحدثات بأنه المكان الوحيد الذي يكفل حرية الخطاب والتعبير في تركيا الآن كما وصفته إحدى المؤسسات بأنه “يوتوبيا” أو المدينة الفاضلة التي يحاولون صنعها بأنفسهم.
الوطن مثير دومًا للمشاكل
ومن ثم انتقلوا للعرض التالي مباشرة٬ والذي قُدِم من قبل “ليسا” من سكوتلندا، وهي كاتبة٬ تعرض فيه مقتطفات من قصص قصيرة٬ لكاتبة أرجنتينة٬ تربت في شمال إنجلترا٬ تتحدث عن الوطن٬ والغربة٬ قائلة بأن الوطن مثير للمشاكل دومًا٬ لا يشعر المرء بشعور جيد كلما عاد إليه واكتشف أنه ابتعد عنه أكثر٬ حيث تغيّر هو عن الوطن٬ وتغيّر الوطن عليه٬ ولكنها تابعت قائلة بأنه لا يجب على المرء الابتعاد كثيرًا عن السلام وراحة البال٬ كما أنهت حديثها مقتبسة من الكاتبة الأرجنتينية “آرسا دايلي نورت” بأنه لا يجب علينا الاصطناع دومًا بأن كل شيء جيد وعلى ما يرام٬ على الرغم من أنه بشع٬ ومحزن٬ من الممكن أن نميل إلى إخفاء الحقائق لأن ذلك أمرًا مرعبًا بالتأكيد٬ ما من شخص يقول الحقيقة إلا وهو خائف.
قشرة الموز٬ وموت الآنسة القريب
شيري٬ سيدة أمريكية انتقلت من الكتابة عن المشاهير والأزياء٬ إلى الكتابة في الأمم المتحدة عن النساء في البلاد النامية والفقيرة٬ تروي “شيري” تجربة شخصية من حياتها في نيويورك٬ الولايات المتحدة الأمريكية٬ عندما كانت محررة لبرنامج تلفزيوني عن أساليب الحياة التي يتبعها المشاهير والأغنياء٬ حيث كانت تعيد كتابة النصوص الخاصة بحلقات البرنامج٬ في غرفة منعزلة تعزل الصوت الخارجي٬ حيث تعمل “شيري” فيها حتى منتصف الليل٬ تروي ليلتها تلك بمنتهى الهدوء٬ حتى أنهت عملها٬ وخرجت من المبنى لتجد أمامه قشرة موز على الأرض٬ لم تعرها اهتمامًا وعادت إلى منزلها٬ لتتلقى اتصالًا هاتفي في اليوم التالي من الشرطة يأمرها بالمجيء إلى المبنى فورًا٬ وعندما وصلت٬ وجدت الشرطة ولم تجد أي شيء في المبنى من معدات وأجهزة إلكترونية سوى قشرة الموز تلك٬ ليشتاط المدير غضبًا بسبب عدم ملاحظتها سرقة المكان وهي بداخله لتلاحظ فقط قشرة الموز٬ تابعت “شيري” ضاحكة بأنها بالفعل لم تسمع آي شيء ولم ترى أي شيء سوى قشرة الموز٬ نعم٬ “مرحبًا بك في نيويورك”.
قراءة الرباعيات باللغة العربية الفصحى من توماس الأمريكي
درس توماس اللغة العربية في الولايات المتحدة الأمريكية٬ ومن ثم انتقل للحياة في الإسكندرية للتحدث باللغة العربية مع ناطقيها٬ وعمل بالترجمة في مكتبة الإسكنرية٬ لينتقل في النهاية إلى العمل في إسطنبول٬ يتحدث توماس اللهجة المصرية والشامية بطلاقة٬ أحيانًا يعمد إلى إصابتك بالحيرة٬ حتى تنسى تمامًا أنه أمريكي٬ فكيف يجتمع أمريكي يتحدث اللهجات العربية بتلك الطلاقة!
كان توماس متمردًا ثوريًا على المسرح كما هو الحال مع الشباب العربي في المنطقة٬ واختار قراءة قصائد الشاعر العراقي “أحمد مطر” من قصيدة “دمعة على جثمان الحرية” فتابع الأبيات التالية بعربية سليمة للغاية؛
أنا لا أكتب الأشعار فالأشعار تكتبني،
أريد الصمت كي أحيا، ولكن الذي ألقاه ينطقني،
ولا ألقى سوى حزن، على حزن، على حزن،
أأكتب أنني حي على كفني؟
أأكتب أنني حر، وحتى الحرف يرسف بالعبودية؟
لقد شيعت فاتنة، تسمى في بلاد العرب تخريبا،
وإرهابا
وطعنا في القوانين الإلهية،
ولكن اسمها والله …،
لكن اسمها في الأصل حرية
ليتابع بعدها ترجمة شديدة الدقة للأبيات السابقة ترجمها بنفسه٬ كما اعتاد أن يفعل ويترجم لشعراء عرب كثيرين٬ فهو يطمح للمشاركة في مسابقات ترجمة الشعر العربي وتأديته كذلك أمام جمهور لا يعرف العربية.
الكلمات٬ دامية ولكنها ليست مخيفة
كان ذلك أداءًا مميزًا من “جيار” شاب تركي في عمر الثالثة والعشرين يدرس المالية٬ بدأ حديثه قائلًا بأن “الكلمات” تزعجه حاليًا٬ لأنها ببساطة لم تعد موجودة٬ لم يعد يستخدم الناس الكلمات كما كانوا من قبل٬ حيث تحولت كل حياتنا٬ مشاعرنا٬ وقصصنا إلى صور على فيس بوك وتويتر وإنستغرام٬ حيث يقول بأننا أصبحنا نتواصل بالصور بدلًا من الكلمات٬ كما أن استخدام الكلمات اختلف عن ذي قبل٬ فكانت كلمة “أحبك” ذات معنى ضخم وجذري في حياة الناس٬ إلا أنها الآن من أسهل ما يمكن أن يقال٬ إما للنفاق في العلاقات المجتمعية٬ أو لأنها لابد أن تقال للمرأة لكي تسعد٬ ليتابع أننا نعطي الآن حجم أكبر لكل ما هو غير مهم٬ ونهمل كل ما هو مهم بالفعل٬ فبعد عشرة سنوات٬ لن يهتم أحد بمنشوراتنا على الفيس بوك٬ أو بقصص الحب التي نحتفي بها على سناب شات أو إنستغرام٬ ليقول بأن حياتنا الواقعية هي ما تهم بالفعل وليس ما ننشره على تلك المواقع الافتراضية عن حياتنا الشخصية.
“لم أكن أعرف أن للعنصرية مكانًا٬ حتى نضجت ورأيتها بنفسي”
“ميليس”٬ فتاة تركية لأم لاتينية٬ اعتادت على كتابة الشعر منذ طفولتها٬ إلا أنها الآن رائدة في الأعمال التجارية٬ لم تنس موهبتها٬ وظلت تصقلها بالكتابة٬ أرادت في ذلك اليوم قراءة ما كتبته عن العنصرية٬ قالت: “لم أكن أعلم أن للعنصرية مكان بيننا٬ لم أعهد أمي تعلمني تلك الكلمة من الأساس٬ فلقد عهدتها تعلمني أنه ليس من شأني كون الناس على صواب أو خطأ٬ وليس من شأني مكان ولادتهم أيضًا٬ كما علمتني أنه لا دخل لي باختياراتهم الشخصية٬ و لا يمكنني الحكم عليهم على أساسها٬ ولا دخل لي في تغييرها٬ ولأن أمي لم تكن عنصرية٬ لم أكن أتخيل أن للعنصرية مكانًا بيننا من الأساس٬ ولهذا فأنا متأسفة لأنني اليوم أخبركم الحقيقة التي تعرفونها قبل أن تخرج كلماتها من فمي”
وتابعت ميليس قائلة “لقد سمعت ما يقوله الناس لبعضهم البعض٬ تلك الكلمات البغيضة التي كانت في زمان آخر من المحرمات والمكروهات٬ وأنا الآن أتعجب٬ هل علّمهم الشيطان تلك الكلمات!٬ ولكنني لا يهمني إن كنت أبيضًا أو أسود٬ أو حتى بني أو أزرق٬ لا أعتقد أنني سأحمل حتى مشاعر عنصرية تجاه أضعف الحيوانات على البسيطة٬ لقد علمتني أمي أن أعتمد على فطرتي في التعامل مع كل من أراه٬ وهذا ما سأفعله بالفعل٬ على الرغم من أنه لا مكان للفطرة في هذا العالم بعد الآن”.
لا تريد فعالية “إسطنبول تتحدث” للعنصرية أو الاضطهاد أن يحتلوا مكانًا فيها٬ ويحاول القائمون عليها بقدر الإمكان صنع المدينة الفاضلة الخاصة بهم٬ في مكان يتقبل الآخر بصدر رحب٬ ويسمح له بالحديث عن اختلافاته بطلاقة و حرية٬ بدون تصنيفه أو إطلاق الأحكام المسبقة عليه بدون سبب أو وجه حق٬ فيمكن لأي شخص أن يحتل المسرح لدقائق معدودة يعبر فيها عن كل ما يجول بخاطره٬ ليشارك من حوله٬ سواء في الدين أو الاجتماع أو السياسة أو حتى البوح الشخصي، هم من مختلف الثقافات والجنسيات و الأديان آفكاره و خواطره٬ التي ربما يتفقون عليها أو لا٬ إلا إنهم في النهاية يستمتعون بها٬ ويحاولون فهم المغزى من وراءها٬ ليكون الأساس هو أنهم كلهم مستمتعون باختلافاتهم.