جاء قرار العاهل المغربي الملك محمد السادس بتعيين حسن الحامي سفيراً لدى إيران بعد قطيعة تسع سنوات تقريبا، ليفتح الباب على مصراعيه أمام ما يحمله هذه القرار من دلائل ومؤشرات، تصب جميعها في الكشف عن الملامح المتغيرة لخارطة التحالفات الجديدة بالمنطقة في ظل التطورات والصراعات التي تشهدها في السنوات الأخيرة.
خطوة مهمة نحو استعادة العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وإيران، خاصة وأنها لم تكن مفاجأة في ظل سلسلة من التفاهمات بين البلدين في مقدمتها ملف الصحراء الغربية، هكذا يراها البعض، بينما يعتبرها آخرون شرخا جديدا في العلاقات المغربية الخليجية التي تحيا أزهى فترات عصورها في ظل التقارب الشديد بين الرؤى وتطابق التوجهات حيال عدد من الملفات.
البعض يقلل من احتمالات محاولة إيران بسط نفوذها الشيعي من وراء عودة علاقتها بالمغرب، في مقابل من يشير إلى فتح باب التكهنات حول مستقبل العلاقات بين الرباط والرياض، فهل باتت العلاقات السعودية المغربية على المحك؟ أم أن سقف التقارب الإيراني المغربي لا يتعدى مجرد التمثيل الدبلوماسي فحسب كما نوه البعض؟
سبع سنوات من القطيعة
تعاني أجواء العلاقات المغربية الإيرانية من التوتر المشوب بالحذر والترقب منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1978، في ظل التباين الواضح بين توجهات البلدين في كثير من الملفات الإقليمية والدولية، لكن بنظرة سريعة على طبيعة هذه العلاقات قبيل الثورة يلاحظ أنها وصلت إلى أعلى درجات التوافق السياسي بما يعنيه من تمثيل دبلوماسي ارتقى لحدود التنسيق مع المخابرات الإيرانية (السافاك) أحيانا، مع استحضار البعد الشخصي في العلاقة بين الملك الراحل الحسن الثاني وشاه إيران.
ثم جاء نظام الحكم الجديد من خلال الثورة الإسلامية لتقابله المغرب بالرفض، لتدخل العلاقات بين البلدين مرحلة من التوتر وصل ذروته حين منح المغرب حق اللجوء السياسي لشاه إيران المخلوع محمد رضا بهلوي، واستمرت العلاقات بين البلدين أسيرة موجات المد والجذر مابين الحين والأخر حتى عام 2009.
في فبراير 2009 وجه ملك المغرب رسالة إلى نظيره البحريني يؤكد فيها تضامنه مع البحرين في مواجهة التشيع ومحاولة التغلغل الإيراني في الشئون الداخلية البحرينية، وهو ما اعتبرته طهران خروجا عن النص، خاصة وأن الرسالة كانت تتضمن بعض العبارات التي وصفها النظام الإيراني بـ”المسيئة”، ما دفعه لاستدعاء مندوب المغرب لديها للاحتجاج، وعلى الفور ردت المغرب بالمثل، لتدخل العلاقات بين البلدين نفقا مظلما من القطيعة والخصام.
وفي نوفمبر 2009، وعلى هامش القمة الاقتصادية والاجتماعية الإسلامية التي عقدت في تركيا، داعب الرئيس الإيراني حينها احمدي نجاد وزير الدولة المغربي آنذاك محمد اليازغي بقوله: “نحن نحبكم نحبكم نحبكم”، فأجابه الوزير حينها: “نحن أيضًا نحبكم، لكن وجهتم لنا إهانة باستدعاء القائم بالأعمال المغربي في طهران، في حين لم تفعلوا الشيء ذاته مع 40 دولة عبرت عن تضامنها مع البحرين”، وبالرغم من هذا العتاب السياسي الضمني إلا أن العلاقات بين البلدين ظلت حبيسة نفقها المظلم حتى نهاية العام الماضي.
في ديسمبر 2015 وبعد ست سنوات من القطيعة الدبلوماسية بين البلدين، عينت إيران محمد تقي مؤيد سفيرًا لها في المغرب، في محاولة لفتح القنوات الدبلوماسية بين الجانبين مجددا، والتي كادت أن تغلق للأبد إثر تقرير صحفي نشرته وكالة أنباء فارس القريبة من النظام الإيراني والذي أساء للمغرب، تحت عنوان “المغرب أسير السياسات الصهيونية”، وهاجم التقرير المغرب وساسته في معالجة الملفات السياسية.
أحمدي نجاد لوزير الدولة المغربي محمد اليازغي: “نحن نحبكم نحبكم نحبكم”، فأجابه الوزير: “نحن أيضًا نحبكم”
وبعد ما يقرب من عشرة أشهر تقريبا على تعيين إيران سفيرًا لها بالمغرب، هاهي المملكة تخرج عن صمتها لتعلن اختيار حسن حامي ليكون السفير المغربي الجديد لدى طهران.
السفير المغربي الجديد لدى طهران، حسن حامي، حاصل على دكتوراه في العلوم السياسية، وبدأ عمله في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية المغربية سنة 1986، وشغل منصب نائب رئيس البعثة في مالي والنرويج وكوريا الجنوبية، كما كان سفيرًا للمغرب في دولة أذربيجان، وبين عامي 1995 و1999، شغل منصب رئيس قسم الدراسات التقسيم والتنسيق والتطوير قبل أن يصبح رئيسًا لقسم اللغة العربية والمنظمات الإسلامية، وهو المنصب الذي غادره في عام 2008 بعد تعيينه سفيرًا للمغرب في أذربيجان.
حادثة حرق السفارة السعودية بطهران
خارطة التحالفات الجديدة
لا يمكن الحديث عن التقارب المغربي الإيراني بمعزل عن التطورات السياسية الأخيرة والتي أفرزت تحالفات جديدة في المنطقة، حيث أن هذا التقارب يندرج في إطار حسابات “براجماتية” فرضها التقارب الإيراني الأميركي الأوروبي، ومن ثم تسعى الرباط إلى الاستفادة من القوة الإيرانية في ظل الضعف العربي الحالي.
وقد رأت الخارجية المغربية وملكها أن تعاظم الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط يستوجب إعادة النظر في العلاقات معها، خاصة وأن مبادرات استئناف النشاط الدبلوماسي من قبل الطرف الإيراني متواصلة، ما يجعل تجاهلها في الوقت الراهن خطأ استراتيجيا، فكيف يمكن تجاهل قوة بارزة بات الغرب نفسه يفاوضها حول مشروعها النووي وأضحت لاعبا بارزا في الساحة الإقليمي؟
وبالرغم من مخاوف التشيع ومساعي بسط النفوذ الصفوي على المغرب العربي من خلال عودة العلاقات بين طهران والرباط، إلا أن خبراء أكدوا أن التقارب بين البلدين سيشمل الجانب الاقتصادي بشكل أساسي، مستبعدين التعاون الأمني بسبب الحساسية التي يثيرها المذهب الشيعي في المغرب، بيد أن الدبلوماسية المغربية ستظل حذرة في التعامل السياسي مع إيران رغم التطبيع الحالي، لاعتبارات سياسية وإستراتيجية ترتبط بتحالفات المغرب مع دول المنطقة، إضافة إلى أن الشراكة الإستراتيجية التي تجمع المغرب بدول مجلس التعاون الخليجي تجعل من المستبعد أن تمضي الرباط بعيدا في تعاونها مع طهران، ما لم تنقص درجة الاحتقان بينها وبين تلك الدول
طهران والبحث عن موطئ قدم
دوافع طهران لعودة العلاقات الدبلوماسية مع المغرب عديدة ومتباينة، فإيران دولة براجماتية في المقام الأول، مصالحها الخاصة هي الترمومتر الذي يحدد درجة حرارة علاقتها بالدول الأخرى، ومن ثم فسعيها لاستئناف علاقتها مع الرباط يأتي في إطار البحث عن موطئ قدم لها على البحر المتوسط إلى جانب موطئ قدمها المهدد في سوريا.
فبعد توتر العلاقات مع الجزائر في الآونة الأخيرة، فضلا عن قطع موريتانيا للعلاقات معها تضامنا مع السعودية على خلفية اقتحام سفارة بلاد الحرمين في طهران، إضافة إلى صعوبة التواجد في مصر وليبيا، لم يعد أمام إيران سوى المغرب الذي يمثل البوابة الغربية للعالم العربي والإسلامي.
وبنظرة مدققة يلاحظ أن هناك مصالح إيرانية معقدة ومتعددة مع المغرب دفعتها إلى الحرص على استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة، والوصول إلى تسوية تامة للتفاوض حول الملفات العالقة بين البلدين وفي مقدمتها الدعم الإيراني لجبهة البوليساريو، حيث صفقة تبادلية بين الجانبين، ترفع إيران يدها عن دعم البوليساريو في مقابل إعادة العلاقات الدبلوماسية، إضافة إلى إمكانية أن تكون الرباط هي بوابة طهران نحو الدخول إلى القارة العجوز أوروبا.
بعد توتر العلاقات مع الجزائر في الآونة الأخيرة، فضلا عن قطع موريتانيا للعلاقات معها تضامنا مع السعودية على خلفية اقتحام سفارة بلاد الحرمين في طهران، إضافة إلى صعوبة التواجد في مصر وليبيا، لم يعد أمام إيران سوى المغرب الذي يمثل البوابة الغربية للعالم العربي والإسلامي.
ومن ثم يمكن القول أن العلاقات المغربية الإيرانية ستتمحور بجانب البعد الاقتصادي حول دعم سبل التعاون الثقافي بين البلدين، مع استبعاد دخول طهران في خصومات طائفية جديدة وإشعال صراعات في المغرب من خلال دعم الشيعة أو السعي لنشر المذهب الصفوي، لاسيما وأن المغرب تحيا حالة من الاستقرار الديني وفق المذهب السني المالكي.
التقارب مع أوروبا أبرز دوافع طهران من عودة علاقتها بالمغرب وفي الصورة رئيس البرلمان الإيراني ونظيره الأوروبي
العلاقات المغربية الخليجية.. إلى أين؟
العديد من الأصوات رجحت أن هذه الخطوة ستخصم من رصيد المغرب لدى دول مجلس التعاون الخليجي، لاسيما في ظل اتساع الهوة بين الرياض وطهران في الفترة الأخيرة بسبب ملفي اليمن وسوريا، وهو ما يمكن أن تفسره المملكة العربية السعودية كونه تغريدا مغربيا منفردا خارج السرب الخليجي، بينما في المقابل هناك من يرى أن هذه الخطوة لن يكون لها أي أثر سلبي على التكتل المغربي الخليجي، على اعتبار أنها مجرد تمثيل دبلوماسي لا أكثر، وأن الرباط ستضع في الحسبان مصالحها الخليجية في توجهاتها الجديدة مع إيران بعد استعادة علاقتها الدبلوماسية.
ففي الوقت الذي تعول فيه السعودية على المغرب لتكون داعمها الأول في حربها ضد إيران في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا بعد توتر العلاقات مع مصر بسبب تصويتها لصالح القرار الروسي بمجلس الأمن، وصعوبة الوضع في ليبيا، والخلاف مع الجزائر جرّاء تباين الرؤى حيال الملف السوري، إذ بالحليف الجديد يدير ظهره للرياض ليمد يده للخصم اللدود مستعيدا معه نشاطه الدبلوماسي بصورة كاملة.
محمد محسن أبو النور، الباحث المختص في الشؤون الإيرانية، أشار إلى أن المغرب عضو في التحالف الإسلامي الذي أنشأته السعودية، كما أنه عضو في تحالف دعم الشرعية في اليمن ضد الحوثيين المدعومين من إيران، وقرار العاهل المغربي بإعادة سفير بلاده إلى طهران، يعد حسماً إستراتيجياً من الرصيد الخليجي في الصراع السعودي الإيراني.
في الوقت الذي تعول فيه السعودية على المغرب لتكون داعمها الأول في حربها ضد إيران في منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا إذ بالحليف الجديد يدير ظهره للرياض ليمد يده للخصم اللدود مستعيدا معه نشاطه الدبلوماسي بصورة كاملة.
أبو النور في تصريحات له تحدث عن دوافع إقدام المغرب على هذه الخطوة، ملفتا أن النظام السياسي في المغرب ليس ملكية مطلقة مثل دول مجلس التعاون الخليجي ولكنه ملكية شبه دستورية، ولديه حكومة منتخبة وأقرب نموذج خليجي إليه هو النموذج الكويتي. كما أن الملك المغربي، برأيه، يتسم بالواقعية السياسية والبراغماتية في التعامل مع الأزمات المختلفة، والمغرب لا يرغب في أن يدخل مع طهران في صراع داخل القارة الأفريقية التي بدأ النفوذ الإيراني يتوسع فيها، ما سيضرّ بمصالحه، مع الانتباه إلى أن منطقة غرب أفريقيا تشكّل الحديقة الخلفية للمغرب، إذ لديه مصالح اقتصادية وتجارية ضخمة هنالك.
الباحث المختص في الشؤون الإيرانية أكد أن عودة العلاقات المغربية الإيرانية لا تصب في صالح التحالف بين الرياض والرباط، إلا أنه في الوقت نفسه استبعد أن تقدم السعودية على أي خطوة تصعيديه ضد المغرب، كأن توقف المساعدات والاستثمارات المتواجدة هناك، فالسعوديون لا يرغبون في المواجهة على أكثر من جبهة في ظل توتر العلاقات مؤخراً مع مصر، وانخراط الرياض في الصراع اليمني والسوري والعراقي، ومضيفاً أن السعودية ستمرر تلك الخطوة وتغض الطرف عنها على الأقل في الفترة الحالية.
واختتم الباحث حديثه مستنكرا ما تردد بشأن نية المغرب القيام بدور الوسيط لتقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، بينما يمكن أن تلعب الرباط دورًا في دعم العلاقات الأوروبية الإيرانية، ملفتا أن الحديث عن تأثر سياسات المغرب الخارجية تجاه الخليج بهذه الخطوة أمر يتنافى تماما مع الواقع، فالرباط لا يمكنها بأي حال من الأحوال الانسحاب من التحالفات التي تربطها مع دول الخليج لاسيما السعودية.
مما سبق يتضح أن الخطوة المغربية الأخيرة لاشك وأنها ستلقي بظلالها القاتمة على أجواء العلاقات بين الرباط والرياض، إلا أن الحديث عن أزمة تلوح في الأفق بين المغرب والسعودية مسألة فيها نظر، فإعادة تعيين سفير في طهران جاء ضمن قرار شمل تعيين مجموعة من السفراء لعدد من الدول، وليس قراراً خاصاً ينظر إليه كتحول سياسي، بل كإجراء دبلوماسي روتيني، كما أن الرياض لا يمكنها في الوقت نفسه أن توسع من مواجهاتها في أكثر من جبهة، لاسيما وأن المغرب يُعدّ الملاذ الأساسي لملوك السعودية والبلد الأكثر أماناً واطمئناناً لقضاء عطلهم سواء للملك سلمان ومن قبله للملك عبد الله وأخيه ولي العهد الراحل الأمير سلطان.