يقول المنجّّمون أنّ السماء مجزَّأة إلى اثني عشر برجا من النجوم. ويقولون إنّ مصائر الإنسان رهينة البرج الذي تسبح في فلكه الشمس. ويقولون إنّ الشمس حين تكمل دورتها على كامل الأبراج، تبدأ دورتها الجديدة في الاتجاه المعاكس. ولكنّ المنجّمين يختلفون في أمر العصر الفلكيّ الذي نعيش فيه اليوم. هل انتهى عصر الحوت بالفعل؟ هل بدأت الدورة العكسية التي طال انتظارُها وهل دخلنا في عصر الأكواريوس (برج الدلو) أم أنّ التغيير الكبير لم يحدث بعد؟
يحاول المخرج البرازيليّ كليبير مندُنسا فيلهو عبر فيلمه الجديد آكواريوس Aquarius أن يخوض على طريقته في هذا السؤال.
لا يتعلّق الفيلمُ بالأبراج والنجوم كما خمّنتم. نحن في مدينة رسيفي Recife الساحليّة البرازيليّة. هناك تعيش كلارا Clara وحيدة بعد أن توفّي زوجها وغادر أبناؤها واحدا بعد آخر ليواجهوا أقدارهم. لكنّ كلارا التي تجاوزت الستين، لا تشعر بنهاية حياتها بعدُ. إنّها لا تزال هناك، تحافظ على لون الحياة في شقّتها البسيطة رفقة معينتها العجوز، وتحافظ على رشاقة جسدها بفضل إصرارها الدائم على السباحة رغم مخاوف السبّاح المنقذ الشابّ الذي بات صديقَها، وتحافظ على ضحكتها بفضل صديقاتها اللاّتي يؤنسن سهراتها أحيانا.
لا تشعر كلارا بنهاية حياتها بعد، ولكنّها لا تستطيع أن تمنع الذكريات من أن تتسرّب إلى روحها. تذكر شبابها حينما يعلن ابن أخيها أنه سيأتي بحبيبته القادمة من ريو دي جانييرو للعيش معه، تذكر أمومتها حين يطلُّ أطفالها الكبار بمشاغلهم ونصائحهم عديمة الفائدة، تذكر مهنتها حين تجيء الصحفيّة المبهورة لتجريَ تحقيقها مع كلارا الناقدة الموسيقيّة الشهيرة.
وحتّى الشقة لا تبخل عليها بالذكريات، وهي التي عرفت فيها أجمل أيّامِها وأمرَّها. وحين جاءها السيّد بونفيم Bonfim وابنُه لإقناعها بالتخلّي عن الشقّة لفائدة مقاولاته التي تستعدّ لمشروع عقّاريّ جديد، لم تكن كلارا مستعدّة للتفاوض. حاول الإبنُ جيرالدو بكلّ الوسائل لفت انتباهها فلم يفلح. ولم يبدُ أنّ شهائده الأمريكيّة وحماسة الشباب المتوقّدة فيه، وطموحه، كانت قادرة على إقناعها.
وإذا بكلارا النّزيلة الأخيرة في مبنى أكواريوس (بعد أن بيعت كلّ شققه بالفعل)، تواجه أصنافا غريبة من القمع والتحرّش للمغادرة. وبدا أن استماتتها في مقاومة هذا المدّ الرأسماليّ الجارف، كان أشبه باستماتتها حين تغلّبت على سرطان الثدي منذ ثلاثين سنة خلت.
اُختير فيلم آكواريوس ضمن النخبة الرسميّة لمهرجان كانّ (Cannes) السينمائيّ لهذا العام. ورغم أنّه لم يظفر بجائزة ما، فقد ترك بصمته في المهرجان، خصوصا عندما وقف فريق العمل قبيل عرض الفيلم حاملين لافتات مساندة للرئيسة البرازيليّة ديلما روسيف Dilma Rousseff، ومتّهمين الحملة ضدّها بانقلاب على السلطة الشرعية، وعلى أصوات الناخبين. والفيلمُ نفسه لا يخلو من تلميحات بشأن الحالة السياسيّة الجديدة في البلاد، بعض المتحمّسين ذهب إلى أنّ كلارا تجلٍّ فنيّ لديلما، وأنّ شركة بونفيم ليست إلاّ شكلا مجازيّا للوبيّات السياسيّة التي تسيّرها عصابات المال والأعمال.
طبعا هذه مقاربة مفرطة في الحماس، وهو ما أكّده المخرجُ مندُنسا فيلهو Kleber Mendonça Filho. فقد شرع في كتابة القصّة قبل ظهور أزمة ديلما روسيف بالفعل. وشخصيّة كلارا لا يمكن أن تكون ظلّا لأية شخصيّة أخرى، خصوصا بعد الأداء الاستثنائيّ لسونيا براغا Sonia Braga.
لقد كان حضور سونيا طاغيا في الفيلم. حتّى وهي تغادر إطار المشهد، تكاد تشتمّ رائحتها فيه. وبدا كأنّ مندُنسا لا يجعل كلارا محورا للقصّة فحسب، بل للفيلم أيضا. ولقد أثّرت شخصيّة الممثّلة سونيا براغا كثيرا في تشكيل هذا الانطباع. فهي نجمة سينمائية كبيرة في البرازيل، ولا يخفي مندُنسا الناقدُ السينمائيّ سروره بالظفر بفرصة التعامل معها بعد أن كان يكتفي بالكتابة عن أعمالها فيما ما مضى.
وعبر سونيا براغا، بدت كلارا في إقبالها البهيج على الحياة، في حالة حرب دائمة: باردة، واثقة وقويّة، تبتسم لحلفائها وتنظر شزرا لأعدائها، ولا ينجح الأوغاد في إحباطها. كلارا التي حاربت السرطان وانتصرت، لاتزال تحمل على صدرها أثر انتصارها، ولا تزال تستمدّ من هذا الأثر قوّة شخصيتها وقدرتها على التجاوز ولو سبّب لها ذلك المتاعب. لقد كان جميلا كيف لم ينتقص غياب أحد ثدييها من أنوثتها، بل زاد من قوّتها، ولقد كان مدهشا كيف عبّرت براغا عن ذلك.
إنّ معركة كلارا مع السرطان ليست معركة جانبيّة في الفيلم بل هي معركة محوريّة امتدّت طويلا في الزمن. لذلك كان نسق الفيلم بطيئا. أراد مندُنسا للمَشاهد أن تأخذ وقتها مثلما ينبغي، وأن يعيش المتفرّجُ في ذاكرة البطلة وقتا لابأس به قبل أن ينتقل إلى حاضر السرد.
كان مهمّا بالنسبة له أن نرى الماضي الذي تغيّر، أن نلحظ أثر التغيير في وجوه من ظلوا أحياء، وأن نستمع إلى من أصبحوا فيما بعدُ ألبوم صور لا أكثر. لقد كان وجودهم في ما مضى حاسما في المعركة الأولى، وكان مهمّا لكلارا أن تستحضرهم في معركتها ضدّ السرطان الجديد الذي يهدّد بيتها. إنّ المقاربة بين السرطان الذي نخر جسد كلارا وسرطان الشركة التي تريد أن تقوّض معالم حياتها، جليّ إلى كبير، وبلغ ذروته في مشهد مداهمة الشقق المجاورة المثير.
ولقد استغلّ مندُنسا هذه المقاربة بشكل عبقريّ ليصنع ازدواجيّة طريفة على مستوى المعنى. وبين جسد كلارا وبيتها، بين الزمن السعيد القديم، وزمن التغيرات المخيفة، يراوح المخرج بين أثرين للتغيير. فأمّا الأول، فتعبّر عنه كلارا في علاقتها بالجيل الجديد الذي ينمو من حولها، وفي صراعها من أجل الحفاظ على عناصر حياتها.
لم يكن سهلا على هذه المرأة المثقفة البرجوازية أن تذعن لضرورة أن تشرح لأبنائها، ولأعدائها، بل ولعشيق الليلة، أنّ الستين لا تعني موتها، أنّ الحياة لا تزال حقّا مكفولا لها. لم يكن سهلا عليها أن تتجاهل ذلك الإحساس الممضّ بأنّ الآخرين ينظرون إليها كعجوز متصابية أو مخرّفة ترفض فسح المجال إلى الجيل الجديد.
تنتمي كلارا إلى جيل الستينات، ذلك الجيل الذي شبّ على ثورة أيار 1968، وموجة الهيبي والتحرّر الجنسي. وهو الجيل الذي يعتبرُ عصرَه بأنه عصر الآكواريوس The age of Aquarius، حتّى باتت العبارة مرتبطة بثقافة الهيبي بشكل كبير، كما عبّرت عن ذلك الأغنية الخالدة “آكواريوس/اتركوا أشعة الشمس تدخل” Aquarius Let the sunshine in. لكنّ سليلة عصر الآكواريوس لا تؤمن أنّ الإنسان يخضع للتغيير الذي يحدّده القمر وكوكب المشتري. إنّ التغيير لا يحدث إلاّ حينما ترفع قبضتها في الفضاء محتجة، وحينما تقول لا في وجه السرطان بأي شكل.
أعتقد أنّ مندُنسا عبّر عن هذا الموقف الوجوديّ من خلال تلك اللوحة المثيرة التي هي كلّ ما يثير الانتباه في شقة كلارا : معلّقة لفيلم “باري ليندون” Barry Lyndon للمخرج الكبير ستانلي كيوبرك. إنّ سرّ وجود هذه المعلّقة يكمن في المقابلة الواضحة بين مصير باري ليندون (أو ربّما زوجته التي تظهر بشكل أوضح في المعلقة) ومصير كلارا. وفيما كان مصير باري ليندون طيلة حياته رهين الصدف كأنّ أبراج السماء تلهو به، بدا أنّ كلارا تتحدّى هذه الأبراج بعنادها. إنّ انتماء كلارا لعصر الآكواريوس كان محض اختيار، وبذات الإرادة الكامنة أيضا، قرّرت كلارا الوقوف في وجه عصر ما بعد الأكواريوس.
وأما الأثر الثاني للتغيير، فعبّر عنه البيتُ نفسه، لا من خلال محنته فحسب، وإنما من خلال رمزيّته كفضاء لم يتغيّر وسط مدينة كاملة تتغيّر. كأنّه آخر معاقل المقاومة، يحاول البيت الوقوف أمام مدّ التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالبرازيل. ذات الشاطئ الذي كانت كلارا تذهب إليه ليلا رفقة أصدقائها، صار خطيرا وفارغا في وضح النهار. ذات الشاطئ نفسه الذي تفخر به مدينة رسيفي كلها، صار مقسّما إلى شاطئ للميسورين وشاطئ شعبيّ للآخرين، لا يفصل بينهما سوى قنال صرف مياه قذرة لأحد النزل الفاخرة. ذات الجيران الذين كانوا هنا، اختفوا في غياهب المدينة، تاركين بيوتهم لشركات التهجير ورياح التغيير. ذات العشّاق بوسامتهم الآسرة، ولكنّهم صاروا جبناء، ودغمائيّين. لقد كان التغيير الذي يطرأ على المدينة خفيّا وقاتلا، مثل السرطان تماما. ومثلما كان البيت مجازا عن المدينة، فقد كانت رسيفي مجازا عن البرازيل.
تعبّر فكرة عصر الآكواريوس عن وعي الإنسان بضآلة قدرته أمام اتساع الكون والزمن، وأنّه في نهاية الأمر يخضع لتأثير التغييرات الميكانيكيّة والماديّة في حركة التاريخ الذي يعيشه ويلاحظه. لكنّ مندُنسا فيلهو يحاول أن يحمّل التعبيرة الهيبيّة الدارجة ثقلا وجوديا طريفا بإعلانه أنّ الإنسان هو الذي يصنع تغييره وهو ما يُكسب حياتَه معنى.
وبهذا التوجّه يصبح الفيلم دعوة أخرى للوقوف بوجه سرطانات التغيير، تلك القوى الخفيّة التي تعمل على التحكم في مصائرنا رغما عن أنوفنا، من خلف نظم وميكانيزمات ضخمة ومعقدة. تلك القوى التي تقسّم الرمل والبحر إلى شاطئ للأثرياء وآخر للفقراء.
ولئن أحببتُ هذا النفس الثوريّ الصّامت والضّمني في الفيلم، فإنني لم أرتح كثيرا للمقاربة التي اعتمد عليها. هناك أمام باب الشقة المناضلة، يتواجه جيلان مختلفان، كلارا بنت جيل “عصر الأكواريوس” المتحرّر والمتمرّد القديم، وجيرالدو ابن البرازيل الجديدة، سليل الشهائد الجامعية الأمريكية، وثقافة اليوتيوب، وكتب “كيف تنجح في سبعة أيام”. وبقدر ماكانت كلارا عنيفة في المقابلة، كان جيرالدو لبقا رغم أنّ أفعاله لا تشبهه البتّة، فهو على كل حال الشخصيّةُ المعرقلة، أو الوغدُ في القصة. ولكن، هل إنّ جيرالدو وغد حقا؟ لقد كان جيرالدو يبحث أن يثبت ذاته في مجال عمله، أن يثبت أن الأموال التي خسرها والده في دراسته بالخارج لم تذهب عبثا، وكان “آكواريوس” مشروعا عقّاريا مهمّا بالنسبة لشاب مثله.
أتحدث من منظور رمزيّ بحت هنا، فقد كان عناد كلارا أشبه بتشبث شخص قديم بالماضي بالفعل، ولم يكن من قيمة حقيقية للمبنى سوى ذكرياتها الشخصيّة وربما بعض من الرمزية الراجعة لبنائه في اربعينات القرن الماضي. ولئن المخرج لم يتوقف كثيرا عند قيمة البناء، ولم يبرز ذكريات كلارا إلا عند بداية الفيلم، وعبر صور فوتوغرافية لم توحي بالكثير، فلم يبد من موقف كلارا إلا ما يشبه تشبّثا بالماضي الذي لا يعود، معاندةً عبثيّة للزمن. إنّها تعيش حياتها بشكل أقرب إلى الازدواجية في النهاية : تسهر، تواعد، تسبح، تستمتع بالموسيقى وبالحياة، وتصل الرحم والأصدقاء، ولكنّها في الوقت ذاته، تستغرق في التذكر، وفي العودة إلى الماضي.
أجد المفارقة بشكل واضح في علاقتها بالموسيقى. تقول كلارا إنها لا تستعمل الفونوغراف فحسب، وإنما لا تجد حرجا في مسايرة التطوّر التكنولوجيّ، وهي تستمتع بالموسيقى سواء على شكل MP3 أو أقراص فونوغراف. لكنّ كلارا لم تعد ناقدة كما يبدو، ولم تعد تعمل، وإنما تكتفي بالاستمتاع بتقاعدها. كأنّما العمل في الحقل الثقافيّ لا يحمل بين طيّاته شكلا من الالتزام الثوريّ الذي يتجاوز نظم التقاعد. لم تكن كلارا غير منتجة فحسب، وإنما فيما يبدو غير مهتمة كثيرا بالحديث عن الموسيقى، وما كان مهمّا في محاورتها للصحفية في بداية الفيلم، قصة أخرى من الذاكرة، عن قصاصة صحفية عن جون لينون كان ربّما آخر مقابلاته الصحفية قبيل اغتياله سنة 1980.
تناضل كلارا من أجل حقّها في الحياة، ولكنّها في الوقت نفسه ترفض استكمال أدوارها كلّها. تحاول معاندة الزمن الذي لا يعاند بينما تترك مقعدها الذي أعدّه لها شاغرا. من المؤكد أنه لا أحد يغلب الزمن، ولئن كانت اليوم قادرة على الرقص، فغدا ستصبح عاجزة بالفعل. ومن المؤكد أن الحياة لا تنتهي بالشيخوخة أو التقاعد، ومن المؤكد أيضا أنّ هذا العمرَ له سحره وقيمته، وله متعُه الصغيرة التي تظهر بمجرّد قبولنا بالتغيير. لقد بدا مندُنسا فيلهو في لحظة ما، كأنّه يخوض حربا جانبية مع جيل الحاضر الذي لا يفهمه، وبدت كلارا بشكل ما (بعيدا عن عدوانه طبعا)، كأنّها تحرم جيرالدو من حقّه في أن يصنع ذكريات كتلك التي صنعتها. أليس تعاقب الحياة عبر الأجيال سرّ استمرارها؟
الفيلم : أكواريوس أو برج الدلو Aquarius
المدّة : 142 دقيقة
النوع: دراما
المخرج: كليبير مندُنسا فيلهو Kleber Mendonça Filho
البطولة: سونيا براغا Sonia Braga